تأمــــــلات فلسية .. بقلم د. عمر بادي
7 September, 2009
مقتطفات من كتابي: القيام بالدفرة
(مجموعة ذكريات وخواطر طريفة)
( الكتاب الثاني)- 2009
ربما يخطر ببال القارئ العزيز أن العنوان أعلاه به غلطة مطبعية وليس صحيحاً، والصواب هو أن يكون (تأملات فلسفية)... حقيقة هي تأملات فلسية ، والفلس دائماً يخلق الفلاسفة ، وأيضاً يخلق المجانين (بالكوم) ! هذه الكلمة ذات الثلاث أحرف فقط (فلس) لها تعريفات ومعانٍ عدة ولها قوة أيضاً تهد الأقوياء الأشداء وتحيلهم إلى أشباح مطأطئي الرؤوس، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
دعونا نلعب معاً لعبة الكلمات المتقاطعة ، وأظنكم كلكم تلعبونها أحياناً أو دائماً، فالكلمات المتقاطعة تقود إلى الإدمان، إدمان من يلعبها لها، فأنا أعرف أشخاصاً يبدأون قراءة الصحيفة بحل كلماتها المتقاطعة ، وآخرين يصيرون في قلق وبحث وسؤال حتى يعرفون ما صعب عليهم من كلمات متقاطعة. لكن، وتبقى للكلمات المتقاطعة ميزة عظيمة وهي إثراء القارئ بذخيرة من المعلومات اللغوية والعامة ، كما لها ميزة تمضية الوقت في المفيد والحلال.
كلمة (فلس) مبعثرة تكون كالآتي: (فسل) و(سلف) و(سفل)، ولنأخذ هذه الكلمات الأربع واحدة واحدة.
(الفلس) أو الإفلاس هو إنعدام السيولة النقدية، وهو غير الفقر، ومنه إشهار الإفلاس والذي تلجأ إليه الشركات لتتجنب دفع الضرائب وسداد الشيكات والديون في حينها فيكون الدفع بالتقسيط المريح أو بالحجز على الممتلكات أو على الشخص المطلوب نفسه إلى أن يسدد ما يقدر عليه بموجب تسوية لحالة النزاع. هذه الحالة من الفلس ينطبق عليها المثل الذي يقول: (التاجر كان فلّس بيقلّب دفاتره). الفلس يكون كذلك عند وضع كل السيولة المدخرة في مشروع بناء أو إستثمار ويبقى الشخص عائشاً بالقليل، ومثل هذا الشخص كثيرون وغالبية التجار الصغار من هذا النوع وإلا فلن يكبروا، وهذا النوع من الفلس نوع طيب وهو (فلس عافية) يثمر خيراً، مثله في ذلك كمثل (مرض العافية) عند النساء وهو الوحم الذي يثمر خيراً أيضاً. أما فلس العدم فهو الأشد إيلاماً وإحباطاً وإظلاماً للحياة وهو الذي يذل العزيز ويعل العائل، ولا منج منه غير الصبر والسعي والدعاء.
(الفسل) هو البخل، ويكون نتيجة للفلس، وهو إيثار النفس بالموجود عن الغير، وهو ضد الكرم والجود بالموجود، كحاتم الطائي الذي ذبح لضيوفه الشاة الوحيدة عنده والتي تسقيه وأبناءه اللبن، وأين نحن من حاتم وزمان حاتم ! إن مستلزمات الحياة العصرية وتعقيداتها من مأكل ومشرب وترحيل وتعليم وعلاج وسكن ولبس ومجاملات. كلها تجعل الفرد يعيد النظر قبل أن يقدم على أي مكرمة ، خاصة عندما يكون الدخل محدوداً، وهكذا يُجبر الفرد على الفسل.
(السلف) هو الإستدانة، وهو تغطية النفقات حتى يستقيم ميزان المدفوعات، وليس المعنى السلف الصالح ، إنما الإستلاف الحسن من الآخرين أو القرض الحسن من البنوك والهيئات الخاصة، أو بتكوين صندوق أو جمعية (ختّة) وأخذ الصرفة الأولى ، أو أخذ سلفية بنكية ربحية إذا وجدت الضمانات. الإستدانة من الأفراد صارت في حكم العدم نسبة لعدم إرجاع المستدان لصاحبه لضيق ذات يد المستدين.
هكذا برز مصطلح (الإعسار) الذي لم نكن نعرفه من قبل بهذا القدر من التعميم. أما (السِلف) بكسر السين فتعنى أخ زوج المرأة كما هو مذكور في المعاجم.
(السفل) أو السفالة تكون في حالة عدم إرجاع المال المستدان حتى في حالة المقدرة، وهذا طبع خسيس في أناس سفلة، فالسفالة هي الدناءة، والسفلة أناس ينسون أن :(( من فرّج عن مؤمن كربةً فرّج الله عنه كربةً من كربات يوم القيامة)) كما يقول حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم. الفرق بين الإستدانة (الدَين) وطلب الإعانة (الشحتة) يكون في أن الأولى مردودة، بينما الثانية موهوبة، لكن السفلة دائماً يحولون الإستدانة إلى إعانة! بقى أن أذكر أن الشخص المنسوب إلى السفل يكون سفلياً، والسُفلى (بضم السين) له معنى آخر يعرفه الذين يتعاملون مع نوع سافل من الشياطين يجعلونهم يكفرون بالله ويأتون المنكر حتى يرضوا عنهم ويخدموهم ويأتوا لهم بالأموال بعد أن يسلبوها من الغير. للسافل أيضاً معنى آخر وهو في الاتجاه الجغرافي عكس الصعيد.
أخيراً عزيزي القارئ ، الفلس ( خشم بيوت) ومن المؤكد سوف تكون مفلساً، فهل فلسك فلس عافية أم فلس عدم؟
صحيفة (الخرطوم)- 19/11/2002م