تأمــلات فـي الهــوية 9 … بقلم: د. أحمد الياس حسين

 


 

 


ahmed.elyas@gmail.com     

البحث عن الجذور   
البحث عن الانتماء يعني البحث عن الأصول والجذور ، هل لنا جذور على تراب الأرض التي نعيش عليها؟ وما هي؟  ويقودنا ذلك إلى التعرف على من عاش على تراب هذه الأرض التي نعيش عليها عبر العصور؟ وما هي أصولهم؟ وهل هنالك صلة تربطنا بهم ؟ وهل تمتد جذورنا إليهم؟ أرى إنه لو استطعنا الاجابة على مثل هذه الأسئلة لتمكنا من الوصول إلى جذورنا والتعرف على أصولنا وتأصيل هويتنا بغض النظر عن اسمها.   

قام الكاتب اللأمريكي المشهور ألكس هالي ذو الأصول الافريقية – في كتابه المشهور الجذور -بالبحث عن جذور الأمريكيين ذوي الأصول الأفريقية بدايةً من جيله وراجعاً إلى الوراء في أمريكا ثم في أفريقيا إلي أن ربط جيله بجذوره الأفريقية. فكان منهج بحثه من الحاضر إلى الماضي، لأن الماضي كان غائباً عنه وغير معروف لديه.

أما نحن فسيكون سبيلنا في البحث بعكس ما قام به ألكس هالي ، سنبدأ بحثنا من الماضي قادمين ألى الحاضر لأن الماضي ماثلٌ أمامنا، لنرى هل لنا صلة بذلك الماضي؟ وهل ننتمي إليه؟ فإذا وجدنا ان هنالك صلة بيننا وبين ذلك الماضي، وأن لنا صلة بالمواطنين الذين عاشوا منذ آلاف السنين على تراب هذه الأرض التي نعيش عليها اليوم، وأننا ننتمي إليهم لَعَرِفنا جذورنا وأصّلنا هويتنا. وإذا وجدنا أننا لا ننتمي إليهم فيعني ذلك أننا لا زلنا لا منتمين وعلينا القيام بالمزيد من عمليات البحث عن جذورنا.

ولكي نتمكن من التعرف على الماضي وفهمه بصورة جلية ينبغي علينا أولاً التعرف على جغرافية المكان الذي نود دراسة تاريخه. فالأوضاع الجغرافية – باختصار شديد - تلعب دوراً كبيراً على التركيبة السكانية. وبدون الدخول في تفاصيل ومصطلحات جغرافية يمكن أن نتناول السودان من خلال ثلاث مناطق: 1. منطقة الجنوب 2. مناطق شرق النيل الأبيض ونهر النيل 3. مناطق غرب النيل الأبيض ونهر النيل.

1.    المناطق الواقعة إلى الجنوب من نهر السوباط وبحر الغزال وبحر العرب: تتميز هذه المنطقة بالسدود والمستنقعات والغابات الكثيرة مما جعل كثير من سكانها من القبائل النيلية (الشلك والدينكا والنوير) يتحركون بين وقتٍ وآخر إلى خارج المنطقة، وكانوا يتحركون بصورة منتظمة نحو الشمال. وقد رصدت الآثار المصرية القديمة منذ أكثر من أربعة آلاف سنة وصولهم شمالاً حتى الحدود المصرية الحالية. وكانوا يستقرون على طول هذه المنطقة ولذلك فينبغي البحث والتعرف على آثارت القبائل النيلية على التركيبة السكانية في السودان الشمالي.
2.     مناطق شرق النيل الأبيض ونهر النيل: تمتد هذه المنطقة شمالاً حتى مناطق البجة على الحدود المصرية. وتبدأ من نهر السوباط وتمتد في أرض الجزيرة مابين النيلين الأبيض والأزرق وامتداد المنطقة حتى الهضبة الأثيوبية. ثم تتابع المنطقة امتدادها شمال النيل الأزرق من نهر النيل غرباً وحتى الهضبة الاثيوبية والبحر الأحمر شرقاًً

وتتميز هذه المنطقة بفروع الأنهار والأوية التى ربطت بين كل أطرافها حتى أصبحت منطقة متجانسة في طبيعتها وسكانها مثل نهر ستيت شمال الهضبة الاثيوبية وامتداده نهر عطبرة في السودان، وخور مارب في أرتريا وامتداده خورالقاش في السودان، وخور بركة وامتداده في ارتريا والسودان.    

ومن الواجب أن يتجه البحث لدراسة التكوين السكاني للمناطق الواقعة شرقي النيل الأبيض ونهرالنيل لكل عناصر السكان الحاليين من صوماليين وأرتريين واثيوبيين وسودانيين للتعرف على تكوينهم المبكر وأصولهم. ويلاحظ استقرار السكان النسبي على هذه المناطق  نسبة لعدم التقلبات المناخية الكبيرة كما حدث في المنطقة التالية.
 
3.    مناطق غرب النيل الأبيض ونهر النيل: تقع هذه المنطقة ما بين بحري الغزال والعرب جنوباً حتى الحدود المصرية شمالاً. تعرض الجزء الأوسط والشمالي من هذه المنطقة للتغير المناخي الكبيرالذي ضرب ما يعرف الآن بالصحراء الكبرى منذ الآلاف القليلة السابقة للميلاد. ونتج عن ذلك التحول التدريجي للمنطقة من غابات وبحيرات ومراعي وأنهار إلى الصحراء التي نراها اليوم.

وقد أدى ذلك الجفاف التدريجي إلى نزوح السكان نحو المناطق الغنية بموارد المياه. وكان نهر النيل من أكبر المناطق التي استقبلت المهاجرين الوافدين من المناطق الغربية. ويعنى ذلك أن هنالك عاملين أثرا على تحرك وتكوين السكان في هذه المنطقة أولهما الجفاف التدريجي الذي اجتاح المناطق الغربية وثانياً تحركات القبائل النيلية من الجنوب.

وكما ذكرنا فقد كان الجفاف تدريجيّاً، فوادي هوار مثلاً كان لا يزال نهراً دائم الجريان يلتقي بالنيل عند منطقة حلفا حتى القرون القليلة التي سبقت قيام حضارة وادي النيل. وواحة سليمة وبحيرة لقية غربي حلفا كانتا مصادر دائمة للمياه. وبنفس القدر يمكن النظر إلى وادي الملك الذي يجري من شمال كردفان ويصب في النيل عند منطقة الدبة ووادي المقدم الي يصب في منطقة كورتي وغير هذه من الأودية.

فالمنطقة الصحراوية الحالية كانت مناطق اتصال سكاني مثل منطقة الجزيرة والبطانه إلى عهد ليس بالبعيد في عمر تكوين الشعوب. ومن الواجب ونحن نبحث عن السكان وأصولهم والمؤثرات التي طرأت على تكوينهم وضع هذه الاعتبارات في حساباتنا. فإنه من غير الممكن التعرف على سكان النيل دون ربطهم بالتحركات السكانية التي أتت من الصحراء.

ولعل المثل الواضح في ذلك الهجرة التي أتت من الجنوب واجتاحت مملكة مروي وأدت إلى ضعفها وانهيارها في القرن الرابع الميلادي تحت ضربات مملكة اكسوم، وكذلك الهجرة الصحراوية التي دخلت منطقة حلفا في القرن الثالث الميلادي وكونت مملكة نوباتيا المسيحية.

فالسكان في منطقة السودان  الحالي ربطتهم عبر التاريخ روابط  طبيعية أدت إلى الصلة الدائمة بينهم، فكونوا عبر التاريخ السكان الذين عاشوا وخلفوا لنا تراثهم. يجب بحث تلك الروابط والتحقق من ذاك.

مثلاً عند الحديث عن حضارة كرمة ينبغي البحث عن جذورها و ربطها بشمال دارفور عبر وادي هوار, وعند الحديث عن مروي ينبغي البحث عن صلتها بشمال كرفان التي تقول بعض الروايات المحلية في الشمال أن إحدى عوصمها كانت في منطقة زانكور بشمال كردفان، وعند الحديث عن قيام سلطنة سنار ينبغي البحث عن أثر سكان أعالي النيل الأزرق وغرب النيل الأبيض على قيامها وازدهارها.  

نحن نقع الآن تحت تأثير الوضع المناخي الحالي فننظر إلى حضارة كرمة مثلاً باعتبارها وليدة شمال السودان فقط، وننظر إلى تراث السودان القديم باعتباره وليد المنطقة الواقعة ما بين الخرطوم وحلفا كما توضحه الخرائط في كتب تاريخ السودان القديم باستثناء القليل منها. وقد أدى هذا إلى أن بعض السكان يرون أنهم لا ينتمون إلى ذلك التراث. قراءة تاريخنا تتطلب قراءة الوضع الجغرافي أيضاً، وبالقراءتين معاً يمكن التعرف على التاريخ وبالتالي التعرف على أصول التركيبة السكانية ومؤثراتها.   
 

 

آراء