تأمّل في معنى القصيد: الحلقة الثانية عشر

 


 

 

 

 


بسم الله الرحمن الرحيم

abdelmoniem2@hotmail.com
من شمس المعشوق إلى قمر العاشق
عالم عبّاس محمد نور (ابن بطوطة)
تحدّثنا فيما سبق عن طريقة اقتناء المعرفة وبناء الحصيلة اللغوية عند عالم عبّاس وذكرنا أنّه يقرأ ويهضم على مهل وهى سمة المتفكّرين.
والنّاس إمّا متفكّر: "وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ"‬ ومنهم سيدنا هارون وسيدنا إبرهيم عليهما أفضل الصلاة والسلام، أو منظِّر كمثل قارون عليه لعنة الله: "قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي" ‬
أو حركيٌّ نشط كسيدنا موسى عليه السلام: "وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه"‬
أو عملي، أو براغماتي، والفرق بينهما النيَّة والأخلاق، كبلقيس ملكة سبأ:
"‫"قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً؛ وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ، ‫وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ؟ ‬ ‬ ‬‬
والشعراء حركيّون نشطاء يبغون التغيير، ومتفكّرون أيضاً، وهم وقود الثورات الفكري بينما النشطاء وقود الثورات الفعلي الذين تجدهم في المظاهرات، فالشعراء يسنّون سيوف عقولهم لكشف الحقيقة ولا يرضون بدونها، وفى ذلك معاناة، ويسعون بعد ذلك لنشر الوعي ولتغيير الواقع وفى ذلك احتراق وتضحية وضياء ينبغي أن يسود. ومن المعروف أنَّ الحركيون النشطاء لا يُقدِّرون عطاءهم إذا لم يمتزج بنوع من النشاط ودخول المعتقلات وما شابه ولهذا تجد مكانة محجوب شريف رحمه الله لا تدانيها مكانة لأنَّه كان صوتهم وشارك معهم الثورة.
والشعراء أبعد الناس من البراغماتية بل ويصفون من يتّخذها موقفاً منهم بالسقوط إذ هم يعتبرون أنفسهم صوت الشعوب لا يساومون ولا يتغيّرون رافضين للخنوع رافعين للرأس في إباء وخارجين في جسارة ليغيّروا الدنيا للأفضل:
"لا التبذّل الرخيص يطَّبيهم، ولا التّهافت المذل يستميلهم إليه، قدرة على الرفض والإباء، والخروج في جسارة، تحدُّ من مسار عادة".
وهذا ينطبق على عالم عبّاس إذا نظرنا إلى سياق قصائده. فهو قد بدأنا بإعلان وثيقته الفكريّة ووسيلته لمعرفة الحق والحقيقة ألا وهي الشعر. ولكنّه ليس أي شعر وإنّما القريض الملتزم برسالة الشعر حتى يصير هويّة لصاحبه، ولذا فقد جاء الخطاب مخصّصاً للذين آمنوا بالشعر موقفاً. ونرى تأكيداً لذلك في قصيدته (تبّت يد الحزن) حين يقسم بالله ويبيّن بماذا اختصّه به ربّه حتى صار شعاره:
"أمّا والذى اختصّني بالقصيد"
ثمّ زاد تخصيصاً لهذه الزمرة حينما خاطب هؤلاء المؤمنين بالشعر "منقذاً" فظهرت حركيّته إذ يقول:
"يا أيّها الذين آمنوا بالشّعر مُنقذاً، وصبروا واصطبروا، وعانقوا الحروف، كالرماح يشرعونها، والأرض زلزلت زلزالها، وأخرجت أثقالها، وهم تراسهم، طروسهم، كما الجذور، درعهم مكامن الإرادة."
فهذه حالة حرب أقرب إلى يوم الزلزلة، سلاحها الفكري هو الإيمان برسالة الشّعر منقذاً، وسلاحها النّفسي هو الصبر، وهو حبس النّفس عند الجزع، والمصابرة، وهى الصبر والثبات كالجذور، وسلاحها المادّي هو رماح الحروف، وحمايتها قوّة الإرادة.
وسلاح الحروف، الذي هو سفين الفكر لا تعدله قوّة، فبه تقوم الحضارات وتزول، ويخافه الطغاة فيبدون من البطش بمشرع سيفه على قدر خوفهم منه وعجزهم عن إسكات صوته، لأنّ مصدر قوّتهم نتاج فكرة مغايرة حكموا النّاس بها.
ونجد أنّ حدس عالم عبّاس أسعفه مرّة أخرى إذ رأى في مرآة نفسه الصافية ما نظّر به علماء النّفس لاحقاً. فالنّفس قد قُسِّمت إلى نفس جسديّة، فمن النّاس من يهتم بهندامه ومظهره اهتماماً مبالغاً، ونفس انفعاليّة ونراها متمثّلة في الذين ينفعلون لأقلّ الأسباب ويثورون، ونفس عاطفيّة وهؤلاء تتنازعهم الأهواء فيبكون ويضحكون في المواقف الواحد، ونفس فكريّة ومن منّا لا يعرف صديقاً صداقته للكتب أكثر من النّاس والذي قال:
"وخير جليس في الزمان كتاب" كان يغلّب قيمة نفسه التفكّريّة على الأخريات،
ونفس اجتماعيّة وهم المتفاخرون بالمناصب أو المظاهر أو كثيرو الأصدقاء، والنفس الروحيّة تبدو جليّة في المتصوّفة، ونفس إراديّة كأصحاب الرسالات:
‫"فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ"‬‬
والعزم هو قوّة الإرادة والجزم على تحقيق المراد بهمّة لا تفتر.
ونجد أنّ عالم عبّاس لخّص كلّ هذه النفوس ببلاغة عجيبة في بيت واحد. فالمخاطبة للذين آمنوا هي للنفس الروحيّة، وذكر مفهوم الإنقاذ هو للفكريّة لأنّه إيمان بفكرة، والصبر يخاطب النفسية إذ أنّ الصبر لا يكون إلا على المكاره وما يسبّب الألم، والمصابرة هي خطاب للانفعالية والعزمية أو الإرادية؛ إذ أنّ الإحساس بالألم يؤدّى للانفعال والتّهوّر ممّا يستلزم درجة أعلى من الصبر ولهذا قال المصطفى صلّى الله عليه وسلّم يصف أعلى درجات الشجاعة:
"الصرعة من يتمالك نفسه عند الغضب" فلم يمنع من الإحساس بالغضب، وقد لعن الديّوث، ولكنّه دعا إلى ترويضه وتوظيفه، فهو كالمتفجّرات تشقّ بها الجبال لمدّ الطرق للناس أو تفنيهم بها، والمولى عزّ وجلّ نبّهنا لهذه الرسالة:
" "‫"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‬‬
وفيها أعظم البلاغة إذ جمع بين كلّ أنواع النّفوس وسبل استخدامها لنيل الفلاح.
ووصفه لمعانقة الحروف وإشراع رماحها فعلٌ اجتماعي، واستخدام الأجساد كالتروس وهى الأسلحة التي يُتوقَّى بها، والطروس، وهى الصّحف التي مُحيت ثم كُتبت، والتطرّس هو ألا تشرب أو تطعم إلا طيّباً، فالشاعر هو صحيفة الشعب لا تنتهى رسالته أبداً كأنّه صحفٌ متجدّدة، ولا يبيع قضيته فلا يطعم إلاّ حلالاً، هو خطاب النّفس الجسدية، ويختمها بالنّفس الإراديّة، لأنّه بدونها تخور العزائم وتنقطع الرسالات ولذلك قال الشاعر:
"على قدر أهل العزم تأتى العزائم"
ويصيب عالم عبّاس الهدف عندما تحمله بصيرته إلى مفهوم هذه النفوس فيصرّح بها:
"أذلّة له نفوسهم، أعزّة على الدَّعيِِّّ والخئون".
وهذه الأنفس ذكرها الله سبحانه وتعالى في معجز آياته:
‫"اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ ‫وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إلى أَجَلٍ مُسَمًّى"‬ ‬ "‬‬
فالوفاة تحدث لكلّ الأنفس عند النوم ما عدا الانفعالية أو الفيزيولوجية والروحيّة.
وقد ذكرنا من قبل بأنّ زاد عالم عبّاس في تكوينه الأوّل كان القرآن الكريم وفصاحة أعراب أهل بادية دارفور في فاشر السلطان، قبل أن تنفتح أبواب المعرفة الأخرى أمام عينيه. ولهذا فقد غلب الخطاب القرآني وصوره على معظم قصائده، ولكنّه استخدام لا يبدو مقحماً أو غريباً وإنّما يأتي كما يتنفّس المرء بلا عناء ويتأكّد ذلك فيما يلي من أبيات:
"يلهجون في العشىِّ باسمه، ويصبحون، مثلما يمسون، يبتغون بعض فضله، ويسألون من لدنه ما ارتضى لهم، تثبّتاً، وجرأة، وقدرة على القيادة".
فمصدر هذا البيت قوله تعالى:
‫"فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُون ً‬
‫يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا"‬ وأيضاً: "‬
ثمّ نجد نهاية البيت:
‫وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ" ‬ "‬
ونرى التسلسل المنطقي لصفات هذه الزمرة من المؤمنين في ختام كلِّ بيت (الريادة، الإرادة، القيادة) فهم مخاطرون عبر مفازة الردى يبتغون الريادة، تغذّى همّتهم إرادة لا تتزعزع، ومن كانت هذه صفاته فهو الأجدر بالقيادة والأقدر عليها.
وإذا تتبّعنا بقية قصائد الدّيوان نجد النّفس القرآني يتغلغل في ثناياها ففي قصيدة (سفر الخروج والكشف والرؤيا) نجد:
"تركته لكم محنّطاً من حَمَإٍ مَّسْنُونٍ".
ذلك الذى تركته لكم وأنتم كهؤلاء،
ساجدين في رحابه لجسد من طين.
تركته لكم عن القصيد مارجاً من نار"
فنجد المعني في هذه الآيات:
‫"وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ"‬
‫"خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ ، وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ"‬ ‬‬
وفى قصيدة (بعض الطيف إذا يغشى) لا تفوتنا الآية الكريمة:
" ‫"وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى‬‬
" ويستلف أيضاً صورة قرآنيّة أخرى:
"وطفقا ..من سَوْرَةِ الهيام يخصفان ،
مهداً من التّبتّل الوثير،
يستران عُرى لحظة بدت"
‫ونجد المعني في: "فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَٰتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ اْلْجَنَّةِ ۚ‬‬
وسنواصل إن أذن الله سبحانه وتعالي
ودمتم لأبي سلمي

 

آراء