من شمس المعشوق إلى قمر العاشق عالم عبّاس محمد نور (ابن بطوطة) أهداني الشاعر المتميّز الأستاذ عالم عبّاس ديوانه (من شمس المعشوق إلى قمر العاشق) وهو من منشورات مدارك، وقد كان ذلك ذات ليلة طيّبة مباركة في دار شيخ العرب وسيّد الفصاحة البروفسير عبدالله حمدنا الله احتفاءً بشخصي وزيادة في المودّة، جمع فيها من الأقمار ما كاد يُعشينا، فطربنا من حُذّاقٍ مهرة يطاوعهم الكلام ولم "تخونهم فسيفساء اللفظ في آنية الكلام" كما قال عالم عبّاس، بل ونظموا الحكي بسلاسة ومقدرة جدّتي خديجة بنت بركات في غزلها لقطنها، ومن رأى جدّتي فقد رأى عجباً، رحمها الله وأحسن إليها، حتّى أنّ أستاذنا عيسى الحلو سهر حتى الواحدة صباحاً بعيداً عن زغبه ممّا أغراني بإضافته إلى مقياس غينيس العالمي. وقد سألني صديق عن شغفي المفاجئ بنقد الشعر فنبّهته بأنّني لست بناقدٍ ولا لي معرفة بدروبه، ناهيك عن منازله، ولكنّني متأمّل أتمثّل قول المأمون بن هارون الرشيد: "إنّ أحبّ الأشياء إلىّ التنـزّه في عقول النّاس". وأضفت ما قاله عليّ بن الجهم: لجلسة مع أديب في مذاكرة أنفى بها الهمّ أو أستجلب الطربا أشهى إلىّ من الدنيا وزخــرفها ومـثلـها فضــّة أو ملـئها ذهــبا وفى هذا الزمان المكشّر العابس الباسر، كما قال شاعرنا عالم عبّاس، ما أحوجنا لمثل هذه الجلسات. فالشعر رحيق الأدب وهو في ذات الوقت رحيق فكر وروح الشاعر. من أدرك معناه أو حوّم في حماه أصابته لذّة عجيبة سرعان ما يدمنها. ومن أرقى عقلاً وأطيب لفظاً من الشاعر؟ واهتمامي بالشعر ليس إلاّ اهتمامي بالشاعر وتجربته. وما محاولة فهمي لشعره إلاّ مغامرة أتقمّص فيها فكره وشعوره وتجربته فأعيش ما استطعت منها أستنطق معانيها، فأخيب أكثر ممّا أظفر ولكن هكذا حال صيّاد اللآلئ، والآن لنواصل ما بدأنا من التأمل في معني القصيد غوصاً وراء لؤلؤ المعاني في بحور عالم عبّاس. وكنت قد قرأت لعالم عباس منذ زمان طويل وأذكر كم تقزّمتْ موهبتي أمام رصين شعره في الأمسيات العطرة من قرننا السابق قبل أن يفرّقنا الزمان شذر مذر، مطابقاً وصفه البليغ: "تضمئلُّ، خرائد الكلام في حضورك البهيْ". كنت أجد فيه توازناً ما بين المبنى والمعنى، لا تطغى موسيقاه مدّاً ولا ينحسر محتواه جزراً برغم عاطفة الشباب وغلبتها. ومن المعهود أن يسمّى الشاعر ديوانه باسم قصيدة تشي برسالته، أو ترقى لمرتبة الرضا عنده، أو لشهرتها وحسن استقبال النّاس لها، ولكن عالم عبّاس خالف المعهود، وهو الذى جعل من همّه الأوّل ورسالته الكبرى المخالفة وكسر قاعدة العادة، حتى وإن أدّى ذلك لمهلكه، فما قيمة التكرار وما قيمة المُعطى إن لم يغامر دونه المرء ويخوض بحار الخطر وهل فاطمة السمحة مهرها الخمول والمعهود المردود؟ "لكم يا أيّها الذين توَّجوا تواضعي قلائدا، ووشّحوا مواقفي لآلئَ الصمود، زلزلوا هياكل الجمود، حامدين لي سراي عبر مَهْمَهْ الرَّدى، مقتفياً موارد التجديد قُدُماً" أو كما قال: "أفتّش الجديد في القصيد ذاك دأبي القديم" وقال أيضاً: "وجاءت لي الممكنات، فأعرضتُّ عنها، وعلّقت قلبي بأجنحة المستحيل" وهكذا نرى أنّ هذا الموقف نابع من وعيٍ مُبين وفيه إصرار واضح بالسعي نحو الجديد حتى وإن أدّى ذلك لحتفه. وفى العنوان رمزيّة تدلّ على مصدري الضياء وتواصل العشق وهو ما يلخّص رسالته في الديوان كلّه إذا تتبّعنا رموزه وتوظيفها في إيصال المعنى أو الإيحاء به. ومنذ القصيدة الأولى يبين الجذر القرآني والإسلامي الواضح في تربة شجرة عالم عبّاس الشعرية، والذي يدلّ على تمعّنه في آيات الرحمن وتمكّنه من فهمها حتى صارت جزءاً منه تتسلّل إلى شعره كلماتها وصورها ورموزها بدون عناءٍ أو صنعة. والإنسان عند تعلّمه يتّبع طريقة الحشو أو الهضم. فمنّا من يملأ ذهنه بالمعلومات، كالذي يبتلع الطعام دون مضغٍ فيعسر هضمه ويخرج جلّه ولا يتبقّى في الجسم منه إلاّ القليل كما ينزع الشخص ثوباً، ومنّا من يتناول العلم على مهلٍ فيمضغه باستمتاع ويسهّل هضمه فيصير جزءاً منه كجلده لا ينفصل عنه. ومن قراءتنا لشعر عالم عبّاس نجده من الفريق المتمهّل الذي يفهم ما يقرأ؛ بل ويتفكّر فيه مستنبطاً معانٍ جديدة وهو المغرم بالتجديد. وكيف يتسنّى لمن نشأ في البادية، حيث فصاحة العرب وحفظة كتاب الله وطغيان كلام الله عزّ وجلّ على الموارد الثقافية الأخرى، أن ينجو من تأثيره وإن قصد؟ وعالم عبّاس بطبيعته المتمهّلة المتفكّرة، والتي تمتصّ المعرفة امتصاص النحل للرحيق، صار غذاؤه الأوّل من كتاب الله عموده الفقري الذي اكتسى باللحم المعرفي والتجربة في مقبل أيّامه. والمبدع في أوّل أيّامه يركن إلى ما يعرفه وإلى الحدس والبديهة قبل أن تتراكم عليه المعارف والتّجارب فتنحرف بوصلته لحين قبل أن تلزم مرّة ثانية قبلة اليقين. وأنا لي ولع بتقصي التجارب الأولى للمبدعين فهي تشي بحقيقة تكوينهم ومصادرها. فقصيدته الأولى "من أسفار الشعر والرّفض" تبدأ كما تبدأ الآية وتتشكّل كالسورة: "يا أيها الذين آمنوا بالشعر موقفاً، وطأطأوا رؤوسهم تيقّناً بمجده الجبّار، ثمَّ حين بايعوه أقسموا بجهد عزمهم يعزِّرونه، وينصرونه، ويعبرون دونه مخاطر الريادة". فالشعر عنده أمر جادٌّ لا يعلوه شيء إذ فيه هويّته النّفسيّة والذاتية إذ قد نذر نفسه له وبه يُعرّف، والموقف لا يعبّر إلاّ عن ماهية الإنسان وما يمثّله لذا فاختيار كلمة (موقفاً) هو اختيار واعٍ وموفّق بما يمليه الموقف في حياة الإنسان في السياقين الزماني والمكاني تاريخاً وجغرافية وتفاعلاً. والنّاس تكره المتذبذب الإمِّعة يميل حيث النّاس مالوا. حتّى المنافقين وصفوا بالذبذبة: ""مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك لاَ إلى هؤلاء وَلاَ إِلَى هؤلاء فهذا (البين ذلك) ليس غير الموقف الذي عناه عالم عباس، فحليفك ثابت وعدوّك ثابت ولكنّ الذي يطفو على سطح الأشياء تتقاذف جسده الأمواج لا يجديك قربه ولا يعطيك قلبه. وعالم عبّاس ببديهته يخاطب قلّةً من النّاس لا تتجاوز الثلاثة بالمائة هُمْ زمرة الرّواد والمبادرين المؤمنين حقّاً، ولذا فقد قال المولى عزّ وجلّ يصف الأعراب الذين انضمّوا مؤخّراً لسرب المسلمين: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ۖ قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ" "َ وعند بزوغ فكرة جديدة أو مبدأ لا ينضمّ إليه أكثر من ثلاثة بالمائة من أوّل وهلة، وهم الصّديقون لأنّهم يرون بالبصيرة لا بالبصر، يبذلون المال والنّفس دون تردّد، ثم لا يلبث أن يلحق بهم عشرة بالمائة من أوائل المؤمنين الذين يحذون حذوهم، بينما ستّة عشرة إلى عشرين بالمائة، والتي تعرف بالمتخلّفين عن الركب أو المُخلَّفين، لن تغيّر رأياً أو سلوكاً مهما بذلت فيهم من جهد أو أنفقت من مال. وقد نبّه المولى عزّ وجلّ رسوله الكريم للنوعين من البشر في سورة (عبس) حين تصدّى لغلاة الكفّار، أي تعرّض لهم لعلّهم يؤمنون، وتلهّى عن المبادرين الباحثين عن الحق. والتاريخ أرانا كيف أنّ الأعمى دالت له الإمارة وغلاظ الكفّار، الذين تصدّى لهم المصطفى صلّى الله عليه وسلّم، ماتوا على كفرهم: " "أَمَّا مَنْ اسْتَغَنَى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى فانظر إلى بلاغة الكلمة "استغنى"، فالغنىّ بفكره لا يهتم بغيره وربما يسعى لتدميره: "وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ". وقد برهنت الدراسات أنّ أصحاب الأفكار الجديدة ينفقون أكثر وقتهم لإقناع هؤلاء "المستغنين" فلا يفوزون ولو أنّهم أنفقوا بعض هذا الوقت على الأغلبية المراقِبة لكسبوا قلوباً كثيرة وهي البقيّة الباقية من الناس التي تتبع من انتصر: " وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا" ولهذا جاء وصف عالم عبّاس الذين آمنوا بالشعر موقفاً وصفاً مفصّلاً لا يترك شاردة ولا واردة إلاّ أتاها حتى لا نعمى عنهم، وهي ما تعرف بالمقوِّمات أو المعايير التي بدونها يبطل أو لا يتّضح التعريف. وقد وصفهم عالم عبّاس بالذين تيقّنوا من مجده الجبّار، أي الذي لا يعلو عليه شيء ولا يزول. والتّيقّن عمليّة فكريّة نشطة تستقصي الأسباب لزيادة الإيمان والذي هو عمليّة قلبيّة وفيه تنقية للروح من درن الشكّ بنار التجارب والمغامرة. وهو علم اليقين الذي يوجب التواضع وعلامته الطأطأة، ولا يفوتنا هنا تأثير موقف الصلاة بين يدي ربّ العالمين على الصورة الشعرية، وفى مثل هذا الموقف يحقُّ التّسليم الذي هو باب عين اليقين. هذه التجلية للبصر والبصيرة لا تؤدّى إلاّ إلى المبايعة، وهي قمّة المحبّة ومدعاة العطاء والتضحية. ولا تتمّ مبايعة بدون قسم غليظ للوقوف خلفه سنداً ونصراً لا يتزحزح، يعبرون دونه مفازة الموت، ويرتادون مخاطر المجهول بحثاً عن الجديد والإضافة، لا يركنون لحياة الدّعة ويحملون مشاعل الوعي ويحترقون بنارها. ونلاحظ أنّه ختم البيت الأوّل، الذي يبدو في صيغة أو شكل آية، بكلمة الريّادة وبداها بالمخاطبة للذين آمنوا بالشعر موقفاً، أي الرّواد من النّاس، فهل كان هذا وعياً ناضجاً أم كان بصيرة نافذة؟ أقول أنّه الأخير آخذاً في الحساب صغر سنِّ عالم عباس وتجربته آنذاك. وسنواصل إن أذن الله التأمّل في السمت القرآني في شعر عالم عبّاس ونتبعه بالرموز الأخرى في الحلقة القادمة. ودمتم لأبي سلمي