تحويل الدعم ليصل إلى مُستحقيه حصرياً

 


 

 

 

 

(أي منطق إقتصادي يُبرر تبديد ثلاثمائة مليون دولار شهرياً لدعم إستهلاك أثرياء المُدن من البنزين والخُبز، خصماً على دعم خدمات التعليم و الصحة والتعليم والإنتاج بالريف؟!)

1. تعريف الدعم : إعانة مالية أو سلعية أو خدمية تقدمها الدولة للفئات الضعيفة في المُجتمع بهدف تخفيف حدة الفقر وتجسير الفجوة بين الأثرياء والفُقراء (ضمن أهداف أخرى كتقوية النسيج الإجتماعي والتعايش السلمي وتحقيق المساواة وتعزيز التكافل،، إلخ).

2. أنواع الدعم :
أ‌. الزكاة (والتي تمنح لمستحقيها فقط- الفقراء واليتامى والمساكين وأبناء السبيل والعاملين عليها) أي لا تُمنح عشوائياً بدون تمييز بين يستحق ومن لا يستحق، كما يحدث حالياً في ما يُسمى بالدعم السلعي.
ب‌. دعم عيني، أي توزيع بعض السلع مجاناً (منظمات الإغاثة).
ت‌. بيع السلعة بأقل من تكلفتها (النظام المُطبق حالياً حيث يُباع لتر البنزين بحوالي 5% من سعره الحقيقي_ أي يوزع شبه مجاناً- في دولة تُعاني من نُدرة خانقة في النقد الأجنبي.
ث‌. الدعم النقدي؛ للفئات الأكثر ضعفاً/تهميشاً (المُعاقين، الأرامل، اليتامى، العاطلين عن العمل؛،، إلخ)
ج‌. الدعم عن طريق توفير الخدمات العامة كخدمات الصحة والتعليم، وهي أفضل أنواع الدعم لأنها تجمع بين دعم الخدمات والإستثمار طويل المدى في القوى البشرية (مجانية التعليم والرعاية الصحية الأولية).
ح‌. دعم وسائل الإنتاج (عدم فرض رسوم أو ضرائب على وسائل ومدخلات الإنتاج، وشراء المسلعة بسعر أعلى من سعرها وبيعها للجمهور بسعر أقل- كما يفعل البنك الزراعي/المخزون الإستراتيجي).

3. الأهداف المرجوة من الدعم:
a) تجسير الفجوة بين الأغنياء والفقراء؛ أي بين الفئات الإجتماعية المُستضعفة ، كما أشرنا إليهم أعلاه، سعياً وراء تحقيق العدالة الإجتماعية والمساواة والسُلم المُجتمعي، وهو ما يطلق عليه التمييز الإيجابي (Affirmative Action).
b) الإسهام في علاج التحديات الأساسية التي تواجه الدول النامية (الفقر والمرض والبطالة والجهل).
c) تخفيف أعباء المعيشة على الفئات الأكثر فقراً في المُجتمع (دعم الوقود لتخفيف عبء المواصلات، ودعم الخبز لتخفيف غلاء الأسعار،، على سبيل المثال).

4. حقائق أساسية:
 يُشكل نظام الدعم السلعي الأعمى المُطبق حالياً في السودان (بدون تمييز بين من يستحقه ومن لا يستحقه) عبئاً مالياً باهظاً على الميزانية العامة للدولة، ولغياب البيانات الإحصائية الموثوق بها تتضارب الأرقام تضارباً كبيراً. ويبدو أن الجهاز المركزي للإحصاء ووحدات الإحصاء بالوزارات والإدارات الحكومية المُختلفة لا تملك قاعدة بيانات كافية تُعين على إعداد خُطط سليمة للتنمية والتخطيط (لا تخطيط بدون بيانات صحيحة).
 يُشكل دعم الوقود بأنواعه المُختلفة ( بنزين، جازولين، كيروسين، وغاز الطبخ) 80% من إجمالي الدعم، و20% لدعم رغيف الخُبز المُنتج من دقيق القمح المستورد بالدولار.
 تُنفق الأسرة الريفية 1.60 من دخلها على الوقود، بينما تُنفق الأُسرة الحضرية 1.35 من دخلها على الوقود بكافة أنواعه، وهذا يعني أنه لو تم توزيع الوقود مجاناً فسوف لن يكون له أي تأثير على خفض إنفاق /مصروفات الأُسرة، مُقارنة بمصروفات الأسرة (House-hold expenditure)، مُقارنة بصرف الأسرة على التعليم والعلاج والسكن.
 الطبقات الأعلى دخلاً هي الأكثر إستهلاكاً للوقود (خاصةً البنزين) وبالتالي فهي الأكثر إستفادةً من الدعم الأعمى، وللمفارقة فإن هذا الدعم يمتد ليشمل الأجانب والبعثات الدبلوماسية، بل وشركات القطاع الخاص العاملة في مجال النقل والترحيل. وقد أثبتت الإحصائيات أن الطبقة الأعلى دخلاً التي تُشكل 20% من السُكان تستفيد من الدعم ثلاثة أضعاف الدعم مُقارنة بالطبقة الوسطى التي تُشكل 40% من السُكان، وتستفيد هذه الطبقة الأعلى ثراءً من الدعم ثمانية أضعاف إستفادة ما تستفيده الطبقة الأكثر فقراً التي تُشكل 40% من السُكان، وهذا يطرح سؤالاً جوهرياً (من المُستفيد فعلياً من دعم الوقود، وخاصةً البنزين؟).
 يبلغ متوسط سعر لتر البنزين في السوق العالمي حوالي 1.11 دولار (أي ما يعادل 111 جنيه سوداني وفقاً لسعر صرف الجنيه السوداني بالسوق الموازي)، ويُباع للمُستهلك بسعر 6,17 جنيه، أي ما يعادل 5% فقط من سعره!!؛ أي أنه يوزع شبه مجاناً لأن هذا السعر لا يُغطي حتى تكلفة تشغيل محطات توزيع الوقود (تخرين، أرباح، أجور عُمال،، إلخ).
5. أضرار الدعم السلعي المُطبق حالياً في السودان:
هذا الدعم السخي للوقود الذي يرقى إلى درجة تبديد الموارد الشحيحة أصلاً (تتحمل الدولة 95% من تكلفته) يقود إلى سؤال جوهري، من أين تحصل الدولة على المبلغ الذي تنفقه لدعم هذه السلعة الاستهلاكية المستورد؟، ففي تقديرنا أنها تحصل عليه من ثلاثة مصادر هي:
 القروض والمنح والهبات الأجنية (السعودية والإمارات)؛ مما يرهن القرار السيادي لهذه الدول المانحة (إذ لا يوجد في العلاقات الدولية ما يُسمى دعم بدون مُقابل).
 الإستدانة من النظام المصرفي (التمويل بالعجز) وهذا يعني ببساطة طبع مزيد من النقود بدون تغطية وبالتالي تدهور سعر صرف العُملة الوطنية وأرتفاع التضخم وارتفاع الأسعار، واستمرار الدوران في الحلقة المُفرغة، وهذا ما يحدث حالياً بحذفاره.
 تشجيع التهريب نسبةً للفارق الكبير جداً بين أسعار السلع المدعومة في السودان، وأسعارها في دول الجوار (إريتريا، مصر، تشاد، إفريقيا الوسطى، وجنوب السودان) وتُشير بعض التقديرات أن نسبة السلع المدعومة التي يتم تهريبها إلى هذه الدول تبلغ 30% !!!!.
 يتم هذا الدعم يتم على حساب الخدمات الأساسية؛ بالتخلي من مسؤولية دعم التعليم والصحة والإنتاج، علماً بأن هذه الخدمات تُعتبر من أفضل آليات دعم الطبقات الفقيرة، بالإضافة إلى أنها لا تعتبر خدمات إستهلاكية فقط وإنما إستثمار طويل المدى ومضمون العائد والنتائج ويستمر مفعولها طيلة سنى العًمر "العقل السليم في الجسم السليم، ويعتبر هذا النوع من الدجعم أفضل آليات تحقيق التنمية البشرية المُستدامة؛ علماً بأن مفعول دعم الخُبز مثلاً ينتهي بإنتهاء تناول الخبز وتفريغه في المرحاض، بينما ينتهي مفعول دعم البنزين بركوب السيارة أو الحافلة والوصول إلى الوجهة المقصودة، والتي غالباً ما تكون للقيام بمُجاملة إجتماعية، إذ يلاحظ أن الحركة المرورية العالية لا تتناسب مع المُساهمة الضعيفة لولاية الخرطوم في إجمالي الناتج المحلي (GDP).
 أدى رُخص سعر البنزين وتوزيعه شبه مجاناً للسيارات الملاكي، أدى إلى الإسراف في إستخدامه إلى مُفاقمة أزمة المواصلات، وذلك بتواجد سيارات صغيرة بأعداد كبيرة في الطُرقات العامة وبما يفوق السعة الإستيعابية لهذه الطرق، مما أدى بدوره إلى حدوث زحمة مرورية وتعطيل الإنتاج نتيجة للوقت المُهدر في الوصول إلى أماكن العمل.
 تغيير العادات الغذائية لعموم الشعب السوداني وهجرانه لغذائه الأساسي المُنتج محلياً (الذُرة) وإستبداله برغيف القمح المستورد، لا لشئء إلا بسبب رُخص سعره، علماً بأن كُل دول العالم تدعم منتجاتها المحلية، وخاصةً الغذاء الأساسي (برامج الأمن الغذائي، ونأكل مما نزرع).
 تشويه هيكل الأسعار وإحداث فوضى عارمة في السوق، نتيجة لتدخل الدولة في آليات السوق الحُر التي تُحدد الأسعار حسب العرض والطلب والقُدرة الشرائية للمُستهلك – Affordability and Effective demand). علماً بأن الإقتصاد السوداني يتبنى حالياً نظام الإقتصاد الحُر أو المُختلط؛ الذي يعني تقليل تدخل الدولة في عملية الأسعار وإقتصار دورها على سن التشريعات والقوانين التي تُنظيم وضبط العلاقة بين القطاعين العام والخاص وتقنين وتعزيز الشراكة بينهما، بالإضافة إلى حماية المُستهلك.
الخُلاصة:
"بما أن الإقتصاد هو علم البدائل لمُعالجة مسألة النُدرة (Scarcity) من خلال "الإستخدام الأمثل للموارد المحدودة، للحصول على أفضل مردود إقتصادي- Optimum Allocation of Scarce Resources".
بالنظر إلى برنامج الدعم السلعي المُطبق حالياً، يتضح إنه في جوهره ليس دعماً للفُقراء، وإنما رشوة سياسية يتحمل دفع فاتورتها فُقراء الريف المُنتجين لأثرياء المُدن المُستهلكين، ويؤكد ذلك تبرير النخب السياسية الحاكمة وسعيها إلى إستدامة هذا النزيف (غير القابل للإستدامة والإستمرارية- لحُسن الحظ) وزعمهم بأن "التكلفة السياسية" عالية جداً لرفع الدعم، ولا يفوت على فطنة القارئ؛ أن المقصود بـالتكلفة السياسية العالية هو "الخوف من ثورة الجماهير وإسقاط الحكومة" أي بصريح العبارة الخوف من فقدان المناصب الوزارية، والتمسك بالمنصب حتى ولو تم على حساب المصلحة العامة والعُليا للدولة !!!. وهي ذات السياسة التي ظل ينتهجها النظام البائد ضارباً عرض الحائط بالمصالح العُليا للدولة في سبيل الإحتفاظ بالسُلطة-الكنكشة (التمكين، فصل جنوب السودان، تأجيج حرب دارفور والمنطقتين، تدمير المؤسسة العسكرية وإنشاء قوات موازية لحماية النظام إالخ)، ولكن ومع ذلك سقط النظام بسبب عجزه عن الإستمرار في هذا الدعم الغبي وفشله في تقديم الخدمات الأساسية الاُخرى، وإذا ما استمرت حكومة الفترة الإنتقالية في التمسك بنهج النظام البائد فسوف يكون مصيرها ذات المصير.
6. المُعالجات والبدائل المُثلى:
حلول إسعافية فورية:
- رفع كافة الرسوم والضرائب عن كافة أنواع الذُرة والمحاصيل الغذائية المُنتجة محلياً وخاصةً الّذُرة بكافة أنواعها، بل وشرائها من المُنتجين بسعرٍ مدعوم- أسوة بمحصول القمح- وذلك بشراء البنك الزراعي/المخزون الإستراتيجي، لكميات كبيرة من (100,00 جوال على سبيل المثال) وبيعها بسعر مدعوم لبائعات الكسرة، والأسر الفقيرة -مع التركيز على تجمعات السكن العشوائي- في العاصمة وعواصم الولايات، مع إلزام بائعات الكسرة بالتقيد بالتسعيرة التي يُتفق عليها بينهن ووزارة التجارة، بحيث تكون الكسرة أرخص من رغيف الخُبز (أو مساويةً له على أقل تقدير)، وأن يتم البيع للمُستهلكين بالكيلو لتيسير المُقارنة مع رغيف الخبز (وليس بالطرقة التي تختلف حجماً من بائعةٍ لأُخرى).
- إلزام المخابز بوزن موحد لقطعة رغيف الخُبز الواحدة (70 جرام مثلاً) والبيع بالكيلو (كُل 14 قطعة خُبز تساوي كيلوجرام، تقريباً)، والهدف من ذلك تسعير وبيع كسرة الذرة الرفيعة بالكيلو أيضاً، لتسهيل المُقارنة للمستهلك بين سعر السلعتين، كما أسلفنا.
- إلغاء نظام وكلاء التوزيع بحيث تكون العلاقة مُباشرة بين المطاحن وأصحاب المخابز مُباشرة، وذلك بإلزام المطاحن بإنشاء منافذ توزيع أسوة بكافة المصانع والشركات الكبرى.
- تسليم المطاحن دقيق القمح للمخابز بالسعر الجاري (بدون دعم)، لكي يكون الدعم لأصحاب المخابز مباشرة وليس لأصحاب المطاحن (في حال أثبتت الدراسة التحليلية ضرورة الدعم)، والجلوس مع أصحاب المخابز وحساب التكلفة بكُل شفافية وأمانة ومن ثم تحديد سعر البيع للمُستهلك مُباشرة. وقد أثبتت تجربة الخُبز التجاري إستعداد المُستهلك لتقبل رفع سعر الخبز توفيراً للوقت والجهد، إذ لا يعقل أن يُباع كيس التمباك الصغير أو الليمونة الواحدة أو كوز الموية "وكلها منتجات محلية" بخمسة جنيهات بنما تُبع رغيفة الخبز بجنيه واحد فقط (هل يوجد في السودان حالياً سلعة تُباع بجنيه واحد فقط) وهل من المنطق شراء مائة قطعة خبز بما يُعادل أقل من دولار واحد فقط؟؟؟.
- استلام دقيق القمح وتوزيعه للمخابز بعد خلطه بالذُرة الرفيعة بالنسبة التي توصي مراكز بحوث الأغذية، وبالتالي مُعالجة مُشكلة التهريب خارجياً والتسريب بدون الحاجة إلى رقابة من قوات مُكافحة التهريب (وطالما يوجد فارق كبير جداً بين سعر السلعة محلياً وسعرها بالدول الخارجية فسوف يستمر التهريب ولو تم بناء جدار عازل بين السودان وبين هذه الدول المجاورة.
- حظر إستيراد العربات الملاكي خلال الفترة الانتقالية (فقد دخلت أعداد هائلة من العربات المُهربة من ليبيا وغيرها "بوكو حرام") وعموماً فإن استيراد مزيد من السيارات الملاكي لا يعني سوى زيادة استخدام الوقود الرخيص ومفاقمة ازمة المواصلات.
- حظر إستيراد العربات الحكومية خلال الفترة الإنتقالية (والاستفادة من العربات المُصادرة من حزب المؤتمر الوطني، وغيره من مُنظمات ومؤسسات النظام السابق).
- ربط عملية تحويل الدعم التدريجي بزيادة الأجور.

خُطة طويلة المدى:
 العمل على تغيير العادات الغذائية لعامة الشعب بالعودة إلى إستخدام المحاصيل الغذائية المحلية في الغذاء اليومي، أي إعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل عدة عقود.
 توجيه وزارة الزراعة بتحقيق الإكتفاء الذاتي من القمح المُنتج محلياً والتوسع في القمح بالقطاع المطري فيها (إذ أفاد المنسق القومي للقمح، وأكد على وجود أصناف ذات إنتاجية عالية ومتكيفة مع المناخ المداري)، وذلك خلافاً للإنطباع السائد بأن زراعة القمح لا تنجح إلا في المناطق الباردة والمروية.
 التوسع في زراعة الذرة الشامية التي يُمكن إستخدامها في إنتاج زيت الطعام والغذاء، إذ أثبتت الدراسات أن إنتاج الذرة الشامية أقل تكلفةً وأعلى سعراً في السوق العالمي، خاصةً في محيطنا الإفريقي (إحيث تعتبر الغذاء الأساسي لكثير من الشعوب الإفريقية).
 دراسة مدى إمكانية إنتاج رغيف الخبز من الذرة الشامية (بالإضافة إلى الذرة)، أو مدى إمكانية خلطها بدقيق القمح، وفي ذلك يُمكن الإستعانة بخبرات وتجارب مراكز البحوث الغذائية الإقليمية، التي تقوم بدراسات علمية في هذا المجال وأحرزت تقدماً كبيراً في هذا المجال.
 وضع خُطة إستراتيجية يكون محورها إنسان الريف (خُطة إستراتيجية للتنمية الريفية المُتكاملة، الشاملة المُستدامة)، وأن تكون هذه الخُطة مرجعاً في قياس مدى فائدة أو ضرر أي تدخل حكومي أو قرارات أو برامج إقتصادية، وبالتالي معرفة مدى تأثيرها على إنسان الريف (المُنتج الصغير).
 إدراج البُعد التنموي في جهود إحلال السلام، فقد أثبتت الدراسات أن غياب التنمية الريفية ونهب الموارد (ضمن عوامل أُخرى أقل أهمية) من الأسباب الجذرية للنزاعات والحروب الأهلية. وفي ذلك، وعلى سبيل المثال، يُمكن الإستفادة من من الأرضي الزراعية الشاسعة بولاية النيل الأزرق؛ أراضي شركة التكامل السوداني/المصري بالروصيرص/شنفور، وأراضي مزرعة أقدي-الدمازين، وتقسيمها إلى حواشات وتوزيعها للمُسرحين من قوات الحركة الشعبية-عقار، وبالتالي تحويل هذه القوات من فئة مُستهلكة إلى فئة منتجة. وذات الأمر ينطبق على منطقة جبال النوبة/جنوب كردفان، بالإستفادة من مؤسسة جبال النوبة الزراعية ومشاريع هبيلة للزراعة الآلية المطرية في تحويل المُحاربين "المُستهلكين" إلى مُنتجين، وحصولهم على مكسب "جُعل/حصة-Dividend"، وينطبق ذات الشئ على ولايات دارفور.

حُجج المُعارضين لترشيد/تحويل الدعم ليصل إلى مُستحقيه فقط:
 تُعارض اللجنة الإقتصادية لقوى إعلان الحُرية والتغيير برنامج الحكومة لترشيد الدعم تدريجياً وتحويله ليصل إلى مُستحقيه حصرياً (وفقاً لمشروع ميزانية 2020)، بحُجة أن ترشيد/تحويل الدعم سوف يؤثر سلباً على الفئات الضعيفة، علماً بأن الدراسات المُحكمة أثبتت أن الفئات المُقتدرة هي الأكثر إستفادةً من دعم المحروقات (وخاصةً البنزين).
 صرحت اللجنة على لسان العديد من قادتها بأن "القضية ليست قضية موازنة أو رفع أو عدم رفع، وإنما القضية في جوهرها بالنسبة للجنة؛ مسألة صراع ومُفاضلة واختيار بين طريق التطور الرأسمالي وطريق التطور الإشتراكي، وهذا يعني تحويل المسألة من أزمة ومشكلة اقتصادية داخلية "نزيف ما يُسمى بالدعم"، إلى صراع آيديولوجي لا يُهم المواطن المغلوب على أمره؛ علماً بأن إختيار الآيديولجية الإقتصادية التي ينتهجها السودان ليس من إختصاص هذه الحكومة الإنتقالية (ذات التكليف المحدد بإنجاز الإنتقال من نظام حُكم عسكري إلى الحُكم المدني، وبناء مؤسسات التحول الديمقراطي، وبالتالي يُقاس مدى نجاجها أو فشلها في أداء تكليفها، بمدى نجاحها في إجراء إنتخابات على نظام الديمقراطية البرلمانية (Parliamentary Democracy ) حُرة ونزيهة تُمثل رأي الشعب تمثيلاً صادقاً، وذلك خلال فترة زمنية مُحددة)، كما أن هُنالك سؤال جوهري يتبادر إلى الذهن، هل تُمثل رؤية المجلس المركزي واللجنة الإقتصادية لقحت، وجهة نظر كافة مكونات قوى إعلان الحرية والتغيير، أم أنها موقف آديولوجي لتيار سياسي واحد ضمن القوى المتعددة والمتباينة التي تُشكل هذا التحالف العريض، المبني على أساس الحد الأدنى- تسقط بس؟!..
أعتقد ان السودان لا يملك في ظل أزمته السياسية والإقتصادية الخانقة الراهنة، ترف الجدال واللجاج الآيديولجي، إذ أن الواجب المُلح الآن إيقاف نزيف الدعم وتحقيق متطلبات الحد الأدنى من العيش الكريم وكفالة حقوق الإنسان الأساسية (الغذاء والكساء والمأوى والصحة والتعليم ومياه الشرب النقية وتوفير فُرص العمل اللائق).
تتهم اللجنة الإقتصادية لقحت، وزير المالية بتطبيق روشتة البنك الدولي المعروفة بــ "برامج التكيف الهيكلي- Structural Reform) الذي تتبناه مجموعة الليبراليين الجُدد، والقائم على رفع الدعم عن السلع، وكف يد الدولة عن التدخل المباشر في آلية العرض والطلب التي تقود تلقائياً إلى ضبط وتناسق الأسعار، وأن يقتصر دور الدولة في الرقابة والإشراف وسن التشريعات المُنظمة للعمل التجاري والإستثماري ومحاربة الفساد وغسيل الأموال والتحويلات النقدية السرية غير المشروعة، وعدم التدخل في آلية العرض والطلب والأسعار، والشفاية إلا في حالات الضرورة القصوى. وعلى الرُغم من غلظة هذا الإتهام وعدم وجود أدلة تسنده إلا أننا نتغاضى عن ذلك (فالوزير الذي ضحى بوظيفة مرموقة يسيل لها لعاب الكثيرين، لا يحتاج إلى من يدافع عنه)، ولكن دعونا نتساءل؛ هل إذا توافقت توصيات مؤسسات التمويل الدولية مع رؤية خبرائنا الإقتصاديين يُعد ذلك خنوعاً وإذعاناً لشروط هذه المؤسسات الدولية؟ وهل هذه المؤسسات تمنح أموال دافعي الضرائب بالدول الأطراف المُنتمية إليها، وتشطب ديونها أو تقدم أموالها لدولة تهدر لا تستوفي هذه المعايير (ليست شروط إذعان كما يحاول البعض تصويرها) وتبدد أموال دافعي الضرائب وتمنحها لدولة تُسيء إدارة شأنها العام (Bad Governance)، إذ أن مؤسسات التمويل الدولية موْتمنة على حُسن إدارة أموال أعضائها، ويخضع وزراء المالية ومجالس إدارات مؤسسات التمويل الدولية للرقابة الصارمة والخضوع للمُساءلة والمُحاسبة.
واهم من يظن أن هنالك منح وهبات بدون مقابل في المؤسسات الدولية والعلاقات الثنائية والمتعددة، كما أن علينا الانفكاك من أسر شعارات حقبة الحرب الباردة، وترك خيار المذهب أو المدرسة الإقتصادية لكلمة الشعب عبر التصويت في الإنتخابات القادمة على البرنامج السياسي والاقتصادي الذي تطرحه الأحزاب على الناخبين، وعندها "الحشاش يملأ شبكته".
 إن الزعم بأن رفع الدعم (وهو في الحقيقة ليس رفعاً للدعم بل ترشيده وتحويله لمن يستحقه) فالحكومة لا تزال تدعم البنزين التجاري بحوالي خمسين في المئة (50%)، حتى بعد رفع سعر لتر البنزين التجاري من ستة جنيه تقريباً إلى ثمانية وعشرين جنيهاً، لذا ينبغي الإلتزام بالحقائق وعدم تغبيش وعي الجماهير بدلاً عن توعيتها بمصالحها- التي لا تتحق بدعم البنزين.
 هل يؤدي دعم البنزين بهذه التكلفة الخُرافية إلى تخفيف حدة الفقر الذي يرزح تحته 60% من السُكان، وهل يملك الشخص الذي يبلغ دخله الشخصي اليومي واحد دولار فقط سيارة خاصة؟! ليستفيد من دعم البنزين، أن هذا الدعم يذهب إلى المُترفين اكتنزوا الأموال وامتلكوا العقارات وامتطوا السيارات الفارهة من عضوية المؤتمر الوطني الفاسدة المُفسدة؟!.
 هل وصل وصل صُناع القرار والخُبراء الحاكمين حالياً من أبناء وبنات الفُقراء والطبقات الكادحة إلى ما هُم/هُن فيه من إنتقال طبقي نتيجة لدعم حكومة الاستعمار والحكومات التي تلتها للبنزين والرغيف، أم نتيجة لدعم التعليم (بل مجانيته) في كُل المراحل الدراسية بما في ذلك التعليم الجامعي والدراسات العُليا؟!، وهل تم إنتشالهم/انتشالهم من حُفرة الفقر بسبب دعم الرغيف أم بسبب توفير الرعاية الصحية المجانية "اتقوا الله في أهليكم ولا تغبشوا رؤيتهم وتقودوهم إلى ما هو ضد مصلحتهم".
 في الختام يقول المثل السوداني "كُل شوكة بيسلوها بمنقاشه" فدعونا نُعالج مشاكلنا بموضوعية وبدون تطرف والتمسك بمواقف صمدية لا تلائم مقدرات الدولة الإقتصادية والمالية، كما على الحاضنة السياسية لهذه الحكومة "عدم إغتصاب الدور التشريعي، وممارسة حق النقض-الفيتو" والكف عن التدخل المُفرط في أداء الحكومة الإنتقالية.
وعموماً ورغم كُل ما قيل فلن تُـجدي هذه الحلول وتؤتي اُكلها إلا إذا تمت في إطار برنامج إقتصادي إستناداً على: حُطة إستراتيجية للتنمية الريفية المُستدامة المُتكاملة الشاملة في السودان، يكون محور عملها هو المواطن البسيط بالريف والهامش. "هذا موضوع سوف نتناوله بمُساهمة أكثر تفصيلاً وعُمقاً، قريباً إن شاء الله".
والسلام عليكم ووفقنا الله لخدمة وطنا الحبيب وشعبنا الذي أنفق على تعليمنا وتأهيلنا،
وعلينا رد الدين بما يستحقه هذا الشعب العظيم وثورته الفريدة، ووفاءً لتضحيات شُهداء الثورة الأبرار.
*********************
د. مهدي إسماعيل مهدي – بريتوريا/جنوب إفريقيا- (20/مارس/2020)
- بكالريوس إقتصاد زراعي- كلية الزراعة/قسم الإقتصاد الريفي – جامعة الخرطوم
- ماجستير تخطيط التنمية – جامعة لندن
- دكتوراه "إدارة الموارد الطبيعية وتحدي التنمية الريفية في السودان" - جامعة جنوب إفريقيا

mahdica2001@yahoo.com

 

آراء