تداخلات السياسية والقانون

 


 

 

تداخلات السياسية والقانون في رفض محكمة الأستئناف

الأمريكية تعويض تدمير مصنع الشفاء 2-2

Kha_daf@yahoo.com

أستعرضنا في الحلقة السابقة الحيثيات القانونية التي ساقتها محكمة الأستئناف لمراجعة الحكم القضائي الصادر من محكمة الموضوع بشأن القضيتين المرفوعتين من مالك مصنع الشفاء صلاح إدريس ، الأولي ضد الحكومة الأمريكية والتي طالب فيها بالتعويض المادي بمبلغ 50 مليون دولار ، والثانية ضد وكالة المخابرات المركزية بشأن أشانة السمعة نسبة للتصريحات التي أصدرها مسئولوا الوكالة الذين أتهموه بغسيل الأموال ، وتمثيل مصالح بن لادن التجارية في السودان. 

خلصت محكمة الأستئناف الي أن المبررات العامة التي قدمها الرئيس كلنتون لعمله العسكري لضرب المصنع، يرتبط دوما بالأستراتيجية العسكرية ،والأمنية للدولة في أطار أهداف السياسة الخارجية ، وبالتالي فأن التبريرات التي يسوقها الرئيس للقيام بعمل عسكري ما، تعتبر جزءا من عملية أنفاذ السياسة الخارجية،وسياسة الحرب التي لا يطلب الدستور الكشف عن أهدافها وخفاياها.وبالتالي فأن أعمال الرئيس في المجال السياسي والأمني والسياسة الخارجية يقع خارج أختصاص الجهاز القضائي، ويحميه الدستور بالحصانة الممنوحة للرئيس وأعضاء الجهاز التنفيذي.

أعتمد محامي صلاح أدريس علي القانون الأمريكي العام، وقانون الكونقرس الذي يقر بصورة واضحة أنه ليس من واجبات وكالة المخابرات المركزية نشر الأكاذيب عن الأشخاص. ورغم قرار محكمة الموضوع بأن شكوي صلاح إدريس حول أشانة سمعته ضد الوكالة تقع خارج أختصاصها القانوني ، إلا أن محكمة الأستئناف أقرت بأن هذه المبررات من محكمة الموضوع ليست كافية بأعتبارها تدخلا في صميم العمل السياسي للدولة، في ظل عدم تقديم الحكومة الأمريكية لأي أجابة حول هذا السؤال. وعليه فأن شطب دعوي أشانة السمعة تبدوا سابقة لأوانها. وتعتبر المحكمة أن القانون الفيدرالي العام ، يعضد حماية الموظف العام في تصريحات أشانة السمعة ، بعكس القانون العام للعاصمة الأمريكية واشنطون التي تعطي الشاكي حق أستدعاء الموظف العام لتبرير دوافع أشانة السمعة إذا توفرت الأسباب القانونية المقنعة وفق السوابق المعمول بها. هذا رغم أن قانون الكونقرس ربما يقيد هذا الحق في القانون العام لمقاطعة كولمبيا (العاصمة واشنطون) فيما يختص بقضايا السياسة الخارجية وشئون الأمن القومي.

وتخلص محكمة الأستئناف الي أن صلاح إدريس لا يملك الحق الدستوري لمساءلة الرئيس كلنتون عن الدوافع الحقيقية لضرب مصنع الشفاء ، أو أي جهة حكومية أخري للكشف أو تبرير ضرب أهداف عسكرية. ولكن في المقابل فأن محكمة الأستئناف تري أنه لا يوجد تعارض بين العمل السياسي للحكومة وفقا للدستور الأمريكي ، وبين عمل الجهاز القضائي ، يبرر شطب دعوي أشانة السمعة التي رفعها صلاح أدريس ضد وكالة المخابرات المركزية CIA.

وأقرت محكمة الأستئناف الحكم التي أصدرته محكمة الموضوع ، بشطب دعوي التعويض أستنادا لقانون الأمم الذي يلزم الدول بتعويض الأفراد نتيجة لتدمير ممتلكاتهم.وذلك لأن الدستور الأمريكي يمنح حصانة مطلقة للرئيس والجهاز التنفيذي في أطار ممارسة سلطاته السياسية في شأن السياسة الخارجية والأمن القومي. كما عارضت محكمة الأستئناف قرار محكمة الموضوع بشطب دعوي أشانة السمعة ، فاتحة الباب أمام مالك مصنع الشفاء لأستئناف قرار شطب القضية ، وأعادة فتحها من جديد أمام محكمة الموضوع ، مما يمنح السيد صلاح إدريس فرصة مقاضاة وكالة المخابرات CIA في التصريحات التي طالته وأتهامه بجرائم غسيل الأموال ، وتمثيل مصالح بن لادن التجارية في السودان.ولا شك أن هذه معركة قانونية قد يطول أمدها ، سيما وأن المحكمة قد وضعت عبء الأثبات علي عاتق محامي صلاح إدريس. ورغم رفع الحصانة عن وكالة المخابرات وفقا لقانون الأجراءات الأدارية، إلا أن فرص الكسب القانوني لهذه القضية يعتبر ضعيفا ، لأن الجهاز التنفيذي للحكومة الأمريكية، يتمتع بترسانة من الحصانات الدستورية والقانونية التي تحول دون كسب القضية. وفي نهاية الجولة القانونية نتوقع أن ينتصر تبرير الجهاز التنفيذي بأنه أستخدم تصريحات أشانة السمعة بأعتبارها جزءا من تكتيكات الحرب علي الأرهاب.

لقد خسر صلاح إدريس قضيته ضد الحكومة الأمريكية ، وخسر بالتالي التعويض بمبلغ 50 مليون دولار، لأعادة بناء المصنع.ولكن فتح له قرار محكمة الأستئناف مواصلة قضيته في أشانة السمعة ضد وكالة المخابرات المركزية ، والتي سيطالبها أيضا بتعويض مالي ، وبأعلان قضائي تقر فيه المحكمة ،بأن الأتهامات الصادرة ضد وربطه بشبكة الأرهاب باطلة وغير صحيحة. وتلك معركة قانونية قد تطول وتمتد لسنوات ، كما أمتدت قضية تعويض تدمير المصنع. وقد أتضح بعد كل هذه السنوات خطأ تقدير الأدارة الأمريكية لضرب مصنع الشفاء نتيجة لمعلومات مضللة وكاذبة.وقد أعترف الرئيس بوش الأبن وطاقمه بذلك الخطأ الفادح خلال مناقشتهم لأستراتيجية مكافحة الأرهاب ، بعد أحداث 11 سبتمبر.إذ كشف الصحفي بوب وودورد في كتابه Bush at War أن طاقم الأمن القومي للرئيس بوش قد ناقش ضرورة تفادي الأخطاء السابقة لضرب الأهداف العسكرية الخاطئة مشيرين الي حادثة ضرب مصنع الشفاء. وقد أقر وزير الخارجية حينها كولن باول ، ومستشارة الرئيس لشئون الأمن القومي كوندليزا رايس بذلك الخطأ وضرورة تجنب ذلك في الحرب علي الأرهاب. رغم الأعتراف الجلي والواضح بخطأ ضرب وتدمير المصنع ، ولكن لا يوجد من يتحمل المسئولية القانونية لذلك الجرم وذلك نسبة لترسانة الحصانات الدستورية القانونية التي يتمتع بها الرئيس والجهاز التنفيذي في الولايات المتحدة.

 

لقد كشفت قضية ضرب مصنع الشفاء مدي الحصانة الدستورية التي يتمتع بها الرئيس والجهاز التنفيذي ، في أطار أنفاذ مهامهم الرسمية في السياسة الخارجية والأمن القومي. هذه الحصانة تطلق يد الرئيس ومستشاريه ومساعديه في أستخدام مقدرات القوة الأمريكية ، والقوة العسكرية المفرطة لتحقيق أهداف السياسة الخارجية دون مساءلة قانونية.ولعل أقوي الشواهد علي هذا المثال، الحرب علي العراق حيث سقط ملايين القتلي وتشرد ملايين المدنيين دون أن يتحمل أحد مسئولية تلك الكارثة الأنسانية.لقد حاولت حركة لاروش في الولايات المتحدة مساءلة ومحاكمة نائب الرئيس السابق ديفيد شيني بأعتباره الرأس المدبر للحرب علي العراق ،ولكنها عجزت عن تقديمه للمحكمة نسبة للحصانة الدستورية التي يتمتع بها تجاه أفعاله السياسية وفقا لممارسة دوره الرسمي.وقد كشفت تجربة الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة أن تقييد سلطة الرئيس بالكونقرس في شأن الحروب الخارجية غير كافية لأنه يمكن أن يستخدم الأغلبية الميكانيكية لحزبه لتمرير القرار ، أو تقديم معلومات مضللة لأعضاء الكونقرس كما فعل الرئيس بوش لشن الحرب علي العراق.إن أقصي سلطة يملكها الكونقرس ضد الرئيس هو سحب الثقة، وهو أجراء معقد يتطلب توفر أغلبية ساحقة لتمرير القرار. ويتضح جليا مبدأ أزدواجية المعايير، بين نظام يوفر الحماية والحصانة الدستورية المطلقة للرئيس لأستخدام مقدرات أقوي الجيوش في العالم دون مساءلة قضائية ، وبين رؤساء  العالم الثالث الذين يمكن تقديمهم لمحاكمات دولية لأتهامات واهية تتعلق بأنتهاكات حقوق الأنسان.

لقد خاض الأستاذ صلاح إدريس معركته القانونية حتي النهاية ، فقد خسر قضية التعويض بضرب المصنع ضد الحكومة الأمريكية ، وهو الآن في طور أستئناف قضية أشانة السمعة ضد وكالة المخابرات المركزية. ولكن في المقابل تنازل السودان عن قضيته السياسية، التي عاني فيها أنتهاكا صارخا لأسس سيادته الوطنية. فقد أفلحت الدبلوماسية السودانية في أعقاب ضرب المصنع في شن حملة مكثفة في كل العواصم والمنابر الدولية ضد واشنطون تطالبها بأبراز الادلة، وأرسال بعثة تقصي حقائق دولية لموقع المصنع. ولعل أقوي شهادة دعمت من موقف السودان هو ما أدلي به المهندس البريطاني توماس قرانفين الذي عمل مديرا فنيا للمصنع ونقلته الصحافة العالمية في حينها حيث أكد أن المصنع لم يكن يحتوي على شيء سري و لم يكن تحت حراسة مشددة كما إنه لم يشهد قط أي دليل على إنتاج مكون لإنتاج غاز الأعصاب.  ولعل التطور القانوني الأهم هو أن النائب الجمهوري دانا رورباشار طالب في 28 سبتمبر 2000 بتشريع من المحكمة المختصة لدراسة ضرب مصنع الشفاء للأدوية في العاصمة السودانية والنظر في منح صاحبه رجل الأعمال السوداني صلاح ادريس تعويضاً بـ50 مليون دولار.كما جمدت الحكومة الأمريكية مبلغ 25 مليون لصلاح أدريس في بانك أوف أمريكا.   أنتقد أيضا المفكر الأمريكي المرموق نعوم تشومسكي قرار قصف المصنع وقال: كان عملاً مرعباً قامت به حكومة الولايات المتحدة . و أوضح تشومسكي في إدانته الخالدة تلك إن ذلك القصف يشابه  ( جرائم أخرى كبرى ) مثل إغتيال لوممبا الذى أدى إلى سقوط الكونغو في وحل من الذبح ما يزال مستمراً و كإنقلاب غواتيمالا عام 1954 م الذي أوقع البلاد بعده في دوامة من الفظائع أستمرت لعدة عقود.

                استطاع السودان أن يحشد التأييد الدولي والأقليمي مطالبا مجلس الأمن في كل سنة الوفاء بإلتزاماته تجاه القضية وفقا لقواعد القانون الدولي..وقد أيدت الجامعة العربية ، الاتحاد الأفريقي والمنظمة المؤتمر الأسلامي طلب السودان العادل في هذا الصدد.

لقد أوفي الأستاذ صلاح أدريس بمتابعة البعد القانوني للقضية ، إذ يستحق أن ينال تعويضا عادلا لما لحق به من أضرار مادية ، وأن ينال أنصافا أدبيا وقانونيا لما لحقه من أتهامات لتشويه سمعته ، عندما ألصق به مسئولوا وكالة المخابرات تهم غسيل الأموال ، وأرتباطه التجاري ببن لادن. ولكن في المقابل عجزت الحكومة في متابعة البعد السياسي للقضية ، حيث كان يلزمها متابعة ما أبتدرته لمواصلة حملتها السياسية والدبلوماسية للتذكير بتلك الجريمة، والضغط للحصول علي التعويض العادل لمالك المصنع.ولعل الحصافة السياسية كانت تتطلب أن يضع السودان ضرورة الأعتذار عن ضرب المصنع ضمن أجندة التفاوض الثنائي مع واشنطون.قد يبدو ذلك خياليا، حيث لم تعتذر فرنسا عن جرائمها الاستعمارية في الجزائر، كما لم تعتذر أمريكا عن جرائمها في فيتنام. ولكنها بعضا من تكتيكات السياسة لتعظيم قيمة أوراق الكوتشينة في لعبة الكونكان السياسية.

 

آراء