تداعيات في حب الوطن … بقلم: كمال الدين بلال / لاهاي

 


 

 

kamal.bilal@hotmail.com

 

 

اختلفت دوافع من شارك في مؤتمر الإعلاميين السودانيين بالخارج الذي انعقد مؤخراً في الوطن الحبيب، فمن المؤتمرين من اعتبره فرصة للإطلاع على أوضاع الوطن عن قرب والاستماع إلى بعض الشخصيات المؤثرة في النظام الحاكم ومناصحتهم، وهنالك من راء فيه مناسبة سانحة لإبداء الدعم للحكومة القائمة، وآخرن رأوه سانحة للالتقاء بزملاء المهنة حسياً بعد التعرف عليهم عبر عالم الإنترنت الافتراضي، والبعض الأخر اعتبر المشاركة فيه وأجباً وطنياً ومهنياً في ظل التحديات الجسام التي تواجه مستقبل البلاد عملاً بالحكمة القائلة بأن في السفينة الغارقة لا يوجد مسافرون فالجميع ملاحون. وفي مقابل ذلك اختلفت نظرة الإعلاميين غير المشاركين في المؤتمر للمشاركين فيه فمنهم من اعتبر مشاركتهم خيانة مهنية ودعماً للحكومة القائمة ورفعاً لأسهمها في بورصة الإعلام الخارجي ومساهمة في ستر عورة إقليم دارفور المنكشفة، وهنالك من رأى فيهم  انتهازيين أو مغرراً بهم حسني النية، ومنهم من أحسن الظن بهم واعتبر مشاركتهم جزءً من ممارسة حرية الاختيار وأعطوهم حق تقدير الأمور.

 

تناولت الأستاذة منى ابوزيد في تعقيبها الناقد لورقة عمل قدمت في المؤتمر حول قضايا الإعلاميين السودانيين العاملين بالخارج الموضوع من منظور الإشكاليات التي تواجه المغترب السوداني عموماً، وتطرقت ضمن حديثها الشيق  إلى ضعف شعور  المواطن السوداني بالانتماء إلى الهوية الثقافية السودانية الجامعة مما يؤثر سلباً على اهتماماته وأولياته وانفعالاته بالقضايا . أجد نفسي أوافق الأستاذة فيما ذهبت إليه وأظن أن تربيتنا ومناهجنا التعليمية أسهمت في حدوث هذا الخلل في الشعور الوطني لدى المواطن السوداني عموماً، فنحن شعب يختلف حول بعض الأمور التي تعتبر عند الشعوب الأخرى مسلمات وطنية، حيث ما زلنا ندور في فلك تعريف الهوية وحدود المعارضة للنظام الحاكم دون الوقوع في المحارم الوطنية. وقاد عدم نضوج مفهوم الهوية الثقافية السودانية في العقول والقلوب إلى إعاقة حلم الوصول إلى قومية سودانية منسجمة. وقديما عرف البعض حب الوطن بأنه ينبع من حب وفخر بتاريخ الأمة بينما تنشأ القومية من الأمل الجمعي في مستقبل الأمة. هذا الواقع إضافة إلى أن جحود الأنظمة الحاكمة المتعاقبة في توزيع السلطة والثروة أدى إلى كفران البعض برحابة مفهوم المواطنة الواسعة الذي يتسع للجميع وجعلتهم يحتمون بسياج القبيلة الضيق، وهي نتيجة حتمية فحب الوطن ينطبق عليه ما ينطبق على مفهوم الحب مطلقا، فهو أمر متبادل ويكون من طرفين، فالطفل الذي يجد أبويه يدفعان له رسوم التعليم والعلاج دون دعم من الدولة ولا يجد فرصة عمل بعد تخرجه يكون ارتباطه ببلده مشوهاً مما يجعله يهرول عند أول فرصة سانحة نحو الهجرة إيمانا بنظرية الغنى في الغربة وطن والفقر في الوطن غربة.

 

هذه الخواطر المبعثرة وغيرها من مشاكل السودان المتشعبة اختلجت في صدري أثناء سفري إلى الجزيرة الخضراء لقضاء ليلة اختلستها في بيت العائلة في مدينة المناقل بعد انقضاء المؤتمر وقبيل عودتي إلى مدينة لاهاي (بيت الداء)، وللأسف فإن بعض تلك  المشاكل أرادت فئة من أبناء هذا الوطن أن تطوقه بحبل من مسد لا يستطيع لها فكاكا ذهبت هذه الحكومة أم بقيت، وبالرغم من سحابة التشويش والتشاؤم التي راودتني فقد كنت على يقين بصحة الحكمة القائلة بأن تشاؤم الفكر يمكن أن يغلبه تفاؤل الإرادة، وقديما قيل أنه ربما لا تستطيع أن تمنع طيور الهم أن تحلق فوق رأسك ولكنك تستطيع أن تمنعها أن تعشش فيه، فيقيني أن الشعب السوداني شعب فريد وذلك بشهادة كل من عرفه، فهو شعب تمكن بجدارة من تجاوز الكثير من التحديات حتى أنه أستطاع أن يتغنى طربا ويمجد بعض هزائمه كما في معركة كرري إيماناً بأن الما بكسرك بقويك، وأكاد أجزم بأن هذه ليست قناعتي وحدي بل هي قناعة راسخة في الوعي الجمعي للشعب السوداني كافة، وأظن أن هذه أول طوبة صلبة يجب أن نبني عليها، فالسودان بلد حباه الله بثروات ندر أن تجتمع في بلد واحد من مياه عزبة وأرض خصبة وبترول دافق ومعادن نفيسة ورجال ونساء معطاءين إذا توفرت الإرادة.

 

بمجرد دخولي مدينة المناقل اجتاحتني مشاعر الانتماء لهذه الأرض الحنينة وبيئتها وفضائها الممتد بالرغم مما أصابها من إهمال متعمد، فيقيني أن قوة العلاقة الوجدانية ببعض الأرض انتماء للأرض كلها، وقديما قال المتنبي لك يا منازِلُ في القلوبِ منازلُ** أقفّرتِ أنتِ وهنّ منكِ أواهِلُ. والمناقل لمن لا يعرفها مدينة تتميز بخريطة جغرافية لا تعرف مد البصر نحو المنبسط بل نحو الفضاء الرحب بلا أفق، فهي تجمع بسلاسة بين طبيعة معطاءة وتركيبة سكانية تشبه قوس قزح تتميز العلاقات الاجتماعية بينها بخصوصية وحميمية.  امتدت الحالة الوجدانية التي انتابتني إلى المساء مما نتج عنه أرق جميل طرد النوم من عيني وأدخلني في حالة شجن لم أشعر به منذ أمد بعيد، فكان جسدي الممد في سرير في الحوش الكبير يتفاعل مداً وجزراً مع القمر فوقي والأرض السمراء تحتي ولا عجب في ذلك فالعلم أثبت أن ثلثي جسم الإنسان من الماء، وكنت أشعر بانجذاب أكثر نحو الفضاء الرحب كأنما هنالك قوة مغنطيسية قوية ممسكة بتلابيبي، وكانت النجوم تتلألأ كأنها في حالة غزل ومشاغلة فاضحة معي لاشتياقها لي واشتياقي لها، هذا الحالة جعلتني في حالة تناغم مع المنظومة الكونية ونواميسها أملاً في سبر بعض أغوارها وهرباً من واقع السودان الذي يتجاذبه أبناؤه قبل أعدائه، فدخلت في حالة استلاب وجداني وتماهي فكري جعلاني أذوب في ملكوت الله تعالى أملاً في الخلاص، وهو حسب ظني درجة من درجات الفناء الذي يقصده أهل الصوفية، فقد كنت كالذي يسبح لاصطياد الشهب التي يرمي بها الله سبحانه وتعالى مسترقي السمع للعالم العلوي من شياطين الجن لأوجهها لصدور شياطين الأنس الذين يريدون شراً بهذه الأرض المعطاءة وأهلها، واستمرت حالة الشجن تلك لساعات ولم يرجعني إلى الواقع المؤلم سواء لسعات الباعوض ونباح كلاب الجيران. وأختم قولي هذا بأبيات للشاعرة المصرية «شريفة فتحي»، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه:

 

لست الرجيم ولا الملاك وإنما

 

بعضي على أرضى وبعضي في السماء

 

ويلٌ لنورٍ في السماء إذا ارتمى أرضاً

 

وطوبى للترابِ إذا سما

  لاهاي

 

آراء