تعقيب على الصَّديق حامد بشرى

 


 

 

kgizouli@gmail.com

عزيزي حامد بشرى
تحياتي
أعتذر، أوَّلاً، عن تأخُّر هذا التَّعقيب في شأن موضوع "الفوهرر بوتين"، بسبب ظروف السُّودان التي تعلمها، وعموماً أرجو قبوله مقتضباً، لنفس الأسباب، في النِّقاط الأربع الآتية:
(1) في مقالتي المشار إليها لم أبرئ ساحة الأوليغارشيَّة الأوكرانيَّة من الشُّوفينيَّة التي تبلغ، هي الأخرى، حدَّ النَّازية، كما ولم أحاجج بأن نظام زيلينسكي ليس عدوانيَّاً. بل لقد ظلوا كذلك حتَّى في أزهى أيَّام الاتِّحاد السُّوفييتي؛ ولا يحتاج الأمر لدراسات متعمِّقة، فهو مِمَّا قد يعلمه عنهم كلُّ من عايش، مجرَّد معايشة، قطاعين مهمَّين منهم، طلابهم وكتَّابهم!
(2) ما حاولت التَّعبير عنه بسيط جداً، فبرغم الحماقات التي ما انفكت تنفلَّت، أحياناً، في ذلك الزَّمن المجيد، من المجر، إلى كوبا، إلى تشيكوسلوفاكيا، إلى أفغانستان، وغيرها، وغيرها، فإن أحداً لا يستطيع أن ينكر أن التَّحالف العالمي بين المعسكر الاشتراكي، وحركة التَّحرر الوطني، والطَّبقة العاملة في البلدان الرَّأسماليَّة، ظل يبذل مجهوداً جباراً، على مدى عقود، لإجبار الامبرياليَّة العالميَّة، بقيادة الولايات المتَّحدة، على الالتزام بالتَّعايش السِّلمي، لا تحيد عنه قيد أنملة، حتى أن النِّضال في سبيل "السَّلام" اعتبر، دائماً، عنصراً أساسيَّاً ضمن محدِّدات الحراك التَّقدمي العالمي، بقيادة الاتِّحاد السُّوفييتي، وذلك منذ عهد لينين ومرسومه حول "السَّلام"، غداة انتصار ثورة 1917م البلشفيَّة، مروراً بخروتشوف، وبريجنيف، وحتى حقبة غورباتشوف، وما أفضت إليه مباحثاته مع الغرب من تعهُّدات شفهيَّة كشف عنها الأرشيف القومي للولايات المتَّحدة، الذي لم يعد سرَّاً، ابتداءً من فبراير 1990م، حيث كان تلقَّى تلك التَّعهُّدات من الجَّانب الأمريكي والبريطاني والفرنسي والألماني بعدم توسُّع حلف النَّاتو شرقاً إذا وافق الجَّانب السُّوفييتي، آنذاك، على إعادة توحيد ألمانيا، وبقائها في ذلك الحلف. ولئن لم يحرص غورباتشوف على توثيق تلك التَّعهُدات، في حينها، بينما نكص الغرب عنها، وانقلب يضمُّ دول شرق أوربَّا إلى حلف النَّاتو، فإن ذلك لا يسلب تلك التَّعهُّدات إلزاميَّتها، حيث القاعدة في القانون الحاكم للعلاقات الدَّوليَّة أن الاتِّفاقيَّات الدَّوليَّة مقدَّسة في أيِّ شكل جاءت Pacta Sund Servanda.
(3) جاء في مقالتك أن بوتين "وجد نفسه مرغماً إزاء خيارين أحلاهما مرٌّ: فإما وضع نهاية لمسار الولايات المتَّحدة للهيمنة علي العالم، أو الانتصار للفاشيَّة والنازيَّة الجَّديدة"، لكن ذلك غير صحيح، للآتي:
أ/ إن كان المعنى الذي ذهبت إليه باستخدامك لعبارة "وضع نهاية لمسار الولايات المتَّحدة للهيمنة" هو إنجاز تلك النِّهاية بالقوَّة، فإن القانون الدَّولي المعاصر يحظر استخدام القوَّة في العلاقات الدَّوليَّة. وخرق أيَّة دولة لهذا الحظر "الولايات المتَّحدة"، واتِّباعها نهج "العدوان"، لا يعطي أيَّ مبرِّر لأيَّة دولة أخرى "روسيا مثلاً" كي تنتهج، بالمقابل، نهجاً عدوانيَّاً مماثلاً! وشتَّان بين منطق العلاقات الدَّوليَّة الذي كان يستند، في عصر عمرو بن العاص، إلى مثل قوله الذي استشهدت به "مكره أخاك لا بطل"، وبين منطقها في عصر بوتين!
ب/ منذ أيَّامه في الـ "كي جي بي" كان الطريق واضحاً أمام بوتين، لو كان أراد، لوضع النِّهاية المطلوبة لتلك الهيمنة والعنجهيَّة، وذلك بالانحياز إلى خيار مواصلة النِّضال "السِّلمي" لأجل إلحاق الهزيمة بالامبرياليَّة العالميَّة، وعلى رأسها أمريكا، عبر المنافسة "السِّلميَّة" التَّاريخيَّة مع الاشتراكيَّة، وهي منافسة يستخدم فيها كلُّ معسكر أسلحته الخاصَّة والمغايرة لأسلحة الآخر؛ علماً بأن "الهيمنة، والعنجهيَّة، وتهديد السَّلام العالمي" لم تكن، يوماً، من أسلحة الاتِّحاد السُّوفييتي والمعسكر الاشتراكي الذي "يُفترض" أن بوتين كان يخدمه!
ج/ مع ذلك فقد "اختار" بوتين الانضمام إلى المعسكر الآخر، المعسكر النَّاشط في هزيمة التَّجربة الاشتراكيَّة العالميَّة، المعسكر السَّاعي لوضع النُّقطة في نهاية سطر الاتِّحاد السُّوفييتي، معسكر "الانتصار للفاشيَّة والنازيَّة الجَّديدة"، فاصطفَّ، جنباً إلى جنب، مع القوى الاجتماعيَّة المعادية للاشتراكيَّة، قوى الكليبتوقراطيَّة التي استغلت إقدام غورباتشوف، ولو في السَّاعة الخامسة والعشرين، لاستخدام مبضع "البريسترويكا" و"القلاصنوست"، لفتح الدِّمِّل المتخثِّر تحت إبط التَّجربة، لتفريغه من القيح والصَّديد، وتنظيفه، وتطهيره، وعلاجه جذريَّاً، فعملوا على تخريب تلك العمليَّة الجِّراحيَّة الخطرة، وقلبها برمَّتها إلى معكوس مراميها، وللأسف كان لهم ما أرادوا!
د/ بوتين، في المحصلة النِّهائيَّة، هو ابن تلك القوى المعادية، أصلاً، للاشتراكيَّة، والحالمة، عبر السِّنين، بالانقلاب الرَّأسمالي، والتي ظلت تتغلغل، باسم العمَّال والفلاحين، في شرايين سلطة السُّوفيتات، وأوردتها الدَّقيقة، يجرون مجرى الدَّم فيها إلى موقع القلب منها، حتَّى لاحت لهم الفرصة التي ظلوا ينتظرونها، أعماراً بأكملها،، فلم يضيِّعوها، إنَّما "اهتبلوها"، وانقضُّوا عليها، كما الذِّئب على الفريسة، فلا معنى لمحاولة تصويره كما لو كان “مكرهاً لا بطلاً"!
هـ/ "النازيَّة"عتبة أعلى من"الشُّوفينيَّة"، و"الشُّوفينيَّة" مرض يتولَّد عن النَّعرة "القوميَّة" التي هي من سلالة التَّطوُّر "الرَّأسمالي" إن تهيَّأت، في بعض أطواره، شروط التبلور والبروز. ولئن كان شعار الفوهرر الصَّريح "ألمانيا فوق الجَّميع"، فإن الدَّافع الحقيقي للنَّعرة "القوميَّة"، ومن ثمَّ للنزعة "الشُّوفينيَّة"، هو الشُّعور "العِرقي" الجَّمعي بـ "الأفضليَّة" و"الاستعلاء"! وما تكون "النَّازيَّة"، في نهاية المطاف، إن لم تكن ضرباً من الشُّعور "العِرقي" الوخيم بـ "الأفضليَّة" و"الاستعلاء"؟!
و/ ولئن كانت "النَّازيَّة" الألمانيَّة، بقيادة هتلر، قد أنشأت مؤسَّسة "القوميِّين" الأكارنة، مع نهاية الثَّلاثينات من القرن المنصرم، وتعهَّدتها بالرعاية، تغذية لها بذلك الشُّعور "القومي" السَّالب بـ "الأفضليَّة" و"الاستعلاء"، واستغلالها في صراعها ضدَّ الشِّيوعيِّين، فإن ذلك لا يبعد كثيراً عمَّا عبَّرت أنت عنه، من الجَّانب الآخر، بقولك إن "الانتصار للفاشيَّة والنَّازيَّة" شكَّل بعض "خيارات" الزَّعيم الرُّوسي!
(4) أمَّا استدعاؤك للوثيقتين الشِّيوعيَّتين الكنديَّة والسُّودانيَّة، فمع أكيد احترامي، لم يصلني مغزاه؛ فلست معنيَّاً بالأولى، إذ لست كنديَّاً .. وكفى! وأمَّا الثَّانية، فأرجو، قبل الحديث عن أيِّ تناقض معها، أن تعيد زيارتها، لتجد أنها "وصفت" أحداثيات القضيَّة دون القطع برأي نهائي فيها! ولك تقديري.

 

آراء