تعلُّم اللغات الأجنبية شرط لازم من شروط النهضة والتقدم

 


 

 

 

Khaldoon90@hotmail.com

ونحن جلوس داخل طائرة الخطوط الجوية الإثيوبية التي سافرتُ على متن إحدى رحلاتها بين العاصمة الأنغولية " لواندا " في طريقي إلى الخرطوم مروراً بأديس أبابا ، للمشاركة في مؤتمر سفراء السودان الذي انعقد في خواتيم شهر فبراير المنصرم 2018م ، طافت علينا المضيفات الحسناوات في مستهل الرحلة بأكواب العصائر والأشربة ، كما عرضن علينا مجموعة من الصحف والمجلات الأجنبية ، بغرض التصفح والتسلية ، وإزجاء الفراغ ، وقتل وقت الرحلة الممل الذي يستغرق قرابة الست ساعات في مرحلتها الأولى حتى أديس أبابا. اخترت من بين تلك المجموعة من الصحف والمجلات ، نسخةً من عدد ذلك الشهر من مجلة Jeune Afrique أو " إفريقيا الفتيَّة " ، إن شئت تعريب اسم هذه المجلة ذائعة الصيت ، وواسعة الانتشار والتأثير ، خصوصاً في سائر بلدان إفريقيا الناطقة بالفرنسية.
ولما كان ذهني مشغولاً بالموضوعات المدرجة على جدول أعمال مؤتمرنا الذي كان شعاره هو: " نحو دبلوماسية اقتصادية فاعلة من أجل السلام والتنمية " ، وهي موضوعات يتواشج ويتداخل فيها الشأن الداخلي بالشأن الخارجي ، والوطني بالإقليمي والعالمي على نحو جدلي يأخذ بعضه برقاب بعض ، فقد استوقفتني بشدة في ذلك العدد بصفة خاصة ، كلمة رئيس تحرير هذه المجلة ، الأستاذ بشير بن يحمد ، الذي أحسب أنه فرنسي الجنسية من أصل تونسي ، أو لعله تونسي فحسب ، مقيم اقامة دائمة في فرنسا.
وقد جاء عمود الأستاذ بن يحمد الراتب في افتتاحية ذلك العدد المعني من مجلة " جون آفريك " ، والذي درج على عنونته دائماً بالعبارة الفرنسية Ce que je crois ) ( أي: " الذي أعتقد فيه ، أو: ما أعتقده " ، جاء تحت العنوان الجانبي: " أولويات خمس ".
وتلك الأولويات الخمس التي يعتقد بشير بن يحمد في ضرورة الوفاء بها ضربة لازم ، من أجل استكمال شروط النهضة والتقدم في إفريقيا بصفة عامة ، وذلك حتى تستطيع أن تكون في وضع يمكنها من سلوك الطريق الذي هو قمين بأن يقودها للانطلاق من أجل اللحاق بركب الأمم والكيانات الأخرى المتطورة والمتقدمة هي بحسب رأيه:
أولا: التصدي على نحو علمي لمشكلة الزيادة المهولة في عدد سكان القارة الذين بلغوا في هذا العام 2018م نحواً من 1.3 بليون نسمة ، ومن المنتظر أن يمثلوا ربع سكان المعمورة بحلول عام 2050م ، وذلك في ظل نقص مضطرد أو ركود على الأقل في معدل النمو الاقتصادي ، مما يحتم مخاطبة هذه المشكلة الخطيرة ، عبر اتباع سياسة حقيقية وصارمة لضبط المواليد والتوسع في تعليم الفتيات.
والأمر الثاني في نظره هو ، العمل على زيادة الإنفاق الحكومي على الصحة والتعليم ، وتوجيه المزيد من الموارد من إجمالي الناتج المحلي نحو هذين القطاعين.
أما الأمر الثالث أو الأولوية الثالثة فهي ، تسهيل وتشجيع انخراط المزيد من النساء الإفريقيات في سوق العمل ، والرابع هو خفض الصرف على المشتروات من الأسلحة والمعدات الدفاعية.
وأما الأمر الخامس والأخير من تلك الأولويات العاجلة بحسب بن يحمد ، فهو إقرار وتطبيق سياسة لغوية وتعليمية جادة و فعالة ، بحيث تغدو المجتمعات الإفريقية ثنائية اللغة أو حتى ثلاثية اللغة تماماً لو أمكن. والمقصود هنا بالطبع هو زيادة الاهتمام بتعليم وتعلم على الأقل لغة واحدة من اللغات الأجنبية الحية وذات الانتشار العالمي الواسع ، وذلك لتجنب العزلة والانقطاع عن العالم والعلومة ، فضلاً عن تعزيز فرص التنمية البشرية والاجتماعية ، وتأمين الأدوات المناسبة للتواصل الاجتماعي والثقافي والعلمي والتقني مع الآخر وخصوصا في العالم المتطور والمتقدم.
ولئن كانت هذه الشروط أو الأولويات النهضوية التي عبر عنها رئيس تحرير مجلة " جون آفريك " ، قد سبقته إليها في الواقع ، وبصورة أو بأخرى خلال السنوات الأخيرة ، طوائف عديدة من الكتاب والباحثين من الأفارقة والغربيين على حدٍ سواء في مؤلفاتهم وأبحاثهم ، فضلاً عن تلك " الحزم " من النصائح وأحياناً الاشتراطات السائرة في ذات الاتجاه ، التي تصدر بين الفينة والأخرى من بعض المؤسسات ومراكز الأبحاث في شتى أنحاء العالم ، ومهما يكن الرأي في مشروعية تلك النصائح والاشتراطات ، وسدادها ، وملاءمتها ، وجدواها في نهاية المطاف بالنسبة لإفريقيا والأفارقة بالتحديد ، ومنها ما هو من قبيل تحصيل الحاصل بالفعل ، بل يعكس حتى نوعا من الجهل بواقع المجتمعات الإفريقية ، مثل المناداة بتسهيل انخراط النساء الإفريقيات في سوق العمل ، في حين أن سوق العمل في إفريقيا تكاد تغلب عليه النساء حقيقةً ، وخصوصا في القطاعين الزراعي والتجاري على مستوياتهما القاعدية ، إلا أن شد ما استوقفني فيها على نحو أخص فيما يلي واقعنا الوطني في السودان " والزول بونسو غرضو !! " كما يقول مثلنا الشعبي ، هو تجافينا الملحوظ عن الشرط الخامس والأخير المتعلق بضرورة تبني ثنائية اللغة أو شيء قريب منها ، بغرض تجنب العزلة والانقطاع الثقافي والمعرفي عن العالم من حولنا.
فلا مشاحة – على سبيل المثال - من أن مكانة اللغة الإنجليزية في السودان ، وفي نظامه التعليمي ، وفي سياقه الاجتماعي والثقافي بالتالي ، قد ظلت في تراجع مستمر ، بدأ ربما منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي ، وما يزال مستمرا حتى وصل المستوى العام في معرفة اللغة الإنجليزية في البلاد حالياً ،إلى أوضاع محزنة للغاية ، حتى عند طلاب التعليم العالي وغيرهم من كبار المهنيين في مختلف التخصصات ، والشواهد على ذلك قد أضحت مشهورة ومعروفة لدة العامة.
هذا ، في حين أن دولاً كثيرة ، خصوصاً في جوارنا الجغرافي والإقليمي ، كانت كوادرها إلى وقت قريب دون كوادرنا بمراحل في إجادة اللغة الإنجليزية ، قد أضحت خلال العقود الأخيرة في أوضع أفضل منا بكثير في هذا المجال ، وذلك بفضل جديتها ، ومثابرتها ، وحسن تدبيرها وتخطيطها ، وأخذها الأمور على محمل الجد. على أنه من حسن الحظ بالنسبة لنا أيضاً ، أن اللغة الإنجليزية ما تزال حتى الآن ، وحتى يقضي الله أمراً كان مفعولا ، هي اللغة الأوسع انتشاراً وتأثيراً في العالم. فهلاَّ وقفنا وقفة جادة أمام هذا الوجه من أوجه القصور البين في سياستنا التعليمية والثقافية والإعلامية ، فتصدينا لمعالجته على نحو استراتيجي ومستدام بأعجل ما يمكن ؟.. والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.

 

آراء