تفكيك القضائية الفاسدة: (27)
الباحثة الأمريكية كارولين فلوهر- لوبان والقاضية كوثر
ushari@outlook.com
أولا،
في مقاربة محكمة كوثر
(1)
يوليو 2007. توقفتُ أولا عند كاتب العَرْض-حالات أمام المحكمة العامة بالديوم الشرقية. وسرعان ما تطرق حديثي معه إلى القاضية كوثر، المعروفة. فقد كانت كوثر أرسلت إلىَّ طلبين للحضور أمام محكمتها. بشأن أمر يخص ابنتي التي كانت في حضانتي القانونية ورعايتي المباشرة بأحكام قضائية صدرت لصالحي من محاكم الإمارات، من المحكمة درجة أولى، إلى الاستئناف، وحتى درجة التمييز، والتنفيذ القانوني.
تعلق الإعلان الأول من القاضية كوثر بقضية ضم محضون رفعتها جدة الطفلة، نفيسة حسن زلفو، زوجة عبد الحفيظ الرفاعي، تريد إسقاط حضانتي لتكون حضانة ابنتي لها هي. رغم أنف القرارات في محاكم الإمارات قبل أسابيع قليلة. وكان الإعلان الثاني لقضية زيارة واستصحاب رفعتها نفيسة في معية زوجها عبد الحفيظ. كله عبر المحاميين علي أحمد السيد وإيمان المك، لدى القاضية كوثر عوض عبد الرحمن.
قال لي كاتب العرضحالات الجالس أمام المحكمة: "كوثر حاجة تمام، قاضية ما فيها كلام!"
(2)
فينقلني ذلك مباشرة إلى ما ورد عن ذات القاضية كوثر في كتاب الأستاذة الأمريكية كارولين فلوهير لوبان، الشريعة والإسلاموية في السودان، النزاع والقانون والتحول الاجتماعي، 2012.
ولوبان (لوبان) من أهم الباحثين في مجال الدراسات السودانية، منذ السبعينات في القرن الماضي، خاصة في مجال تطبيق الشريعة، ومن كتبها ما تمت ترجمته إلى العربية. تتحدث اللغة العربية. ولها دور كبير في إنشاء جمعية الدراسات السودانية في أمريكا. وهي صديقة للسودان، قلبها عليه وفيه. ولها بالطبع موقف سياسي، وهموم بقضايا مختلف حولها بين السودانيين. كما هو الحال، دائما.
(3)
أجرت الأستاذة الأمريكية، لوبان، دراسة حول محكمة القاضية كوثر في الديوم الشرقية خلال ذات الفترة التي كنت أقف فيها متقاضيا لدى كوثر في تلك محكمتها، 2007-2008، وقبلها بثلاثة شهور، وبعدها خلال العام 2009.
قالت لوبان إنها زارت محكمة كوثر "عدة مرات" وأجرت مقابلات مع القاضية. وحضرت جلسات في المحكمة. وجاء في الكتاب توصيفها للقاضية ومحكمتها في الديوم الشرقية وقضائها تحت عنوان "الملاحظة الاثنوجرافية للمحاكم"ـ في الجزء عن "إجراءات المحكمة ودورانها". وفي الفصل السادس عن التحول الاجتماعي، ومن ثم في متن النص عن أثر المشروع الحضاري في القضاء في السودان.
(4)
أصبح الانشغال بالمحاكم من أهم أشكال استحواذ الباحثين الأمريكيين في مجال مراقبة القضاء، في كل مكان. فبدون دراسة المحاكم إيثنوجرافياً، فأنتَ وفق الحكمة الجديدة لا تعرف شيئا عن القضاء أو عن القانون، ولا عن قضايا المرأة. فالقانون ليس النص، بل هو ذلك الذي يدور في المحكمة. القانون إنْ آكشِنْ، يقولون لك باللغة الأمريكية. وتقول لوبان إن المحاكم، كذلك في السودان، مرآة تعكس بصورة مباشرة التغير في المجتمع (147).
قدمتْ لوبان معلومات عن التركيبة الطبقية للمتقاضين، ومبنى المحكمة، وتربيزة القاضية، وعلو مسطبة قيام التربيزة بارتفاع قدم أعلى من مستوى أرضية المكتب، وغير ذلك من تفاصيل دقيقة مما نجده في كثير الدراسات الاثنوجرافية. وقدمتْ توصيفا مكثفا للشخصية الرئيسة في روايتها عن المحاكم السودانية، كوثر عوض عبد الرحمن، القاضية.
(5)
أشِرت في عدة مقالات سابقة إلى أني ما أن كنت اكتشفت مؤشرات الفساد ضدي في محكمة كوثر، في العام 2007، حتى قررتُ أن أُخضِع تلك المحكمةَ للدراسة الاثنوجرافية. وهكذا فعلتُ على مدى عامين في السودان، وبعدها في أمريكا واليمن وإثيوبيا وفي أمريكا مجددا، حتى هذا اليوم.
وما الإثنوجرافيا إلا الدراسة المحلية الدقيقة التي تركِّز على المؤسسة الاجتماعية الثقافية، والأشخاص فيها، وممارساتهم الخطابية وغير الخطابية، وشبكات العلاقات التي تدور بينهم في سياق المكان بمبانيه ومحتوياته، والزمان، والعلاقات الخارجية للمؤسسة، مما يمكن أن تُستخلص منه دلالاتٌ أكبر من المحل ذاته، وربما نظريةٌ جديدةٌ في مجال علم الأنثروبولوجيا.
ثانيا،
الصورة الأمريكية الرومانسية للقاضية كوثر
(1) مصادر لوبان
كل من يقرأ ما كتبته لوبان عن القاضية كوثر في محكمتها بالديوم الشرقية سيجد صورة مختلفة تماما عن الصورة التي رسمتُها لذات القاضية في مقالاتي في سودانايل 2014-2015. رغم أنا كلينا شاهد ذات المحكمة ودرسها، وذات القاضية المشرفة عليها، خلال ذات الفترة الزمنية.
كتبت لوبان عن القاضية كوثر ومحكمتها من وحي مراقبتها اللصيقة للمحكمة، ومما استخلصته من محادثاتها المكثفة في المقابلات باللغة العربية مع القاضية كوثر في أبريل 2007. ومن وحي صداقتها المستمرة مع القاضية. وذكرت اسم القاضية، "مولانا كوثر عوض"، في لائحة الشكر للأشخاص الذين ساعدوها في إنجاز بحثها. ووصفت كوثر بالاسم على أنها "من بين القاضيات السودانيات اللائي كنَّ صديقات لي ومشاركات في بحثي في الماضي وبقينَ وفِيَّات لي حتى هذا الوقت الحاضر"، 2012.
وكله كان جاء في سياق تعبير لوبان عن فرط إعجابها بالمقامية الجديدة للمرأة كقاضية في السودان، وعن التطور الذي حدث في عدد القاضيات وفي اختصاصهن، منذ الزيارات البحثية الميدانية السابقة للوبان في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، حين لم يكن في ذلك الوقت إلا عدد قليل من النساء في القضاء، ولم يكن من بينهن قاضيات في محاكم الأحوال الشخصية.
(2) تقديم لوبان لمولانا القاضية المحترمة كوثر عوض
(أ)
رسمت لوبان صورة وردية لكوثر، كالقاضية السودانية المحترمة. وصفتها جالسة في مكتبها تدير جلسات المحكمة بكفاية، وتلقى الاحترام من جمهور الحضور الذين يمتثلون لتوجيهاتها الحازمة. ونقلت لوبان قول كوثر إنها تنظر في أكثر من عشرين قضية يوميا في محكمتها (146).
ثم ها هي القاضية كوثر تتحدث عن شتى الموضوعات القانونية والقضائية والاجتماعية في مقابلات مع لوبان. ثم نشهدها في جلسات للفصل في القضايا، في حضور عالمة الأنثروبولوجيا لا تترك صغيرة ولا كبيرة إلا وتسجلها للنشر في كتابها.
نسمع الكتاب يتحدث لينقل لنا خطاب القاضية كوثر تفتي برأيها وفقهها ومعرفتها في شتى القضايا. ضوابط الزواج للأجانب (ص 228). ازدياد حالات الطلاق في السودان ونسبته التي قالت القاضية إنها بلغت 50% من الزيجات (235). وإن الأسباب اقتصادية (237).
لم تترك القاضية موضوعا إلا وأفتت فيه. بيت الطاعة. والبصمة الوراثية، قالت ضروري أن تكون هذه البصمة الدي إن إي بيِّنة مقبولة في المحكمة (241). وتحدثت عن قانون الأحوال الشخصية 1991 الذي قالت إنه يعطي المرأة حقوقا أكثر للطلاق بالتوسعة في الأسباب المقبولة، منها سبب الضرر (235).
واستملحت القاضية ببعض شمار عن الجيران ناس الديم، عن الزوج وزوجته تدور الشَّكْلة بينهما في الليل، فتحضر الزوجة من دُغش الرحمن إلى محكمة كوثر القريبة لتشتكي، والزوج وراءها في طرف ثوبها لديه شكوى (237).
(ب)
ثم تقدم لنا الأستاذة لوبان القاضية كوثر في صورة الفيمينِسْتا، السودانية الأنثوية الثورية بتاعة الحداثة. قالت كوثر للأمريكية ما معناه إن حكم الشريعة عن شهادة المرأة خطأ. فكوثر لا تقبل أن تكون المرأة نصف شاهد. وصاحت: "أنا قاضية، ويمكنني أن أنزِّل حكما قضائيا، وتصبح كلمتي تطبيق القانون ذاته. أما حين أظهر في هذه المحكمة كشاهدة فأنا مجرد نصف شاهد، وهذا خطأ!"
رونغ، ترجمت لوبان.
ثم قالت لوبان إن ذلك الرأي ليس رأي كوثر لوحدها، فقد سمعته لوبان معبَّرا عنه مرارا خلال السنين من قاضيات أخريات. لكن المهم الآن بالنسبة للوبان هو دلالة تعبير القاضية الأصغر سنا عنه (242).
فعلى الإمبراطورية الأمريكية أن تطمئن. لأن الشريعة إنْ آكشَنْ، ببيان العمل عند القاضيات، حاجة تانية خالس.
(3) تقديم القاضية الفقهة وهي تفصل في القضايا في محكمتها
(أ)
قدمت لوبان الأمريكية صورة للكيفية التي تفصل بها كوثر في القضايا. هنا نرى كوثر إنْ آكْشَنْ، بذلك بيان القانون بالعمل. في قضايا حقيقية تدور في جلسات في قاعة المحكمة. فها هي القاضية تقاطع شاهد الزوج المتقاضي الذي رد على سؤال قوله بـ "في رأيي ...".
قطعت عليه القاضية حبل أفكاره: "ما عايزين رايك، نريد وقائع" (243-244).
...
ولابد أن أتدخل هنا للتعقيب على أنها لغة قلة أدب القضاة وجهلهم. فبعد أن حضروا بعض حصص ابتدائي في كلية القانون وقال لهم الأستاذ إن القانون موضوعه "الوقائع"، فهموا بالجهالة أن كل واحد من العامة غير القانونيين يبدأ بعبارة "في رأيي ..." لن يعرض للوقائع، وسيقول كلام فارغ.
يحسبون أن لغة الكهانة القضائية التي حفظوها عن ظهر قلب هي اللغة الوحيدة الصحيحة. وكله من الجهل الفاضح عند جنس القضاة أكثرهم لا يفهمون أن الأمر متعلق بالتفسير والتأويل وبفهم استخدامات اللغة في سياقاتها المشدودة إلى معرفة المتحدث واستراتيجيته في الكلام وسعيه لتمثل الأخلاقية والتواضع فلا يدعي قطعية أقواله أو مطابقتها للحقيقة بل يسعى بـ "في رأيي" إلى التعبير عن الأدب أمام القاضية لا تستحق احتراما. وكل قول ليس إلا تركيبا مخرجا تخريجا من الدماغ ولا يتمثل بالدقة القانونية ما يدور في دماغ صاحبه.
وقد قصدتُ هنا إلى خرق قواعد الكتابة التي يريد القانونيون فرضها على الجميع، عايزين "الوقائع" فقط، يقولون لك، دون تعليق أو شرح أو تكييف، فذلك غير الوقائع حق مقدس لهم هم بس، "في رأيهم"، فقط لأنهم يقولون إنهم قانونيون.
(ب)
ثم نشهد القاضية كوثر في كتاب لوبان وهي تفصل في قضية ورثة (244-245) . أذكِّر القارئ هنا بإبراهيم محمد حامد، موظف كوثر الذي كانت القاضية دردرته وأغرته وتمكنت منه ووجهته ليحشر اسم المستند في دفترها للعرائض.
فإبراهيم يعمل كاتبا في قسم المحكمة المسؤول عن التركات. لم تذكره لوبان في توصيفها الإثنوجرافي للجلسة، ربما لغيابه في ذلك اليوم، أو لأنها حسبته غير مهم. بينما ابراهيم سيصبح أهم شخصية في المحكمة. بعد فعلته التزويرية المشتركة مع القاضية.
كان إبراهيم يظهر دائما واقفا وراء القاضية وبجانبها يحمل ملفات التركات، وشاهدته عدة مرات يهمس في أذن القاضية بين الفينة والأخرى، يُذكِّرها.
(ج)
ثم قدمت لنا لوبان صورة لكوثر الحازمة وهي تؤدب المحامين الرجال. فقد بشَّعت القاضية بمحام لم يُحضِر الأوراق الثبوتية الصحيحة الضرورية في قضيته. وبخته القاضية وطردته من المحكمة: "الأوراق التي أحضرتَها خطأ. ما بتشتغل عندنا هنا. انتهينا. خلاس أمشي! (246).
بالطبع أرادت لوبان الأمريكية بهذه الرواية تثبيت تصور لها عن قوة النساء الجديدة في السودان، ممثلة في نوع جديد من المرأة المهنية، تلك التي تضع الرجال في مواعينهم، صديقتها القاضية المحترمة كوثر عوض عبد الرحمن!
(د)
لكن الذي لم تدركه لوبان لوبان هو أن حركة القاضية مع ذلك المحامي قد تكون كانت واحدة من خدع القاضية من نوع معروف بين القضاة الفاسدين. تتفق القاضية مع المحامي الفاسد على أداء مسرحية في قاعة المحكمة، تظهر فيها القاضية عدوانيةً إزاء هذا المحامي وكأنها تمقته وكأنها ستحكم ضد موكله، وتتشدد معه وتهرشه: انتهينا، خلاس يلا أمش من هنا!
وهي تفعل ذلك فقط لتخدع الخصم الآخر المستهدَف بالفساد. ليصدق أن القاضية كانت بالهرشة والطردة تؤدب المحامي الكريه ممثل الطرف الآخر ليس له حق ولا قضية. لاحقا، سيفاجأ هذا المتقاضي الغافل المتفائل، حين يصدر قرار القاضية مطبوعا بالليزر.
كان القاضي أزهري شرشاب يحذق استخدام هذه الخدعة. جرَّبها ضدي، ومررها عليَّ حتى حسبته نزيها. قبل أن أضبطه وقد شطب ليلا بالاتفاق مع الخصم خارج الجلسة واقعة جوهرية من المحضر. اشتكيت ضده لدى رئيس القضاء، فشدوا أذنه، وأقر بفعلته الاحتيالية المعيبة، وأمروه أن يعيد خلال الجلسة كتابة ما كان شطبه من المحضر خارج الجلسة بالليل، وهو أعاد، صاغرا، كتابة ما كان شطبه بالاحتيال (القضية 87/2008 زيارة واستصحاب، نجلاء ضد عشاري).
(هـ)
ليس كل ما نراه بشوف العين من أفعال للقضاة هو الحقيقة. فالصنعة القضائية قائمة أصلا على الخداع والاحتيال والفساد، منذ الأيام الأولى للدولة الإسلامية. وإن أراد القضاة في السودان بعض إثبات، أُحيلُهم إلى الآيات القرآنية المعروفة المكررة في كتب القضاء التي تكثر الحديث عن فساد القاضي. وأحيلهم إلى الأحاديث وفيها الإسناد الأصولي بافتراض فساد القاضي، ابتداء، وفي جميع الأحوال:
"ما من حَكَم [قاض] يحكم بين الناس إلا أُتي به يوم القيامة ومَلَكٌ آخذ بقفاه، فيوثقه على شاطئ جهنم، ثم يرفع رأسه؛ فإن قيل له ألقِهِ ألقاه في مهواه يهوي فيها أربعين خريفا".
فالقاضي هنا، في هذا الحديث النبوي، ولمجرد كونه كان قاضيا، يظل متهما بالفساد، "موثقا إلى شاطئ جهنم"، إلى أن يثبت العكس، صلاحه.
وتكاد الأحاديث والأقوال في السيرة تُجمع على أن القاضي يُنظر إليه بصورة سبقية على أنه فاسد، بطبيعة المعرفة من التجربة المعاشة. بما في ذلك "القاضي العدل" ذاته، لا يعفيه من "شدة الحساب" كونه كان قاضيا عادلا. فلعله كان في الظاهر عادلا بينما هو المخادع كان يخفي فساده. في الحديث من عائشة عن الرسول: "يُجاء بالقاضي العدل يوم القيامة، فيلقى من شدة الحساب ما يود أنه لم يكن قضى بين اثنين" (وكيع، 21). وفي ذلك كثير عن أن الأصل في القضاة هو الفساد سآتي إليه في مقال منفصل.
وتلك هي أنواع الإثبات التي يحبذها قضاة الإسلام، رغم أنها لا تثبت شيئا، حيث إن الإثبات مداره الوقائع الراهنة لا مصادر الشريعة. ومع ذلك، فهم لن يحبوا مثل هذه الأحاديث وسيشككون في إسنادها، وسيطالبون بإثبات حداثي عصري.
ثالثا،
المفارقة بين صورتين للقاضية كوثر
(1)
فنحن أمام المفارقة الراديكالية بين الصورة الوردية التي رسمتها لوبان لكوثر القاضية المحترمة القوية العالمة الحازمة العارفة في القانون تضع الرجال في مواعينهم، من جهة، وصورتي لكوثر القاضية الفاسدة، من جهة أخرى. لكنها مفارقة مفهومة وإن كانت محيِّرة في ذات الوقت.
(2)
فالذي يظهر من عبارات التقريظ عن كوثر هو أن لوبان لم تكن تعرف أن القاضية المشرفة على المحكمة في الديوم الشرقية، موضوع دراستها في جزء من بحثها، كانت خلال ذات تلك الفترة الزمنية المحددة 2007-2008 تدير من داخل محكمتها أعمالا عصابية إجرامية، مع قضاة ومحامين وموظفين.
فقد خدعت القاضية صديقتَها لوبان الأمريكية بأن كذبت عليها بشأن شخصيتها الحقيقة وطبيعة عملها الأساس كرئيسة عصابة قضائية إجرامية تؤدي أحيانا، في ذات المكان في الديم، بعض مهام قضائية استعراضية. ومن ثم، عاشت لوبان في عالم الأوهام والأكاذيب عن كوثر ومحكمتها وعن القضاء في السودان، وهو العالم الزائف الذي ركَّبته القاضيةُ كوثر خصيصا للباحثة وحبستْها فيه لا يمكنها الخروج منه. وهو ما سجلته لوبان في كتابها.
(3)
وحتى لا يكون الكلام مرسلا، ورغم أني قدمت بيناته من قبل، أشير إلى أن فساد القاضية كوثر ثابت في الأوراق. في مكتب رئيس الجهاز القضائي الخرطوم. وفي ملفَّي قضية الحضانة وقضية الزيارة والاستصحاب في ذات محكمة كوثر. وفي القرارات القضائية ذات العلاقة من المحكمة العليا. وفي كل ما كتبتُه عن القاضية وبعضه سلمته لها في يدها في محكمتها حين كنت في السودان. منه مذكرة لابد موجودة في ملف قضية الحضانة، إن لم تسرقها القاضية، طالبت فيها القاضية أن تسمح لي بمقاضاتها في المحكمة الجنائية بسبب تزويرها ذلك المستند المشهور الذي اصطنعه لها المحامي علي أحمد السيد. ودونك مذكراتي عن القاضية في مكتب رئيس القضاء. كله من داخل السودان.
ومن خارج السودان، هناك مسودة كتابي عن جرائم القاضية، المسودة لدى رئيس الجمهورية عمر البشير الذي استلمها مباشرة في يده من سفيره في أديس أبابا. والوثائق التي قدمتها عن فساد القاضية لرؤساء القضاء الثلاثة المتعاقبين.
وأعيد مجددا نشر ملخص لبعض وقائع عن فساد القاضية ليست محل أي خلاف. فقط لأبين للقارئ أن الصورة الوردية عن القاضية في كتاب الأستاذة لوبان زائفة تماما. وهي صورة تخفي حقيقة القاضية. وتبين أن دراسة القضاة والمحاكم محفوفة بمثل المخاطر التي وقعت فيها لوبان، ربما دون أن تتحسب لها أو ذلك كان باختيارها.
(4)
قاربَتْ الأستاذة لوبان المحاكم السودانية بفهم فيه قدر من السذاجة عظيم. مثلي تماما في سذاجتي الشبيهة حين قاربتُ ذات المحكمة لأول مرة في يوليو 2007. وصدَّقتُ حينئذ أقوال كاتب العرضحالات الجالس أمام محكمة كوثر، إن القاضية كوثر حاجة تمام وما فيها كلام!
فالقضاة بالدربة يتميزون في درجة الذكاء، خاصة الإجرامي منه، على الباحثين. لأن الخداع من أدوات الصنعة القضائية في الكتابة الاحتيالية المتدبرة للرأي القضائي ولمحضر التحقيق القضائي. ولا أحد يكتب أكثر مما يكتبه القاضي، يوميا طيلة مدة خدمته. وإذا نشرنا كتابة القاضي خلال عام واحد، ستكون في عدة مجلدات.
(5)
وحتى لا أترك أي مجال لأحد أن يشكك في أقوالي عن القاضية كوثر، أقدم ملخصا يتيح لكل متشكك أن يسعى بالاجتهاد البحثي إلى مراجعة مظان الإثبات في وقائع تثبت فساد القاضية، تحت. وهي مظان متاحة لجميع مريدي السلطة القضائية والحكومة الإسلامية في السودان.
وما أسهل المحاولة من جانبك لتفنيد أقوال الكاتب، إن هو سجل أقواله بالواضح، دون حركات، وحدد لك المصادر بما فيها أسماء الشخصيات ذات العلاقة. لكن النجاح في التفنيد غير مضمون وبعيد المنال في حالة كوثر، أقوى حالات الفساد القضائي بعد حالة القاضية فادية وحالة القاضي عبد الباسط عبد الله حامد. حاول إن شئت. وها هي الوقائع ملخصة:
رابعا،
تكثيف صورة القاضية كوثر رئيسة العصابة الإجرامية
(1)
يوم 22/10/2007، أخضعَ رئيسُ الجهاز القضائي، القاضي برعي محمد سيد أحمد، القاضية كوثر للتحقيق. بسبب ثلاث مذكرات كتبتها له ولرئيس القضاء عن فساد القاضية. موضوعها إصدار القاضية قرارا قضائيا ضدي في غيابي ودون إعلاني بطلب، بحظر ابنتي من السفر لصالح نفيسة حسن زلفو. وهي مخالفة خطيرة ترقى إلى مخالفة الدستور، لا يقترفها إلا القاضي الفاسد.
ولهذا السبب فقط، أَخضعَ رئيسُ الجهاز القاضيةَ كوثر للتحقيق. وهو لم يكن صديقي.
(2)
فكان رد فعل القاضية كوثر المتمرسة أن عقدت اتفاقا جنائيا مع القاضية المكلَّفة بالتحقيق معها، فادية أحمد عبد القادر كريم الدين، رئيسة دائرة الأحوال الشخصية في محكمة الاستئناف. للعمل سويا لهدف تقويض ذلك التحقيق ضدها. التقويض بارتكاب جرائم وأفعال غير أخلاقية إضافية تتم بها التغطية على الجريمة الأولى سبب التحقيق. فمعروف أن التغطية على الجريمة تكون بجريمة أو بجرائم إضافية. وتم فعلا تنفيذ الجرائم والأفعال غير الأخلاقية في سياق تلك الاتفاقية الجنائية ذات الحلقات والأطراف المتعددة.
(3)
اصطنع المحامي علي أحمد السيد وشريكته إيمان المك المستند الضروري، وفق طلب القاضية كوثر، وبموافقة نفيسة حسن زلفو العندها مصلحة في إبقاء أمر الحظر من السفر قائما. والقصد أن يتم استخدام المستند المصطنع بينة مختلقة لتسهيل تلفيق حكم محكمة الاستئناف.
وقَّعت إيمان المك على المستند، وسلمته لكوثر.
أغرت كوثر موظفها الصغير في قسم التركات، إبراهيم محمد حامد. فحشر اسم المستند في دفتر العرائض وزور في المستند. ثم زورت كوثر أيضا في المستند، ودسته في ملف القضية، وأعادت الملف إلى فادية في محكمة الاستئناف.
فاستخدمت فادية المستند بينةً مختلقةً معروفة لها حقيقتُها، وسببت بالمستند المختلق حكما قضائيا ضدي، بأن قرار كوثر بحظر ابنتي من السفر "كان سليما"، خاصة وأن كوثر كانت، وفق قرار الاستئناف الملفق بالاكاذيب، استلمت عريضة صحيحة (المستند المختلق) من نفيسة زلفو وزوجها عبد الحفيظ.
(4)
بعد أسبوع، في يوم 28/10/2007، انصاعت القاضية كوثر لتوجيه رئيس الجهاز القضائي لها أن تتنحى من النظر في قضية الحضانة المرفوعة من نفيسة زلفو ضدي. كان واضحا سبب رئيس الجهاز في توجيهه القاضية بالتنحي، خاصة وأني كنت قدمت له كامل حيثيات فساد القاضية، مباشرة في مقابلة معه قبل أسبوع في مكتبه وفي مذكرتين له وفي مذكرة لدى رئيس القضاء.
دافعتْ كوثر عن نفسها لدى رئيس الجهاز القضائي، في غيابي، بأن أبرزت أمامه صورة ضوئية لذلك المستند (المصطنع) وادعت أن المستند صحيح.
وبعد الفَكْرة والاتصالات والوساطات، تصنع رئيس الجهاز القضائي أنه صدَّق رواية فادية في محكمة الاستئناف وصدق رواية كوثر عن الوقائع، وتصنع أنه لا يصدق الآن روايتي. وأنهى برعي التحقيق وحفِظ شكواي. ورفض احتجاجاتي والبينات القرائنية الإضافية. وقال كتابة: "وقد اطلعت على عريضة الإجرائات التحفظية"، يعني أن المستند المختلق أصبح صحيحا.
ونجت كوثر من ذلك التحقيق القضائي. لكن، إلى حين.
(5)
أجريتُ تحقيقا منظما واسع النطاق في محكمة كوثر، وتمكنتُ في النهاية من وضع يدي على البينة المادية القاطعة التي أثبتت بصورة حاسمة أن القاضية كوثر كانت زورت ذلك المستند الذي أنقذَتْ به نفسها من التحقيق.
في يوم 26/11/2007، أرسلتُ نتائج تحقيقاتي الموثقة بالتفصيل إلى رئيس الجهاز القضائي وإلى رئيس القضاء. وطالبتُ بالتحقيق المباشر في بينات التزوير في أوراق المحكمة التي حددتُ مكانها وصفحاتها التي وقع فيها التزوير، والمستندات ذات العلاقة جميعها. وطالبتُ بنزع الحصانة القضائية عن كوثر لأقاضيها جنائيا ومدنيا.
(6)
في اليوم التالي، 27/11/2007، أرسل رئيس الجهاز القضائي، برعي، فريقا قضائيا للتحقيق في ادعاءاتي ضد القاضية كوثر في محكمتها. وعرفتُ أن الفريق سأل القاضية والقضاة الآخرين والموظفين، ونظر في الدفتر الذي حددتُه في صفحتي 9 و10 محل التزوير، وتحدث فريق التحقيق مع إدريس طالب القانون النزيه المسؤول رسميا عن الدفتر المعتدى عليه من قبل القاضية كوثر وصديقها إبراهيم. وتجنب فريق التحقيق القضائي أي اتصال بي وأنا صاحب الشكوى. وأعد تقريرا سلمه لرئيس الجهاز القضائي، برعي.
(7)
مباشرة، وجَّه رئيس الجهاز القضائي القاضية كوثر أن تتخلى عن أداء جميع مهامها كمشرفة على المحكمة العامة. فانزوت كوثر وحيدة منبوذة في مكتبها. وأتى برعي بالقاضي أزهري شرشاب الذي استلم من كوثر أعمال إدارة المحكمة.
شرشاب قاضي فاسد. لابد من ذكر ذلك دائما، حتى لا يقع القارئ في وهم أن شرشاب كالبديل لكوثر الفاسدة لابد كان نزيها. طبعا أقول هذا استنادا على بينات مادية لا يطالها شك أساسها في الأوراق. وانتظرت طويلا أن يتحداني القاضي أزهري شرشاب في مواقعه الشبكية في الأنترنيت أو في اليوتيوب. لكنه فضل قراءة ما يسميه شعرا على الدفاع بالبينة عن سمعة قد يدعيها غير مستحقة انتهت.
(8)
بعد ستة شهور، في يوم 10/9/2008، أصدرت دائرة المراجعة في المحكمة العليا قرارا قضائيا (مراجعة 130/2008) بشأن طلبي إلغاء جميع قرارات المحاكم الأدنى وقرار حظر ابنتي من السفر. القرار موجود في أرشيف سودانايل. كانت مذكرتي عبارة عن مقال طويل عن فساد القاضي. فحكمت المحكمة لصالحي فيما طلبته.
لكن المحكمة أصدرت قرارا ثانيا وجهت فيه القاضيةَ كوثر (وقضاة محكمة الاستئناف) بأن تتم ملاحقتي في المحكمة الجنائية، بسبب ما كتبتُه عن القاضية كوثر (وعن قضاة الاستئناف) في مذكرتي لطلب المراجعة، وبسبب وصفي للقاضية كوثر بأنها قاضية محتالة.
لكن كوثر منزوعة الصلاحيات الإدارية، وقد غدت موضوع الهمس المسموع في المحكمة، سكتت. واثاقلت على كرسي مكتبها في المحكمة. عمَلَتْ ما بتعرف تقرا قرار المراجعة، وما سامعة ولا فاهمة الموضوع زاتو شنو.
حاول المحامي عبد الله فضل التذاكي عليها وكان شامتا، ذهب يطيب خاطرها يحرضها على تطبيق قرار المحكمة العليا لملاحقة عشاري، يريد مزيد شمارات. فقالت له "عشاري، ما ماشية لي محكمة أشتكيهو، عفيت ليهو!"
يعتبر عدم تنفيذ قرار المحكمة العليا، في القانون، فعلا معاقبا عليه بالحبس في السجن. لأن عدم تنفيذ قرار المحكمة يعتبر "إهانة للمحكمة"، وهو تعبير كذلك عن الاحتقار لقرارات المحكمة. وفي تقديري، احتقار للمحكمة العليا مستحق، فأتفق مع القاضية كوثر في النتيجة، لافي أسباب هرولتها بعيدا عن باب المحكمة الجنائية.
وفي النهاية، كما هو التصرف السياسي في مثل هذه الحالة منذ أيام جعفر النميري مع عمر أحمد الطيب، تمت ترقية القاضية كوثر إلى محكمة الاستئناف بحري، وهي موجودة اليوم هناك. وغدا ستقفز بالكوبري إلى المحكمة القومية العليا.
(9)
كانت لوبان خلال هذه الفترة الممتدة من أكتوبر 2007 وقبلها في أبريل من ذات العام وحتى العام 2009 موجودة تواصل بحثها في السودان. ليس مهما، هنا ما إذا كانت لوبان سمعت بفضيحة فساد كوثر أو لم تكن سمعت عنها. بعد شهور من مقابلاتها مع القاضية في محكمتها.
المهم الآن هو أن الوقائع الثابتة أعلاه تدحض أية قيمة للروايات التي أوردتها لوبان عن القاضية كوثر في كتابها. الروايات عن القاضية كوثر كقاضية محترمة تتمثل التغيير الإيجابي في السودان عن وضع المرأة في القضاء.
...
لكني قد أجد بعض تفسير لموقف لوبان. في عدة أسباب، أقتصر في هذا المقال على سببين منها متداخلين:
فلسفة البحث المعتمَدة من قبل لوبان، وهي الفلسفة المُفضية إلى عدم التفكير في موضوع الفساد في محكمة القاضية، أصلا. وكان ذلك خطأ منهجيا مقصودا.
ومحنة الباحث، ذلك الذي يتعين عليه أن يدفع غاليا ثمن الحصول على السماح له من قبل حرس البوابات بدخول المجتمع موضوع الدراسة.
خامسا،
الخطأ المنهجي المقصود في دراسة لوبان لمحكمة القاضية كوثر
(1)
قررت لوبان المتخصصة في موضوع الإسلام والمرأة في السودان أن تفترض أن القاضية كوثر نزيهة. هكذا. بينما كان الصحيح افتراض فساد القاضية، وذلك من مقتضيات التشكك العلمي في مظهر الأشخاص والأفعال، وهو ديدن علم الأنثروبولوجيا. خاصة هنا في دراسة عن وضعية القاضي في المحكمة في واحدة من أكثر دول العالم فسادا، وهي الدولة السودانية الإسلامية التي أصلا لا تقوم لها قائمة إلا بالفساد. وكذا بسبب ما هو معروف ومتعارف عليه أن السلطة القضائية السودانية هي الأكثر فسادا، بالمقارنة مع فساد الجهازين التشريعي والتنفيذي ومع فساد الشركات ومنظمات المجتمع المدني في السودان.
(2)
وأرى أن من أسباب فوز القضائية السودانية بهذه المكانة الرفيعة في سلم الفساد تلك الأداةَ التي طورها القضاة لصناعة الفساد، وهي تلفيق الرأي القضائي بالكتابة الاحتيالية المُتدبَّرة. تلفيقه ليظهر صحيحا لدى من يقرأه، بينما يكون في حقيقته منسوجا بالانحراف عن القانون وبالخداع والتدليس.
ينطوي القرار القضائي الفاسد على أكاذيب نتعرف عليها عند النظر في الأوراق في ملف القضية. بدون هذه الأوراق من ملف القضية لن نتمكن من إثبات فساد القاضي في رأيه القضائي. فيستفيد القاضي من هذه الصعوبة، بل الاستحالة، أمام الحصول على ملف قضية مشكوك في صحة قرارها المتاح.
وهنالك احتيال القاضي في تلفيق محضر التحقيق القضائي. المحضر الذي يكتبه القاضي بيده كما تقول لوبان مستغربة على استمرار القضاة في كتابة محاضرهم للتحقيق القضائي بخط اليد رغم الموارد المادية لدى الحكومة (ص 145). صدَّقت لوبان كذبهم بأنهم يريدون تثبيت "لمسة يد القاضي حتى لا تضيع".
(3)
لم تدرك الأستاذة لوبان أن القضاة بل يصرون على الكتابة باليد في نهار المحكمة لكي يتمكنوا من تغيير المحضر بكتابة جديدة في بهيم الليل. ولعلها لم تكن مدركة أن القضاة في السودان، منهم كوثر تحديدا وهي الأكثر تشددا، يمنعون تصوير محضر التحقيق القضائي الذي يزورونه ليل نهار خارج الجلسة. ويحظرون الاطلاع على ملفات القضايا، مع استثناء المحاسيب والمحامين المرتعدين لا يتجرأون. بحجة الخصوصية. بينما السبب الحقيقي لحظر التصوير والاطلاع المسبب الذي يحمي الخصوصية هو أن محتويات ملف القضية حين تتم عملية مقارنة استكشافية لها مع محتوى الرأي القضائي الصادر ستفضح فساد القاضي.
والأداة الإفسادية، كتابة الرأي القضائي، متاحة لكل واحد من الألف قاضيا ويزيد في محاكم السلطة القضائية السودانية. بينما لا يوجد أي موظف عام أو في القطاع الخاص له مثل هذه الأداة السحرية لإنتاج الفساد يوميا وضمان النجاة بفعلته وفق القانون الذي وضعه القضاة لحماية الفساد.
(4)
ويكون ضمان إفلات القضاة من العقوبة على إفساد آرائهم القضائية بتعبئة عدد لا يحصى من الخدع التي ابتدعها القضاة لحماية استمرارية تجارة القرارات القضائية، بينما المواطن غافل. خدعة استقلال القاضي في قراره. خدعة حصانة القاضي من الملاحقة على تسبيب الضرر ما دام يؤدي عملا قضائيا (لا تُصدِّق أقوال المحامي القاضي السابق النزيه محمد صالح علي عن المسؤولية التقصيرية للقاضي الفاسد). خدعة الطعن المدعومة بأن الخطأ كان غير مقصود. وخدعة عدم مسؤولية القاضي عن جهله بالقانون حين يخطئ ويسبب الضرر، والقاضي هو الوحيد في الدنيا المتاح له العذر دون عقاب حين يخطئ في تطبيق القانون متعمدا ثم يقول بالكذب والله ما كنت عارف القانون شنو.
فالفساد في المحاكم هو الأصل، وهو الثقافة السائدة، حتى أصبح طبيعيا وعاديا بحيث لا تراه هذه الأنثروبولوجية لوبان ولا يسترعي انتباهها حتى وهو أمامها مباشرة يتكلم معها ويضحك عليها حسبته يضحك معها.
(5)
اختارت لوبان أن تحبس نفْسها وبحثها بين جدران نظريتها المعرفية والإطار الفكري المفاهيمي الذي اعتمدته. فلم يكن الفساد من بين أجندتها البحثية التي قالت إنها كانت عن إيثنوجرافيا المحاكم، بينما لا تكون الدراسة الاثنوجرافية للمحاكم ذات كفاية أو مصداقية إن هي لم تعرض لموضوع الفساد. فالفساد أصبح، فوق أهميته الموضوعية في مجال البحث في القضاء، عاملا تمييزيا تفريقيا ومتغيرا ذا أثر مثله مثل الجندر والطبقة الاجتماعية والمجموعة العرقية والدين ذاته. وقد عرضت لوبان لجميع هذه المتغيرات، ماعدا الفساد، لا كعامل ذي حاكمية واستقلال نسبي، ولا كموضوع جوهري في ذاته.
(6)
كانت لوبان كتبت في كتاب سابق لها، لم أقرأه، عن معرفتها عن أن فساد الحكومة في السودان يتحدث به "المواطنون البسطاء العاديون في سيارات الأجرة والحافلات والقطارات في المدن" (مقتبس من ترجمة بدر الدين حامد الهاشمي في الراكوبة 8/5/2015، عن لوبان).
وهي لابد كانت سمعت عن فساد السلطة القضائية والمحاكم خلال زياراتها للسودان، ومن السودانيين في جمعية الدراسات السودانية. ولابد هي فهمت من تقرير منظمة الشفافية العالمية الذي صدر خلال ذات فترة دراستها في السودان في 2007 أن المستجوَبين السودانيين كانوا يَعتبِرون القطاع القضائي مسكونا بالفساد.
كانت لوبان على علم بالفساد في المحاكم السودانية، خاصة في محاكم الأحوال الشخصية. ولم يكن من مبرر معقول أن تفترض لوبان نزاهة صديقتها القاضية كوثر، كما هي وصفتها أنها من أعز صديقاتها حتى هذا اليوم.
والتناقض من جانبي مقر به. بالتناص مع إشارتي إلى سذاجتي وسذاجة لوبان عند مقاربتنا لمحكمة كوثر، كل لوحده، خلال ذات الفترة. ولا أريد إزالة التناقض، وهو من صميم هذا النوع من الكتابة المشربة بالإثنوجرافيا الذاتية وبالابيستيمولوجيا الأنثوية ذات التناقضات المقر بها.
(7)
فالخطأ المنهجي عند لوبان واضح. وهو القرار بإغماض العينين، وبتناسي موضوع الفساد في الدراسة الاثنوجرافية للمحكمة في الديوم الشرقية.
وكان الفساد، في حال التعرض له، سيعين لوبان في التقليل من احتفائها المبالغ فيه بما أسمته "التطور" الإيجابي المتمثل في ازدياد عدد القاضيات ووجودهن في المحكمة العليا والمحكمة الدستورية وفي مكتب رئيس الجمهورية.
وقد كتبتُ عن هذه المسألة في مقالي في سودانايل عن "القاضية الفاسدة"، 2014. وموضوعه إجهاض القاضية الفاسدة الوعدَ للمرأة السودانية بالفصل العادل ذي الحساسية لقضايا المرأة والأطفال في المحاكم.
سادسا،
محنة الباحث في الدولة الإجرامية
(1)
لابد أنه كان معلوما للباحثة الأمريكية لوبان أنها كانت ستتعرض للطرد من السودان مباشرة إن هي كانت أثناء بحثها الميداني في السودان أشارت مجرد إشارة عابرة إلى موضوع الفساد في السلطة القضائية، أو إلى أن الفساد في المحاكم كان من بين همومها الأنثروبولوجية عن حالة السودان، أو إلى أن الفساد فرض نفسه عليها فرضا دون قصد سبقي من جانبها، وهذا يحدث في البحوث الاجتماعية.
وهذه هي ورطة لوبان، الورطة المعروفة لكل من يجري بحثا إيثنوجرافيا. يجد نفسه بين نارين:
إما إجراء الدراسة وفق ما يقتضيه منطقُها ومتطلباتُها المتعلقةُ بالبحث عن "الحقيقة" ذات تعددية الأبعاد. وهي حقيقة متغيِّرة يتم اكتشافها تباعا أثناء دوران عملية البحث. فكل دراسة عن المحاكم تستدعي النظر في البعد المتعلق بالفساد، أو هي تكتشف الفساد بالصدفة المستدعاة بانفتاح الذهن وبآلية الاستشعار ذات القوة والقدرة على التقاط مؤشرات الفساد في مساحة البحث.
ومن ثم، في حال اعتماده جانب الحقيقة واندراجه في بحث البعد المتعلق بالفساد، سيظل الباحث مترقبا غضبة حرس البوابات وغضب القضاة ذوي العلاقة. وناس الأمن.
أو، النار الثانية، وهي التضحية بالحقيقة المكتشفة، أو تلك التي يمكن اكتشافها، ثم التعتيم عليها، هنا الفساد في محكمة القاضية كوثر. وتكون التضحية بهذه الحقيقة مدفوعة الثمن في الحصول مقدما من حرس البوابات على السماح بالدخول إلى مساحة مجال البحث، وفي تعبير الحرس عن رضاهم واستحسانهم بل شكرهم العميق للباحث الموضوعي الذي أنصفهم رغم أنه قال حاجات تانية مختلف حولها ولا يفسد الاختلاف للود قضية.
(2)
وهنالك بعد آخر من أشكال ورطة الباحث. هو أن الأستاذة لوبان، إن هي كانت نظرت في موضوع فساد المحاكم، حتى من مقابلات مع أشخاص لا تكشف هوياتهم، كانت ستكون اقترفت خيانة عظمى في حق الإسلاميين، أولئك الذين سهلوا لها التصريح بإجراء دراستها في محكمتي كوثر في الديوم الشرقية وفي محكمة القاضية سناء في أم درمان.
وأشير هنا إلى الأستاذ خالد موسى دفع الله الذي تشكره لوبان على التسهيل لها الدخول إلى السودان. وأشير إلى القاضي الذي تسميه لوبان "شيخ البرعي"، وهي تقصد القاضي برعي محمد سيد أحمد رئيس الجهاز القضائي بولاية الخرطوم. الذي سمح لها بزيارة المحاكم (الصفحة الثانية في قائمة المشكورين).
(3)
والمعروف في مثل هذه الوضعيات وجود اتفاق غير مكتوب، بل علاقة تعاقدية مفهومة لدى الطرفين، بين الباحث وحرس البوابات من هذه النوعية في الحكومة المعروف أمرها. اتفاق سكوتي بأن لا يتعرض الباحث للموضوعات الحساسة، مثل فساد القضاة أو فساد المحامين أو فساد الموظفين في المحاكم. لكن يمكن للباحث أن ينتقد ما هو معروف في أمور السياسة بعيد هناك، فنحن كمسلمين نقف مع الحريات الأكاديمية طبعا! ويحقق حرس البوابات مع الباحث عن هدف الدراسة وموضوعاتها، ويتابعونه بواسطة أجهزة الأمن وبالجواسيس المزروعين.
(4)
قد يقول الباحث الأجنبي إنه كان بتجنبه النظر في موضوع فساد المحاكم يريد أن "يحترم" المجتمع المحلي، فيعزف عن التحليل العميق. مما يعني مباشرة هنا عدم التعرض للموضوعات ذات الخطورة السياسية على أحد أكثر الأنظمة فسادا على وجه الأرض. والخطورة السياسية متمثلة في أن موضوع الفساد يضرب في عميق أيديولوجيا النظام، الشريعة الإسلامية، هنا في السلطة القضائية حيث الشيوخ والشيخات والمولانات قضاة الإسلام حماة الشريعة، ناس الأحوال الشخصية، وهم ذاتهم المفسدون في الأرض بتلك الكتابة الاحتيالية المتدبرة للرأي القضائي، وبالأفعال غير الأخلاقية في تأدية الوظيفة الإجرائية، وكذا فسادهم ثابت في وظائفهم الإدارية، وفي أفعالهم الخاصة في مساحات المحاكم.
(5)
وقد يبالغ الباحث الأجنبي بفرض التعمية الذاتية التي تمنعه من الرؤية، وتحجب عنه الوقائع. وربما بالغ أكثر فأصبح متورطا في إبداء الإعجاب وفي التعبير عن التدله إزاء أشخاص حراس يخدمون ليل نهار لحماية النظام الإسلامي الحاكم في السودان الذي سمح للباحث بإجراء دراسته، رغم كل شيء. فجأة لم يعد مهما الآن أن قيادات هذه النظام متهمه بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وبجريمة الإبادة.
...
وذلك منزَلَقٌ معروف في مجال البحث الاجتماعي الانثروبولوجي، ورقصة ذات حركات استراتيجية تدور بين الباحث وممثلي الحكومة الإجرامية في السودان.
(6)
كذلك كانت الخيانة المحتملة من قبل لوبان ستكون أعظم إزاء صديقاتها القاضيات الأخريات، إن هي كانت كتبت أي شيء عن فساد القاضية كوثر. وهو فساد تَمثَّل أكبر فضيحة شغلت القضائية بأسرها، خلال ذات فترة إجراء لوبان دراستها الميدانية وتحليل نتائجها.
لكن، لم يكن فساد القاضية كوثر مجرد فضيحة. أو أمرا محليا محصورا في القاضية بعيدا هناك في محكمتها في الديوم الشرقية. فقد تبين أن القاضية كوثر كانت تقترف الأفعال الإجرامية وغير الأخلاقية بالتعاون مع القاضية فادية أحمد عبد القادر كريم الدين في محكمة الاستئناف (اليوم في المحكمة العليا). ومع المحاميين علي أحمد السيد وإيمان المك.
بل امتد فساد القاضية كوثر بسبب طبيعته العصابية الإجرامية حتى مشارف المحكمة العليا لدى قضاة الأحوال الشخصية وهم الشيوخ مناط هم لوبان (عبد الباسط عبد الله حامد، مثالا).
وأظهر سلوك القاضية كوثر أن فساد القاضي هو الأصل الذي يتعين على الباحث اعتمادُه حتى يظهر له العكس إن كان العكس هو الصحيح في ندرته. وألقى فساد القاضية كوثر بظلال الشك والريبة حول كل قاض وقاضية، بما في ذلك حول النزيهين منهم. بسبب طبيعة عدوى الفساد وأخباره وتعامل الجمهور مع تلك الأخبار.
(7)
كذلك دمر فساد القاضية كوثر الصورة الوردية للقاضيات السودانيات اللائي كن وصلن إلى درجة المحكمة العليا، والمحكمة الدستورية، وموقع مستشارة رئيس الجمهورية. وهي الصورة الوردية المرغوبة من قبل لوبان، مما يظهر من الوقائع ومن الأسلوب في كتابها. وهي صورة كانت ضرورية لجميع الأطراف كل لأسبابه الخاصة، الحكومة، وقادة القضائية، والقاضيات، والمثقفين الإسلاميين أعضاء الجهاز، ولوبان.
(8)
لكنها صورة تحطمت بمجرد وضعي يدي على البينات المادية التي أثبتت فساد القاضية كوثر وفساد أربع قاضيات في محكمة الاستئناف (فادية وآسيا وإلهام وني ونادية سليمان).
وكذا بالطبع تكشف فساد القضاة الذكور في مجال الأحوال الشخصية. منهم أربعة في محكمة كوثر (أزهري شرشاب وأحمد الطيب عمر ويحيى أحمد محمد خير وأنس حسن مالك)، واثنان في محكمة الاستئناف (آدم محمد أحمد إبراهيم وبكر محمد بكر عبد اللطيف)، وسبعة في المحكمة العليا (عبد الباسط عبد الله حامد وصلاح التيجاني الأمين وأحمد محمد عبد المجيد ووهبي أحمد دهب ومرزوق الصديق خوجلي وسيد أحمد المبارك والبشري عثمان صالح).
(9)
هكذا مرت أكبر "فضيحة فساد" في تاريخ القضائية السودانية مرور الكرام على الأستاذة الأمريكية العارفة بالمجتمع السوداني وباللغة العربية، لها مداخل عالمة ببواطن الأمور، مثل مدخل القاضيات صديقاتها الأخريات اللاتي تذكر أسماءهن جميعهن لابد كن عارفات بهذه الفضيحة.
نجوى كمال فريد، رباب أبو قصيصة، وسناء الرشيد.
فهل خُنَّ صديقتَهن الأمريكية، وتكتمنَ على القصة المثيرة، وتصنعنَ عدم العلم بفساد القاضية كوثر؟
(10)
هذا التسآل عن خيانة الصديقات الثلاثة مهم، لأن لوبان كانت تركِّز في بحثها على القاضية كوثر، وقدمتها في كتابها للقراء، منهم صناع الرأي والقرار في أمريكا، على أنها المثال الأفضل للقاضية السودانية الجديدة ما بعد الشريعة –"مولانا كوثر عوض"، الإسلامية الفيمينستا في محكمة الديوم الشرقية، مثيلة القانونيات مُنظِّرات فقه القضاء الأنثوي في أمريكا.
وكان أي قدر من همٍّ من قِبل لوبان بفساد القاضية كوثر ومحكمتها بقضاتها الفاسدين سيكشف للباحثة أن الفساد في السلطة القضائية هيكلي منتظم واسع النطاق لا أمل يرجي من أية محاولة لمكافحته بالطريقة الأمريكية المعروفة، أو بطريقة الأمم المتحدة، وهما سيان، موضوعهما استزراع أنواع نشاط ومبادرات حالمة عن برمجة سيادة القانون في الدولة ذات المؤسسات الإجرامية.
...
لكن لابد لنا من أن نتعاطف مع لوبان في تلك محنتها، وهي محنة الأنثروبولوجيين المعروفة. وربما كانت لوبان أصلا فكرت وتأملت في ذات هذه القضايا التي طرحتُها. لأنها قضايا من عدة الشغل في صندوق الباحثين في مجال الأنثروبولوجيا.
(11)
وقد واجهتني مثل ذات هذه المحنة حين كلفتني منظمة اليونيسف في العام 2010 بتقييم برنامج حكومة اليمن لمكافحة الإتجار بالأطفال وتهريبهم عبر الحدود مع السعودية. كذلك كنت بين نارين.
نار الصمت على وقائع الفساد وانتهاكات حقوق الأطفال، حبسا غير قانوني للأطفال لا علاقة لهم بموضوع المشروع، حبسهم في المركزين المنشأين للخداع، وتعذيبا لبعض الأطفال الأشقياء المخالِفين، بل واستحواذا على بنت في العاشرة مما كان يرقى إلى وضعية الملكية ومنع والد البنت من استلام ابنته، وآثار معلومات عن طفل في الأوراق استلمته موظفة في اليونيسف في عملية تبدو كعملية خمْش، بسبب انعدام أي تفسير معقول لها. والمكافأة على الصمت على مثل هذه المخالفات معروفة ومفهومة. ابتسامات وضحكات وعقود عمل مضمونة في مستقبل الأيام.
أما النار الثانية، وهي الإفصاح بالكتابة الواضحة المقنعة المدعومة بالبينات المستندية عن كل ما عرفته خلال دراستي على مدى عام عن المشروع الاحتيالي في اليمن الذي كلف الملايين من الدولارات دون أثر يعتد به بل كان ضرره فظيعا على الأطفال وعلى أسرهم. فلنتصور أن موظفي المركزين كانوا يقتنصون الأطفال بمساعدة الشرطة لحبسهم في المركزين فقط لتبرير وجود المركزين وللإبقاء على المشروع حيا، ثم يرفض المسؤولون تسليم الأطفال لآبائهم وأمهاتهم. كان هذا هو جوهر المشروع، تحت رعاية اليونيسف مصدر المعرفة العالمية عن حماية الأطفال، لا ينازعها في ذلك أحد.
قررتُ أن أقبل حرق مراكبي مع الحكومة اليمنية، ومع منظمة اليونيسف. فسجلتُ بلغة دبلوماسية واضحة في التقرير بينات عدم جدوى البرنامج وانعدام أية علاقة له باحتياجات الأطفال أو بأهداف اليمن أو أهداف اليونيسف. وفصلت الانتهاكات من قبل موظفي البرنامج ضد الأطفال وأسرهم، والمخالفات من قبل منظمة اليونيسف والمنظمة المكلفة نيابة عنها بالإشراف الفني، الهجرة الدولية. وقد كانت المنظمتان على علم بالجرائم ضد الأطفال في سياق ذلك البرنامج وعملتا على التعتيم عليها، وأحيانا شارك موظفو المنظمتين في بعض المخالفات وفي السعي الحثيث للتدليس على حقيقة المشروع.
(11)
فأنهت منظمة اليونيسف دعمها للبرنامج، مباشرة بعد دراستها تقريري المكتوب باللغتين. ونفضت يديها منه. وتسببت في إغلاق مركز الأطفال في صنعاء. لكن أن رئيسة البرنامج في اليونيسف العراقية غادة كشاشي التي أثنت صاغرة على نجاعة تقريري وأعطتني الدرجة الكاملة في مجالي النوع والكم خمسة من خمسة كتبت توصية سرية أن لا يتم أي تعاقد مستقبلي معي، بسبب سقوطي في امتحان "الحساسية السياسة"، اتنين من خمسة! وكله مسجل في حواسيب اليونيسف أينما ذهبتُ شرقا أو غربا شمالا أو جنوبا.
فهنالك ثمن يقبل الباحث أن يدفعه الباحث في مثل هذه الحالات التي تلخصها محنة الباحث. إن هو تعرَّض لموضوع الفساد. أخطر الموضوعات. لأن الفساد جريمة فظيعة، وهو يقتل. وكذا هو مجسدِن لفشل أخلاقي يجرد الفاسد ومؤسسته من كل مشروعية. فليس أخطر من الفساد، هنا الفساد القضائي، إلا الصمت إزاءه والتدليس عليه.
خلاصة
(1)
إن إغفال الأستاذة لوبان موضوع الفساد في محكمة كوثر في الديوم الشرقية، وهو إغفال كان مقصودا لأسباب سياسية، تسبب في خلق صورة تضليلية مشوهة عن الوضع الحقيقي في المحاكم في السودان مجال الدراسة الاثنوجرافية.
فكل من يقرأ كتاب لوبان في الجزء عن القضاء والمحاكم سيخلص إلى فهم غير صحيح، بل وزائف بصورة مريعة، ليس فقط عن القاضية كوثر، ومحكمة الديوم الشرقية، بل عن القضاة والمحاكم السودانية وعن السلطة القضائية في السودان بصورة عامة.
(2)
والدرس واضح للشباب في السودان، من الطلاب في كليات القانون، وفي مجالات الفلسفة والعلوم الاجتماعية والإنسانية، وكذا في علم الاقتصاد، وفي علوم أخرى: أهمية دراسة المحاكم في السودان. والتحقيق في ذلك الذي يدور فيها. الدراسة المتعمقة متعددة الأبعاد.
الدراسة من منطلق أن المحاكم مسارحٌ للجريمة القضائية، وهو ثابت. ومن منطلق أن المحاكم يمكن أن تكون فضاءً لمقاومة السلطة القضائية الفاسدة ومنازلتها وإلحاق الهزيمة بها في عقر دارها. مقاومتها ومنازلتها وهزيمتها بالبحث العلمي الملتزِم، ذلك المشدود إلى برنامج للتغيير للمستقبل، فلا يعرف الخوف.
(3)
وهنا، في منازلة السلطة القضائية الفاسدة التي تدرك أن مصيرها سيكون في حلها، في الوقت المناسب، لا توجد ابتسامات ولا مجاملات ولا صداقات مع الجلادين. تكفي الشبابَ
متعةُ البحث عن الحقيقة التي يخفيها القضاة الفاسدون في ملفات القضايا. ومتعة مسارات المقاومة ومفاجآتها في التحالفات التي يعقدونها مع شباب آخرين لأجل التغيير. وفوق ذلك متعةُ التفكير في كيفية تركيب القضائية المختلفة، الجديدة، من الأول، الشابة، ذات التعددية الحقيقية، والتي تخضع للمراقبة الشعبية.
وهنا أيضا، لا هَمَّ للشباب بجدول زمني من نوع جداول ناس المعارضة أو ناس الحكومة المكنكِشين، يحَوسِبون الزمن بدقة معيار ما تبقى لهم من سني حياتهم ذات الصلاحية المنتهية. فلا هم لهم بمستقبل الشباب. وهم لن يسمحوا للشباب، باستثناء لأولادهم ولمحاسيبهم المورَّثين بحق ملوكي يرونه طبيعيا، لن يسمحوا للشباب بفرصة في تجريب القيادة لتركيب حياة المستقبل.
...
فلا تتوقعن خيرا من مريدي روبرت موغابي زعيم الكنشكة في التسعين ويزيد: الصادق المهدي والميرغني والترابي وعمر البشير، وأضيف إليهم المحامي مفسد القضائية زعيم حزب من أربعة أعضاء يريد السلطة أيضا، علي أحمد السيد، بالملاءمة محشور اسمه بين الأربعة رجال الذين عملوا كل حياتهم لأجل تدمير السودان. ونتاج أعمالهم أمامنا لا تحتاج لمزيد تبيان. فموضوع الفساد متصلة حلقاته بكل الأشياء والأفعال والأشخاص. وهو العدسة التي تتيح الإبصار الثاقب لتشريح هذي جثة السودان القديم تتمنع تمعط شعرها محتجة ترفض أن تندفن.
...
عشاري أحمد محمود خليل
ushari@ushari.com