لم أجد أديبا معاصرا مسكونا بحب أعمال الطيب صالح مثل الأديب والشاعر الدكتور أمير حمد مؤلف هذا الكتاب. ورغم الجوائز التي حصل عليها الدكتور أمير من المؤسسات الثقافية الألمانية في برلين وما تلقاه من اشادات النقاد والمختصين والناشرين إلا أن شهادة الطيب صالح عنه في برلين وهو يخاطبه قائلا:إنك أديب ذو رؤية ، يعتبرها هي قلادة الشرف الأتم وعلامة المرور في سعيه الإبداعي وكدحه الأدبي. ورغم إعجابه بالطيب صالح إلا أنه لم ينبر أديبا مقلدا له حذو النعل، أو حواريا يتنسك في معبده الروائي، أو أن يختزل شخصيته الإبداعية متسولا علي أفكاره ولغته وتصاويره. لم يحجبه هذا الحب في البحث عن شخصيته الأدبية المستقلة التي تفجرت في عوالم الغربة والمنفي والظلال والصقيع، وتميزت بقاموسها الشعري المتفرد، ولغته السردية الممتعة، ودهاليز الحوار الذاتي في قصصه القصيرة التي تطالعها في هذا الكتاب. عندما منحته مؤسسة كيس وأشتراو الألمانية لدعم الثقافة جائزتها السنوية قالت عن أعماله إنها جديرة بالإهتمام والتأمل، لأنها صورة مشرقة للتعامل بين الأوروبيين وأبناء الشرق. وتكاد تلمس في أعماله هذا الحس المتدفق والإلتحام مع قضايا الإغتراب كأنه نذر نفسه للقيام بأعباء مهمة التجسير الثقافي بين المهاجرين من أبناء الشرق والأوربيين. لعل ما شجعه علي إرتياد آفاق النشر مجددا ما وجده كتابه الأول (رسائل من المنفي) الذي أصدرته دار الدليل ببرلين في يونيو 2012 من استقبال وترحاب وسط المثقفين والمهتمين من الجالتين العربية والسودانية في ألمانيا وكذلك من الأصدقاء والنقاد في السودان وبعض الدول الأخري. تشفع له نصوصه هذه التي بين يديك عزيزي القاريء من تقدمة يطول رسمها ويندلق مدادها،لأنها من يرقات السكر الحلال انبجست من تلافيف ذاكرته، وتوهجات الوجد وزخم الميلاد وانطفاءات الحزن ويتم القافية والقصيدة. ومن ذات المشكاة خرجت خواطره وأقاصيصه التي تجدها في هذا الكتاب متلفعة بتواقيع السفر، وحنين الذاكرة وأسمال التوحد وتوترات القلق وفجيعة النأي، وأفراح الروح والإشتياقات المستحيلة. يكاد يجمع النقاد والمهتمون بإنتاجه الأدبي أن ثلاثية المنفي والتصوف والبحث عن الذات هي ابرز سمات شخصيته الإبداعية، وتكاد تشتبك هذه الخصائص في جمر التجربة فتخرج في سبيكة من لدائن الخيال واللغة والشعر والأقصوصة. لا يبدو الكاتب في نصوصه الشعرية وأقصوصاته النثرية متصالحا مع الغربة، ولكن يفجر قضاياها ويرصد مظاهرها ويعبر عن تناقضاتها ويكشف طاقة الحزن الكامنة في حيوات الناس والصراع الخفي بين ميراثهم الثقافي الذي تركوه وراءهم في أرض الأجداد وبين ما اكتسبوه من قيم الحداثة وتواترات الإندماج في المجتمع الألماني. ويعرض في أقصوصاته شرائح وطبقات ومشاهد لهذه التوترات، ويحولها الي مسرح مفتوح تلتقي فيه بالشخوص والأحداث. والغربة هي جوهر أزمات النص الإبداعي الروحية وعذاباته النفسية، واللغة هي ميسم إبداعه الذاتي.تنماز نصوصه بلغة شاعرية تكاد ترقص من تدفق المعني وسيماء الرمز، تضج بالغنائية وتستخفي بالظهور في حالات التوهج والنداء . تغترف لغته من قاموس يسمو بالتجريد، لشاعريته أصداء مميزة وقاموس خاص وموسيقي كامنة في أحشاء النص لا تحس فيها بصنعة النظم أو ضرورات القافية.ولغته الصقيلة التي تنبض بالشاعرية تكاد تسري في عروق الأحداث وشرايين الوصف فتبعث فيها الحياة. له فيض من الأخيلة والصور الشعرية لا تتعقد بالتركيب والتعدد، ولكنها تنساق في تدفق سلس وتوهج لغوي بارع وتشبيهات حاذقة لتنقل المشهد من المخيال الشعري الي اصداء الصور الواقعية. المرأة في شعره جزء من أنينه الإجتماعي و أوجاعه العاطفية ، فهي تارة سراب مستعصية أو سحابة مستعصمة بالمسافة والبعاد...يناجي طيفها في ليالي الشتاء الطويلة ويهدهد روحها في المساءات الحزينة..يخترط منها مواويل الغزل ولكن لا ينالها. لم يحدثنا في شعره أنه قابلها أو أمسك يدها..دائما يناجيها آه لم يكن شيئاً لم يكن سراب ينداح في أفق السراب عدنا التقينا لنفترق أحترق أحطب ليلا في أرض يباب و في غزله تكاد تحس بهالة الحزن والوجع في نداءاته الشعرية..حين ينادي سمراء يا جرحنا المنحوت في أكبادنا أناته حبس المحاجر سمراء يا ألق الخرافة اتكاءات المسافة، في شعره دائما حبيبته غائبة ينثر لها الشعر ونداءات القريض أفكر فيك حولي ظلام طول اغتراب وموج السفر ماذا تفعلين هذا المساء؟ ماذا؟ أترسمين مثلى بدمع المطر وجهاً يميط الخفر تحتل المرأة والحب مكانا في قاموسه الشعري وموضوعه القصصي هذا الحب المضاع والحزن المسلوب.وتكاد تحس أن دفء الكلمات وحميمية الوصف تنبؤك أنه يكتب من وطأة حقيقية من الحزن، وانكسار الذات والعاطفة ولعل اوضح الأمثلة علي ذلك هي أقصوصته (مكالمة). اللغة هي سر حيوية إبداعه إذ تغترف من قاموس ممتد وموغل في صور التراث والحداثة، وهو يطوع اللغة في الوصف والأخيلة، تكاد تنقاد له سلسة مطواعة.ينحاز في أعماله الأدبية للضعفاء وأصحاب القضية والحقوق المسلوبة. مسكون في شعره بالمساء والليل، وتتكثف أحزان القافية في الشتاء، و مواسم الإرتحالات عندما يكون الشتاء في الغربة قارس وموحش. للموت حضور بارز في أعماله الأدبية وهو يرسم بفرشاته الحزن لموت صحفي في العراء وحيدا إلا من بطاقة تثبت هويته،فتدفنه الشرطة في مقابر المسيحيين. ويرتفع بالحدث من دائرة المشهد الي جدلية الموت والحياة ويتساءل بقلب الشاعر المفجوع ( حتى الموت هنا مختلف وغريب إذ لا أحد تسأله أن يبرئك الذمة لا أن تنثر شعراً، أو تلطم قلباً). في شعره أصداء من نزار قباني.وتأملات ابن الفارض. يغني في شعره للقضية الفلسطينية و يرثي الطفل محمد الدرة وتبرز النزعة الثورية في شعره عندما ينتقد الضعف والهوان العربي هاتفا أن دمه تلوث بإنتسابه للعرب. أرضي استبيحت ودمي أُهدِر كالذبيحة دم تلوث بانتسابه للعرب ها أردد لحن حزني غير مرتبك الكلام غير منشرخ النغم تتحول المومس في شعره من أمرأة منبوذة الي ضحية لها عذاباتها وتمردها علي بيع الجسد في تصوير إنساني وتساؤلات المنزع الفلسفي. ضباب ضباب وضوء ضئيل بباب يدلف رجل يخرج آخر آه تعم الفضاء لمومس تنادي تبث الحب آهات ودمع اكتئاب
من فضاءات الغزل والحب والموت ترسو أشرعة قافيته علي فنارات التصوف ومنابع الصفاء الروحي. وحده .. تستاف الليل تسابيحه وحنين ودعاء صوفي أفرده الليل لمحرابه فعاده شوق ونداء تقرأ القصص فتحس كأنها إمتداد طبيعي لشعره.تختزن ذات الطاقة من اللغة الشاعرية الصقيلة المفصحة.ترتكز موضوعات قصصه القصيرة علي تجليات من الصراع الخفي بين الشخوص والجلي في طبقات المجتمع المختلفة .يتناول فيها حياة القرية والمدينة وقضايا الغربة وصور الحياة المتناقضة للمجتمعات المهاجرة. أبطاله مثقفون وأناس عاديون ولكن لهم نظرة ودور في الحياة. في قصصه يرسم الوجوه والشخصيات، يأتي الحوار دائما سلسا لا يفجؤك بالمتغيرات الصادمة.تتميز قصصه بطاقة سردية مبدعة تعمل علي توظيف اللغة وتنويعات الحوار، والإستشهاد بالشعر. ينتقل بالحوار من المونولوغ الي الحوار الجدلي المتعدد.ويكاد يلحظ الناقد المتفحص أن القاص يحتفظ بلغة صفوية صقيلة في مستويات الحوار المتعدد مما يفقد النصوص خاصية التكيف علي مستويات الحوار ومساقات السرد المتنوعة.فهو يكتب الحوار بلغة رفيعة علي لسان أناس عاديين لا يتوقع منهم القارئ هذه اللغة.كما انه ينحاز الي القرية في سياقها الوصفي والحياتي أكثر من النزوع الحضري حيث الفوضي والهرج والتمرد علي سلطان النظم. قول سقته وانا به زعيم في صدر هذا التقديم عن استقلالية الكاتب الإبداعية، ولكن يبرز الأثر الواضح للطيب صالح علي اختيار الشخوص والأحداث في القصص إذ يكثر القاص من التماهي والتشبيهات والإحالات الهامشية الي مصطفي سعيد بطل رواية موسم الهجرة مما أفقده في بعض القصص خاصية الأصالة في الحبكة والإبتداع والسرد. كما يستشهد في قصصه بشخصيات وردت في أعمال وقصص الطيب صالح. وكان بإمكانه أن يخترع شخصيات أخري. تعاني قصته المتميزة التي حملت اسم الكتاب (مساء متوتر) من أسقاطات الموسم وشخصية مصطفي سعيد عندما سرد الراوي مغامراته في المرقص. لا يصل الكاتب في رسم الشخصيات الي طاقتها القصوي في الفعل لأنه دائم التوجس من الوقوع في الجريمة.يريد لأبطاله أن يكونوا فضلاء ومثاليين في جميع أنواع الصراعات. لا يقربون النساء ولا يشربون الخمر رغم أن الأحداث تدور في ألمانيا.وفي ظني أن الكاتب وقر في ظنه أن يخلط القارئ بين الراوي وشخصية الكاتب الواقعية. في قصته نانجور يصور الكاتب علي نحو بديع قصة الصراع بين الحب والواجب في واقع شكلته الحرب الأهلية بين شمال وجنوب السودان في الماضي. ولكن ينتصر بطلا القصة لأعلي مظان القيم الإنسانية حتي تنقذ نناجور فتاها من الموت رغم أنه يقاتل في الطرف المعادي لشعبها.وفي ذلك إنتصار لمعني الحياة وقصة الأمل الذي كان ممكنا في يوم ما فضاع بإنفصال الجنوب.وفي القصة إضافة لسرديتها الجملية توظيف جيد للتراث ومفرداته الشعبية. في قصة طريق برليني يرصد الرواي مشاهد الحياة والصراع بين الأمومة وثقل الواجب لرعاية طفل معاق فينتصر للفضيلة.ويرصد تناقضات المجتمع الذي تصطدم محمولاته القيمية مع براغماتية المجتمع الألماني فيصور جريمة الشرف الشائعة في وسط الجاليات المسلمة في المجتمعات الغربية، إذ يذكر عائشة التركية التي قتلتها عائلتها لغسل العار من شرف الأسرة ويرسم ذلك التناقض عندما عبر الراوي بأنه يعرف أكثر من تركي يمارس الجنس مع الألمانيات فلماذا ينكرونه علي نسائهم.وهو تصوير لذهنية الرجل الشرقي الذي يرتضي منتجات الحداثة ونعمها عليه ويرفض قيمها الثقافية التي ترتكز علي الفردانية والحرية الشخصية . لا تكاد تنفصل صورة المرأة في شعره عن صورتها في قصصه القصيرة، ففي أقصوصته مكالمة التي تحكي عن قصة الحب والوعد واللقاء ومن ثم الغياب المفجع الحزين يكشف المونولج الداخلي للراوي أن المرأة عنده عابرة ومستحيلة..يقول (كنت أدرك في قرارة نفسي بأن هذه الأنثى سرمد رغم أنها محض صدفة عابرة! امرأة سمراء لامعة الأهاب ساحرة العينين ضامرة الكشح وحلوة المبسم. كانت تحب ان أحدثها عن ثلاثة أساطين : تهراق، عنترة، وكافور الأخشيدي). وأبدي الكاتب عناية خاصة بالأطفال من خلال خاطرة نثرية وقصة قصيرة هي ذات الضفيرة.وتقدم قصة مصور فوتغرافي صورة للحوار الثقافي بين الشرق والغرب من خلال كاميرا لمصور فتوغرافي الذي اصر بعد موته ان يعطي الرواي شيئا عزيزا يذكره بجذوره والشرق الذي لفظه في قلب الحداثة القاسية والوهم الجميل. إذا كان كتاب د. أمير حمد الأول (رسائل من المنفي) عن جدلية المنفي والبحث عن الذات فهذا الكتاب معني بتعرية الغربة والإحتفاء بالناس.أسفر مشروعه الشعري عن لغة شاعرية صقيلة متدفقة، وقاموس خاص وأغراض شعرية متنوعة، وأخيلة وصور مبتدعة. كشف في موضوعاته الشعرية والقصصية عن انحياز تام لأصحاب الحقوق المسلوبة والضعفاء. غني للمرأة والحب ورثي شاعر وشهيد ووقف يتأمل في جدلية الموت في العراء وحيدا وصامتا،يتكاثف حزنه في الشتاء حين يقف وحيدا يناجي طيف حبيبته التي تنثال في أضواء الحضور فتختطفها ظلمة الغياب. للمساء والليل حضور كثيف في قاموسه الشعري الذي يغترف من بحر التصوف وهو يستاف الليل خلوة في نهرالتطهر وينابيع الإيمان الصافية. تحتفي قصصه بالناس ويكشف في مساقاته السردية صور البشر وتناقضات الغربة وتوترات الإندماج وتعرية الذهن الشرقي في تفاعله مع منتجات الغربة وتداعياتها الحسية والثقافية والوجدانية عليه.لكن أبطاله دائما ينتصرون للحب والتسامح والفضيلة.وهذا تخلق ابداعي جديد في أدب الغربة والمهجر.