جامعة افريقيا الصرح الذي أحببناه

 


 

 

 

كُتبت هذه المقالة بمناسبة تأجيل اجتماعات مجلس أمناء جامعة افريقيا بتوجيهات من المجلس السيادي للحكومة الانتقالية ليتمكن من النظر في قانونها واتفاقيتها الإقليمية وعضوية مجلس أمنائها، وليت المجلس يطلب من وزيرة الخارجية ووزيرة التعليم العالي والبحث العلمي أن يعجلا النظر في الأمر الذي طلبه حتى لا تتأجل إجازة ميزانية الجامعة وبقية أوراق العمل المرفوعة للمجلس فمن الأفضل أن يعرض هذه الأوراق المدير الحالي للجامعة قبل أن تنتهي مدته. قال لي ذات مرة السيد المرحوم أمين عقيل عطاس وكيل وزارة الأوقاف السعودية آنذاك ورئيس اللجنة المالية بمجلس أمناء المركز الإسلامي في الخرطوم: إن المركز هو أنجح مؤسسة إسلامية للعمل المشترك بين الدول العربية. والذي يعرف عطاس يعلم أنه لا يُلقي القول على عواهنه فهو من أكثر قيادات وزارة الأوقاف السعودية خبرة وتأهيلا علميا وأمانة تفوق حد الوصف. وبما أن المركز هو الأساس الأول لجامعة إفريقيا العالمية جاز لنا الحديث عنهما معا في هذه المقالة العارضة.

كان أول علاقتي بالمركز الإسلامي الإفريقي حين جاءني في مكتبي المتواضع بمعهد الدراسات الافريقية والآسيوية، حوالي يناير 1980، الشيخ محمد ناصر الحمضان وكيل وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت، كان وقتها رئيسا لمجلس أمناء المركز الإسلامي الإفريقي لتلك الدورة. جاء يطلب مني أن أقبل الانتداب من جامعة الخرطوم لتولي إدارة المركز الإسلامي الإفريقي لمدة خمس سنوات. لم أكن حفيا بالطلب رغم أن مرتب المركز كان يعدل مرتبي بالجامعة حوالي ثلاث مرات، فقد جئت حديثا من بريطانيا بعد أن حصلت على درجة الماجستير من كلية الدراسات الافريقية والآسيوية بجامعة لندن وعلى الدكتوراة من جامعة كمبردج بمكابدة ليست باليسيرة وبعد ست سنوات حسوما! كنت أتطلع بشغف أن أشق طريقي بقوة في عالم الأكاديميات والبحث العلمي والنشر في حين لم يكن المركز وقتها سوى مدرستين ثانويتين احداهما دينية وأخرى علمية على المنهج السوداني. قلت له (بمساخة سودانية) إن عليه أن يذهب هو لمدير الجامعة ويطلب انتدابي فأنا لم أتقدم بطلب وظيفة للمركز الذي لا أعرف عنه شيئا. وكنت في الحقيقة مضغوطا من جهة خارجية لا أستطيع ردها رتبت لي لقاءً مع أعضاء مجلس الأمناء في الليلة السابقة بالفندق الكبير. واعتذرت للرجل أني لا أستطيع مغادرة مكتبي بالمعهد في الشهرين القادمين لأننا في بداية الفصل الدراسي وأنا ملتزم بتدريس مقررين دراسيين لطلاب الدبلوم العالي والماجستير، وعلى موظفي المركز أن يأتونني بما يخصني من أوراق إدارية في الجامعة لأنظر فيها. وذهب الرجل وعاد لي بعد ساعة ينقل لي موافقة مدير الجامعة السمح عمر محمد بليل الشفوية على انتدابي ابتداء من ذلك الشهر.

نشأت فكرة المركز من بعض شيوخ العلوم الإسلامية الصالحين أمثال عوض الله صالح وهاشم الهدية ومحمد صالح عمر وغيرهم، رأوا أن الطلاب الافارقة يأتون من شتى البلدان يطلبون العلم الديني فلا يجدون مكانا يسعهم في المعهد العلمي أو في غيره من المدارس فقاموا بجمع تبرعات من بعض الخيرين أسسوا بها "المعهد الإسلامي الافريقي" عام 1966 بحي الملازمين في أم درمان، وعندما جاء ت مايو الحمراء في 1969 كان من أوائل إنجازاتها هو قفل المعهد الإسلامي ومصادرة مقاعده. (لا أدري لماذا تهتم الانقلابات الثورية في العالم العربي بالشكليات والشعارات والفارغات من الأمور!). وبعد سنتين أو ثلاث رجع النميري إلى رشده وأعجبته فكرة مؤسسة تعليمية في السودان لمسلمي إفريقيا، فعرض الفكرة لكل من رؤساء مصر والسعودية والكويت والامارات وقطر والمغرب التي قبلتها جميعا بالإضافة للسودان، وذلك تحت مظلة اتفاقية إقليمية مشتركة تعطي المركز قدرا من الحصانة وبعض الميزات الجمركية، وتؤمن الدول الأعضاء ميزانية المركز السنوية وتشكل مجلسا للأمناء هو صاحب السلطة الأعلى في إدارة شؤون المركز. كانت الفكرة الأساسية من إنشاء المركز هي اتاحة التعليم الإسلامي لأبناء المسلمين في الدول الافريقية الذين حرموا من التعليم النظامي في بلادهم ابان الاستعمار الأوربي الذي جعل إدارة التعليم حكرا على المؤسسات الكنسية مما دفع المسلمين لمقاطعتها خوفا على أبنائهم من تبديل دينهم. وتسبب ذلك في احداث فجوة كبيرة تعليمية وثقافية وطبقية بين أبناء المسيحيين والمسلمين في البلاد الافريقية، فالمسيحيون يستطيعون مواصلة الدراسة النظامية حتى الجامعة ولديهم الفرصة للالتحاق بوظائف الدولة المختلفة، أما المسلمون فيكتفون بدراسة دينية متواضعة لا تتجاوز شيئا من القرآن الكريم والفقه لا تؤهلهم إلا للعمل في الخلوة القرآنية أو امامة المسجد أو العمالة غير الماهرة.

ما أعجبني في المركز الإسلامي آنذاك أنه حدد هدفا واضحا وموضوعيا هو الدور الثقافي للسودان في افريقيا، وهو هدف يستطيع السودان القيام به بجدارة، كما تقبل البلاد الافريقية دون تردد قيادة السودان لها في هذا المجال بحكم هوية السودان الافريقية-العربية، وسبقه في الالمام بعلوم العربية والإسلام، ولدماثة أهله وكرمهم وسماحتهم في التعايش مع التنوع العرقي والثقافي الذي يتصف به الشباب الإفريقي. وأعجبني بوجه خاص أن هذا المركز الناشئ حديث الولادة ليس له عراقة جامعة الخرطوم بتقاليدها المحافظة وضوابطها الكثيفة التي تمتد عبر الزمن منذ تأسيس كلية غردون التذكارية في 1902. وهذا يعني أني ومن معي من الأساتذة والإداريين نستطيع أن نجرب ما شاء الله لنا من تجريب، ونجدد قدر ما نستطيع، فالعلم فضاء مفتوح لا أسوار له، أما الإسلام فحدوده ملكوت السموات والأرض يمتد إلى حيث يسير به المؤمن، ونظن بأنفسنا الخير أننا من المؤمنين بمقاصده الخيّرة وقيمه الإنسانية الرفيعة. أما افريقيا السوداء فما زالت بكرا آفاقها رحبة في كل الميادين، والمسلمون بها في أمس الحاجة لمن يرفع جهلهم الديني والثقافي. وماذا علينا إذا أخطأنا فكل ابن آدم خطآ وخير الخطائين التوابون، ورحمة الله وسعت كل شيء!

كان السؤال الذي خطر ببالي في أول عهدي بالمركز هو ماذا نستطيع أن نقدم لملايين المسلمين في افريقيا ونحن لا نقبل أكثر من 40 أو 60 طالبا في السنة بين المدرستين الثانويتين. اقتنعت وقتها أن يهتم المركز بصناعة القيادات الشابة للمسلمين في افريقيا، وأن نتخير الطلاب النجباء من أبناء الزعماء والأسر الدينية المعروفة وان نربطهم بالعمل الدعوي والثقافي والتدريبي في بلادهم منذ وقت مبكر، وان يكون للمركز نشاط مقدر في ترقية المؤسسات التعليمية الإسلامية مهنيا في افريقيا. واستحدثنا مقررين دراسيين دبلوم الدعوة ودبلوم التربية بعد المرحلة الثانوية، وأسسنا إدارة خاصة للدعوة وأخرى للبحث العلمي حتى نتعرف بصورة موضوعية تفصيلية على احتياجات المسلمين في افريقيا. وتمكنا بذلك من إقامة دورات ثقافية دعوية وأخرى تدريبية للمعلمين في الكثير من البلاد. وقد كنا في بحبوحة من العيش فلم يبخل علينا مجلس الأمناء بدفع الميزانية المقررة بالعملة الصعبة واتاحت لنا اتفاقية المقر ان نشتري احتياجات الطلاب السنوية من ملابس ومعدات مكتبية ورياضية من السعودية معفاة من الجمارك. وكان هناك تخطيط لإنشاء كليات جامعية ولكن قبل ذلك طلبنا من أعضاء مجلس الأمناء توفير منح بجامعاتهم للطلاب المتفوقين وقد استفاد عدد كبير من الطلاب، بما فيهم طلاب جنوب السودان، من تلك المنح في كافة جامعات الدول الأعضاء خاصة في الأزهر الشريف وجامعة الامام محمد بن سعود.

عندما انحازت حكومة السودان لتأييد العراق في غزوه للكويت عام 1990 امتنعت دول الخليج الأربع من تمويل المركز الإسلامي فتعهدت الحكومة السودانية بتوفير الميزانية كاملة بل قررت تطويره إلى جامعة افريقيا العالمية، لكنها حافظت على وضعيتها الإقليمية المشتركة مع هيئات وأفراد جدد مثل الندوة العالية للشباب الإسلامي وجمعية قطر الخيرية وغيرها. وأوشكت أوضاع الجامعة في المدة الأخيرة أن تعود لما كانت عليه سابقا دون ارتباط رسمي بالحكومات، إلا أن عضوية مجلس الأمناء ما زال أكثرها من دول الخليج والسودان مع تمثيل مقدر للدول الافريقية.

وبعد ثلاثين عاما استطاعت الجامعة أن تثبت وجودها وريادتها على مستوى السودان وافريقيا، فهي تضم حاليا أكثر من 30 كلية ومركز علمي للدراسات، ويؤمها طلاب من أكثر من 80 قطرا، بها أكثر من 800 أستاذا، ويدرس بها لدرجة البكالوريوس أكثر من 10,000 طالب، وقد تخرج منها حوالي 33,000 طالب منهم حوالي 3,600 بدرجة الماجستير و 720 بدرجة الدكتوراة. وتُعنى الجامعة بتنظيم خريجيها ورصد حركتهم الوظيفية ونشاطهم العملي تحت مظلة رابطة خريجي الجامعة التي تُعقد لها الاجتماعات والمؤتمرات القطرية والمركزية. ولا أحسب أن هناك جامعة في السودان تفوق جامعة افريقيا في هذا المضمار. وقد صُنفت جامعة افريقيا رقم 32 على مستوى افريقيا ونالت بجدارة في عام 2019 جائزة الملك فيصل لخدمة الإسلام ومن قبلها جائزة يوسف بدري للمشاركة المجتمعية. واهتمت الجامعة كثيرا بعقد المؤتمرات العلمية المتعلقة بالإسلام وإفريقيا تحت إشراف الباحث المجتهد ب. حسن مكي مثل: مؤتمر القرآن الكريم ودوره في بناء الحضارة، مؤتمر السنة المطهرة، مؤتمر الإسلام في افريقيا، مؤتمر التعليم الإسلامي في إفريقيا، وأخيرا مؤتمر المفكر الافريقي العملاق علي المزروعي. وصدرت مئات الكتب والأوراق العلمية عن تلك المؤتمرات. وقد ابتدع المدير الحالي للجامعة (كمال محمد عبيد) أن يكلف الكليات المختلفة في الجامعة أن تقوم بمهام عملية في مجال تخصصها دون تكلفة إضافية وكأنها جزءا من التدريب التطبيقي للطلاب مثلا: تقوم كلية الإعلام بتسيير إذاعة الجامعة وقناتها الفضائية، وتقوم كلية الشريعة والقانون بأداء الأعمال القانونية والاستشارات وكذلك كلية الهندسة أما كلية الزراعة فجعلها تستوطن داخل مزرعة الجامعة الناجحة، وهي فيما أعلم من أكثر المزارع الجامعية كسبا لإيرادات إضافية تصب في مصلحة الجامعة كما تبيع منتوجاتها لمنسوبي الجامعة بأسعار مخفضة. أتمنى أن يقوم التعليم العالي بتقويم هذه التجربة الجديدة بصورة موضوعية علمية، فقد ظلت الجامعات في السودان تقوم بدورها النظري في التدريس والبحث العلمي دون مشاركة تذكر في مجال الإنتاج والتطبيق ويتطلع خريجوها للعمل المكتبي المحدود.

وقد شهد الكثيرون من مسؤولي الحكومة السودانية عبر السنوات أنهم ما زاروا بلدا افريقيا إلا تقاطر عليهم بعض خريجي جامعة افريقيا العالمية يعرضون عليهم المساعدة المجانية في كل خدمة يطلبونها وفاءً للعلم الذي نهلوه من جامعة افريقيا العالمية ولعشرتهم الطيبة مع أهل السودان الذين أحبوهم بصدق. ولكل من ينادي بتقوية الأواصر مع افريقيا فان جامعة افريقيا العالمية تعتبر سندا لا يستهان به في هذا المجال ولا أحسب أن لها مثيلا آخر في السودان. لذا ينبغي الحرص عليها وتذليل ما يعترضها من عقبات.

altayib39alabdin@gmail.com

 

آراء