جامعة النيلين تفتح نافذة علي شرق افريقيا
mnhassanb8@gmail.com
بانفصال جنوب السودان فقدت البلاد بوابتها نحو شرق افريقيا، وهي منطقة بالغة الاهمية للسودان حسب الابعاد الاستراتيجية والاقتصادية. من هنا فان تمتين العلاقة بين دولتي السودان تكتسب ابعادا حيوية من جميع الجوانب الجيوسياسية ، الاقتصادية، الاستراتيجية والاجتماعية – الثقافية.
باستلهام الدروس والعبر من التاريخ خطر ببالي ما قام به الامبرطور الروسي الاشهر بطرس الاول او كما يُعرف عند الروس ببيتر الاكبر او "الاعظم" الي ان وصل الي مرحلة القديس بطرس. في رؤيته العميقة لتطوير روسيا وربطها بالحضارة الاوروبية بشكل اوثق ومؤسس، فكر في بناء ميناء يربط بلاده مباشرة مع اوروبا. لم يجد امامه الا منطقة مليئة بالمستنقعات تطل علي بحر البلطيق عبر الخليج الفنلندي، فكان ان حشد الاف العمال وجاء بالمهندسين الروس والاجانب من دول مثل فرنسا وايطاليا وغيرهما. قام الامبرطور في واحدة من المآثر التاريخية الكبري ببناء مدينة اشتهرت باسمه (مدينة القديس بطرس) اي (سانت بطرسبورغ)، بعد ان كانت في بداية عهدها تسمي ببيتربورغ ثم تحولت بعد وفاة مؤسس الاتحاد السوفيتي فلاديمر لينين الي (لينينغراد) وعادت مرة اخري بعد تفكك الاتحاد السوفيتي الي اسمها التاريخي الاصيل.
قال بيتر قولته الشهيرة(لقد فتحت نافذة علي اوروبا). تلك المدينة الان من اجمل مدن العالم كتحفة معمارية ومتحفا حيا علي الهواء الطلق.
عبر تلك النافذة هزمت روسيا الامبرطورية السويدية واحتلت كل من فنلندا وبولندا الي حين قيام الثورة البلشفية عندما تم التخلي عن الدولتين عقب الحرب العالمية الاولي بسبب عدم نضجهما (الثوري) الذي يؤهلهما للانضمام لروسيا الاشتراكية التي اصبحت هي الاتحاد السوفيتي السابق.
كان لتلك النافذة اثرا عميقا علي تطور روسيا لتصبح واحدة من اكبر واقوي امبرطوريات العالم ولا زالت هي الدولة الاكبر مساحة في العالم والمكافيء الاساسي ، خاصة من حيث القوة العسكرية للدول الغربية المتحالفة من اقصي الشمال الاوروبي وحتي كندا والولايات المتحدة الامريكية.
اتاح لنا بروفيسور محمد الامين احمد مدير جامعة النيلين فرصة ثمينة لزيارة دولة جنوب السودان لفتح نافذة للتعاون الاكاديمي-العلمي، الثقافي مع هذه الدولة الخام الناشئة التي تتشكل. شكلت زيارة وفد جامعة السودان المكون من مدير الجامعة وشخصي كأمين للشؤون العلمية ،د. سليمان عبدالرحمن سليمان الاستاذ بكلية الطب والخبير في الجنوب ومؤسس التأمين الطبي به وأ. احمد خوجلي مدير ادارة العلاقات العامة والاعلام، شكلت فتحا اكاديميا – علميا – ثقافيا بناءا علي نتائجها.
تم افتتاح مركز لجامعة النيلين بجوبا يستوعب طلاب الجامعة الذين لم يكملوا تعليمهم بسبب الانفصال ، اضافة للذين يودون الالتحاق بالجامعة من خريجي الشهادة السودانية والدارسين باللغة العربية او بالمناهج السودانية بشكل عام ، وخريجي الجامعة الذين يودون الالتحاق بالدراسات العليا. كذلك فتحت الزيارة بوابة لاقامة فرع للجامعة بدولة جنوب السودان، ليس كرؤية منها فحسب وانما ايضا بناءا علي طلب والحاح العديد من الجنوبيين من مسؤولين وخريجين وغيرهم.
من نتائج الزيارة توقيع اتفاقية تعاون مع جامعة جوبا واقامة العديد من الروابط الاكاديمية والبحثية والربط الاقتصادي – الاستثماري مع مؤسسات مهمة اضافة لفتح مجال واسع للتعاون الشعبي بين البلدين.
فوق كل ذلك كانت الزيارة مليئة بالمفاجآت اولها كان منظر مدينة جوبا من اعلي. كانت اطلالتنا الاولي علي (بحر الجبل) بمياهه الدافقة وهو يحيط بالمدينة ثم بدت لنا جبال (لادو وكجور) مخضرة نضرة تزين المدينة، الا ان المفجأة الاكبر كانت رؤيتنا لمدينة حديثة منظمة مليئة بالمنازل الجميلة ذات النمط المعماري المميز المتسق بطابع متناسق ، ذلك غير كم لا يستهان به من العمارات السوامق. كل ذلك لم يتبادر للذهن مع الجو الحرب والاقتتال والتوتر السائد.
ثاني المفاجآت كانت حفاوة الاستقبال التي حظي بها الوفد من البروفيسور بيتر ادوك وزير التعليم العالي الذي كان وزيرا اتحاديا للتعليم العالي في السودان ابان الحكومة المشتركة بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية. مهد لنا ذلك اللقاء الطريق نحو انجاز مهمتنا علي اكمل وجه واعطانا الثقة والاطمئنان. كما اعطي اللقاء زخما اعلاميا للزيارة بتغطية واسعة محليا واقليميا وعالميا مثلما قامت به قناة الجزيرة علي سبيل المثال، وقد جد أ. احمد خوجلي واجاد في هذه المهمة المنهكة.
المفاجأة الثالثة كانت في الجدية والاهتمام الذي وجدته الزيارة من السفارة السودانية ، اذ لم يكن هناك تنسيق مسبق وثيق معها، الا ان السفارة ممثلة في القائم بالاعمال السفير مجدي احمد مفضل وأ. علي عثمان وطاقم السفارة كانت مواكبة للوفد في جميع انشطته وخطواته منذ لحظة وصولنا وحتي بوابة طائرة المغادرة. المواكبة بعربات السفارة والمرافقة وكرم الضيافة امنت للوفد الظروف المواتية لانجاز مهامه وللتجوال والتعرف علي مدينة جوبا بجميع معالمها والتعرف علي مختلف نواحي الحياة فيها، وهو ما لم يكن ممكنا بغير ذلك.
المفاجأة الرابعة تمثلت في داخل المدينة نفسها، اذ وجدنا مدينة منظمة آمنة تضج بالحياة – اما النار التي تتقد تحت الرماد فلم نراها - مع غياب البنيات التحتية الاساسية مثل التوليد الكهربائي المنتظم وشبكة المياه وغيرها من خدمات، الا ان المدينة في ثوبها الاخضر النضر تتغلب علي تلك الصعوبات بالمولدات الكهربايئة وبالطاقة الشمسية وناقلات المياه. لقد انجز البنك الدولي علي ما يبدو مهمته في تعبيد عدد من الطرق وبناء المؤسسات الحكومية وغيرها من مهام وهذا مجرد تحليل لا يستند الي بيانات ولكنه امر جاء حتي في متن اتفاقيات السلام الشامل وما كان يعرف بمال المانحين.
في بلاد كانت تعاني من ويلات عدم الاستقرار والاقتتال الداخلي فقد شكل نمط الحياة والهدوء السائد مفاجأة لي شخصيا خاصة وان المدينة مليئة بالاجانب من اوربيين وصينين واثيوبين وارتريين وحتي اعدادا معتبرة من العرب خاصة في الفنادق والمطاعم والمقاهي. ذلك اضافة لمواطني شرق افريقيا الذين لا يمكن تمييزهم عن السكان الاصليين. فوق ذلك فالمدينة مليئة بشكل مدهش بالفنادق والمطاعم الفاخرة والبنوك وشركات التأمين وشركات الخدمات من كل شاكلة ونوع. الشاحنات القادمة من شرق افريقيا تملأ الطرقات خاصة وقد تم تعبيد الطرق المؤدية الي يوغندا وكينيا. اما السودانيين الذين اكتسبوا حق المواطنة فتكتظ بهم المدينة خاصة في الانشطة التجارية الصغيرة والمتوسطة.
لكن من ابرز الاسماء السودانية الشمالية التي صادفتنا كان السيد امين عكاشة الذي تمتد جذوره الي (كلي) في ولاية نهر النيل. لقد اقمنا بفندق هذا المستثمر الكبير وهو فندق فخم يسمي بالسودان الجديد. امين عكاشة ظاهرة تستحق التأمل فهو من عائلة ذهبت الي الجنوب منذ بدايات القرن السابق ورسخت جذورها هناك حتي اصبح مواطنا يجد الاحترام من الكبير والصغير، كما وجد اعتبارا خاصا من كبار قادة الجنوب ومنهم الراحل جون قرنق والرئيس سلفا كير. تمتد استثمارات هذا الرجل الي البنوك وشركات التأمين وغيرها واصبح يقيم التواصل مع مختلف المستثمرين الاجانب بما فيهم من دول خليجية مهمة. بذلك وبالنسبة لي كممتهن للاقتصاد فهو رجل ناجح بجميع المقاييس اضافة لكونه من كبار رجال الاعمال المرموقين ونموذج للتواضع والانسانية في مكان لم تفارقه المشاكل العصية المزمنة، وهو يزاوج بين مواطنته كجنوب سوداني وبين اعتزازه باصوله الشمالية ، يفعل ذلك بتناغم يجيده مايسترو ماهر ، في نفس الوقت الذي يضع قلبه علي السودان بوعي وبفهم استراتيجي عميق ولا غرابة في ذلك من رجل ما كان يمكن ان يكون بنفس هذا النجاح اذا لم يحظي بتلك الصفات بمقاييس الزمان والمكان.
من المفاجآت الكبري ايضا كثافة الاستثمار الاجنبي ، اذ ان المستثمرين من ذوي الرؤية المستقبلية يتسابقون علي اقتناء الاراضي واقامة المباني وتأسيس الشركات هناك. ونحن في اتجاهنا نحو بحر الجبل جنوبا عبر الجسر المؤدي الي الاتوستراد الي كينيا ويوغندا ومدن الجنوب طالعتنا عمارة شاهقة عرفنا انها ملك للصين. هذه العمارة تستخدم كمقر للعمل والسكن وهي علي شاطيء النهر في مكان سيجعل قيمتها المستقبلية بالمساحة الواسعة التي تحتلها تقدر بملايين عديدة من الدولارات. عند وصولنا لفندق متاخم لتلك العمارة وجدناها حصن منيع بابواب محكمة تقوم علي سورها الذي يذكر بسور الصين العظيم.
كذلك علمنا ان القطريين قد اشتروا اراضي واسعة في ذلك الموقع سيصبح من شواهد المدينة الحية. اما عن الفنادق الفخمة علي شاطيء النهر فحدث ولا حرج لدرجة ان ادهش ذلك خبيرنا د. سليمان. المستثمرون يتسابقون علي خيارات دولة خام تتشكل وسترتفع قيمة الاراضي والمباني فيها في حالة نعمت البلاد بالاستقرار، وهو ما يدركه العقل الراجح والاغلبية الكبري في دولة جنوب السودان. تغييب الاستثمارات السودانية للاسف عن المشهد ما عدا اثنين من اذكياء المستثمرين تترد اسماءهما ويشار الي ممتلكاتهم في قلب عاصمة الجنوب.,
من اهم انجازات الرحلة ما تم لوفد جامعة النيلين داخل اسوار جامعة جوبا، اذ وجدنا مديرها بروفيسور جون اكيك متفهم منفتح علي التعاون والمشاركة العلمية مع جامعة النيلين، كانت تلك هي الروح التي سادت بين الوفد واعضاء هيئة التدريس بالجامعة. كيف لا يحدث ذلك وغالبيتهم قد تخرجوا او درسوا مرحلة من مراحل دراستهم في السودان من حلفا حتي بورتسودان والفاشر والجنينة. شكل ذلك ارضية صلبة لنجاح مركز جامعة النيلين الذي تم افتتاحه كما توج الاجتماع باتفاقية للتعاون بين الجامعتين تشمل معظم الجوانب الاكاديمية والبحثية.
من اكبر المفاجآت ليس كثرة خريجي جامعة النيلين وتسنمهم لمناصب ومهام مرموقة في القطاعين العام والخاص وانما ايضا حفاوة الاستقبال التي قابلتنا في الطرقات والاسواق والاماكن التي قمنا بزيارتها ، اذ ومن خلال التغطية الاعلامية الواسعة تعرف علينا العديد من الناس وكانوا يرحبون بنا ، وجدنا ذلك في كل مكان حتي في اماكن من المفترض ان تكون مغلقة امام الزوار الاجانب، الا اننا علي ما يبدو لم نكن غرباء وانما كان الجواز غريبا.
في خلاصة القول كان الناس في جوبا يقولون اننا شعب واحد في بلدين وان مصيرنا مشترك ووجداننا واحد وان المشاكل العالقة بيننا الي زوال. حدثنا ألعارفون ان المواطنين في مناطق التماس بين البلدين يتعاملون بشكل طبيعي كشعب واحد، اولئك السكان الذين يقدر عددهم بحوالي سبعة الي عشرة ملايين شخص، حسب ما يتداول الناس. الزائر لجوبا يدرك منذ الوهلة الاولي فداحة الاخطاء التاريخية من الطرفين لكن علي الاخ الاكبر تقع المسئولية الكبري.
دولة جنوب السودان شريان رئيس بالنسبة للسودان ومصير محتوم لا يمكن الفكاك منه وبذلك فقد فتحت زيارة وفد جامعة النيلين نافذة حيوية للتعاون بين البلدين وبالتالي علي مجمل شرق افريقيا. نرجو ان يجد هذا المجهود الفهم والتقدير والدعم الذي يستحق من متخذي القرار لتطوير المسار كبداية لتعاون علمي معرفي مثمر وان يدعم بتعاون ثقافي – فني – رياضي لتوسيع المشاركة الشعبية في تمتين الروابط بين الشعب في البلدين.
لقد بدأ بحمد الله مركز جامعة النيلين بدولة جنوب السودان عمله وسيباشر الطلاب الدراسة به ان شاء الله مع بداية العام الدراسي 2016 – 2017م وبحكم الحجم الكبير لطلاب الجامعة بجنوب السودان، فان هذا المركز سيكون جامعة قائمة بذاتها ومنارة للعلم والمعرفة. تدرك الجامعة اهمية وضرورة تطوير العلاقة والتأسيس لتعاون مستدام يلبي الاحتياجات التنموية في دولة جنوب السودان ويحقق رؤية السيد وزير التعليم العالي هناك ، الذي ركز علي اهمية توفير الكوادر المؤهلة وطالب بادخال التخصصات العلمية والمهنية ، كما ان الشراكة مع جامعة جوبا توفر الكثير من الاسس الموضوعية لتمتين التعاون في مجالات التعليم العالي والبحث العلمي المتعددة. يتم ذلك مع التوجه العالمي نحو التعاون والتكامل في عصر العولمة بجميع اشكالها والتي تعتبر العلوم والتكنواوجيا والمعرفة عناصرها الاساسية.
انها تجربة مثمرة بجميع المقاييس تمت بمبادرة شجاعة من ادارة الجامعة وبدعم شخصي من البروفيسور مدير الجامعة وهو امر يستحق ان يثمن ويجد التقدير الواجب، اذ تواصل الجامعة انفتحها علي العالم شرقا وغربا ، شمالا وجنوبا وبالحق فان ذوي القربي اولا بالمعروف وهل من هو اقرب الينا من شعب الجنوب الحبيب؟
هي نافذة قد فتحت ونرجو ان تكون بداية لمسار سالك لمستقبل مشرق بين البلدين لصيانة واستدامة مصالح شعب واحد في بلدين، ذلك رغم الصعاب والاشواك التي تحيط بالطريق.
عن صحيفة التيار، الثلاثاء 24 مايو 2016م