جنة بلال: خليل فرح والوعي القومي المبكر والمتجاوز 

 


 

 

الشاعر السوداني الكبير خليل فرح (1894-1932) من أوائل رواد قصيدة (أغنية الحقيبة) ومن شعراء الفصيح وفن الدوبيت. ولد خليل بقرية دبروسة ريفي وادي حلفا بشمال السودان وتخرج في كلية غردون قسم الهندسة الميكانيكية وعمل بمصلحة البوستة والتلغراف بالخرطوم حتى وفاته المبكرة في 1932 بداء الصدر.

ويمتاز خليل فرح بأنه صاحب بصمة خاصة في كتابة الشعر من حيث المفردة والصور والتراكيب المبتكرة والمضامين غير المطروقة. وهو ينفرد من بين شعراء أغنية (الحقيبة) بانخراطه في النضال السياسي وذلك من خلال عضويته في جمعية الاتحاد التي انبثقت عنها جمعية اللواء الأبيض التي قادت ثورة 1924 ضد الانجليز، فلا عجب أن كان أول شاعر غنائي يوظف الشعر في خدمة النضال الوطني، وأول من اجترح "ثيمة" الحبيبة/ الوطن في الشعر السوداني وفق ما نرى.

وفوق كل ذلك يعد خليل فرح عندنا أول شاعر ومثقف سوداني يعي بالتنوع الإثني والثقافي، التاريخي والمعاصر، للهوية السودانية القومية الجامعة، بل ويبتكر للتعبير عن ذلك رمزا خاصاً به لم يسبقه إليه أحد. وهو مصطلح (جنّة بلال). يقول خليل في الأغنية الوطنية الأولى (عزة في هواك) والتي كتبها وهو بعيدا عن وطنه بمصر:


عزّة في هواك نحن الجبال/ وللبخوض صفاك نحن النبالْ

عزة ما نســيت جـنة بلال/ وملعب الشباب تحت الظلالْ


 وعزة هنا هي رمز الخليل إلى الحبيبة/ الوطن. و(جنة بلال) رمزه إلى السودان الوطن. وفي قصيدة قصيرة كتبها عن مدينة ود مدني، يقول خليل فرح:


سقا الحيا ود مدني

.......

جنة بلالي وعدني


وبلال هو بلال بن رباح ذلك الصحابي الجليل النبيل المعروف، والذي كان ينسب إلى الحبشة. وليس بالضرورة أن تكون هذه النسبة مقصورة على بلاد الحبشة الحاضرة ويجوز أن تكون إشارة إلى أفريقيا أو بلاد السود أو السودان (ضد البيضان) بصفة عامة في عرف العرب في ذلك الزمان.

ولما كان بلال ذو أصل أفريقي أسود وثقافة عربية إسلامية بحكم النشأة، اتخذه خليل فرح رمزا الهوية للسودانية الجامعة. و(جنة بلال) هي هذا البلد الأفريقي الغني بالخيرات المسمى الآن بالسودان الدولة المعروفة. وتوحي كلمة (جنة) في هذا السياق بـ(جنة الأرض) التي طالما حلم بتحقيقها في هذه الدنيا، أتباع الديانات السماوية الكتابية الثلاث والاشتراكيون. ويقول خليل فرح في قصيدة (يا نيلنا يا نيل الحياة):


قول للسـلف خـلفاً حــَلال/ نتلاقـــي فــــي جـــنة بــــلالْ

من برنو للريف أب علال/ عربان خلا وأولاد دلالْ



و"برنو" هنا إشارة إلى الروافد والأصول الأفريقية: الإثنية والثقافية للهوية السودانية. وبهذا التصور يكون خليل فرح، بلا منازع، الرائد الأول للرؤية "الأفروعربية" بكل تجلياتها في الخطاب الثقافي والسياسي السوداني المعاصر. فهو قد سبق بذلك شعراء (الغابة والصحراء) الذين ظهروا في أوائل الستينيات من القرن الماضي، كما سبق أصحاب المسميات اللاحقة لهذه الرؤية مثل (السودانوية) وغيرها.

لم يع خليل فرح بالتنوع المعاصر للهوية السودانية وحسب، بل ربطه بالتنوع التاريخي منذ أقدم العصور، مثلما فعلت (الغابة والصحراء) و(السودانوية) من بعده. يقول خليل في قصيدة اتخذت في الديوان (تحقيق علي المك) عنوان (تعال إليّ):


وكمْ أثرٍ لنا عفتِ الليالي/ وشابتْ وهــــو مجـــلوٌ وســــيمُ

فسلْ سوبا وسلْ سِنّار عنّا/ وواد النخل تنبئك الرسومُ


سوبا هي عاصمة مملكة علَوّة المسيحية السودانية، وهي ترمز هنا إلى كل إلى الممالك النوبية المسيحية. وسنار كما هو معروف هي مملكة سنار أو المملكة الزرقاء (الأفروعربية). وقد ريط خليل فرح ووصل كل هذا الإرث المتنوع بالجذور التاريخية البعيدة حيث ممالك كوش ونبتة ومروي. يقول في قصيدة (وطني):


اثيوبيا عظة الممالك وابنة الت/تاريـــــخ بيــن مصـــــارع الأمجــــــادِ

يا أخت (موسى) استعزّك راجعاً/ موسى وعادكِ من بينك عوادي


كلمة اثيوبيا هنا يقصد بها بلاد السودان الحاضرة وليس الحبشة. وهو أول كاتب سوداني معاصر على الإطلاق يستخدم اسم (اثيوبيا) للدلالة على السودان البلد الحاضر. فاسم اثيوبيا اطلق في الأصل على بلاد السودان الحالية. واثيوبيا كلمة إغريقية قديمة مكونة من مقطعين وتعني حرفياً "أرض السود" ويقصدون بها البلاد التي تقع جنوب مصر بعد أسوان مباشرة. فحيثما ورد اسم اثيوبيا في آثار الإغريق والرومان والكتاب المقدس، فهي تعني بلاد السودان الحاضرة. غير أن الكثيرين بمن فيهم الباحثون المختصون والمترجمون يجهلون أو يتجاهلون هذه الحقيقة. فدولة اثيوبيا الحاضرة لم تتخذ هذا الاسم إلا في سنة 1945 بمرسوم أصدره امبراطور الحبشة هيلاسي لاسي.

ورغم أن حديث الشاعر عن (موسى) بالبيت الثاني هنا يكتنفه شيء من الغموض إلا أن الواضح أنه يشير به إلى علاقة النبي موسى ببلاد السودان الحاضرة. وهذا ما ورد ذكره في بعض المصادر الدينية والتاريخية وعلى رأسها كتاب (تاريخ اليهود القديم) وشروحات التوارة اليهودية، وتأويلات المتصوفة المسلمين السودانيين.

وكان رائد علم النفس فرويد قد ذكر شيء من ذلك بكتابه (موسى والتوحيد). كما أورد نعوم شقير في كتابه (جغرافية وتاريخ السودان) نصا طويلا يربط قصة النبي موسى بأرض السودان الحاضر. والأرجح أن هذا النص منقول عن كتاب (تاريخ اليهود القديم) والمعرّب باسم (العاديات اليهودية) والذي وضعه بالإغريقية في القرن الأول الميلادي المؤرخ اليهودي يوسيفوس (يوسف في العربية والعبرية).

كذلك ورد في شعر خليل فرح ما يشير إلى أن السودان أصل حضارة وادي النيل، وأن الحضارة انتقلت من جنوب الوادي إلى شماله وهو ما تقول به أحدث النظريات في علم التاريخ والآثار. ففي قصيدة، أغنية (ما هو عارف قدمه المفارق) والتي كتبها بمصر التي كان قد سافر إليها للعلاج، يقول خليل:


في يمين النيل حيثُ سابقْ/ كنّا فوق أعرافْ السوابقْ

الضريح الفاح طيبهُ عابقْ/ الســـــلام يا المهدي الإمامْ


قوله "يمين النيل" يعني حرفيا "جنوب النيل" أي السودان. واليمين في اللغة جهة  الجنوب، فقد كانوا يحددون الاتجاهات باستقبال مشرق الشمس، فما يقع على يمينهم هو الجنوب وما يقع على شمالهم هو الشمال. وسميت اليمن يمنا من اليمين لوقوعها يمين الكعبة. وسميت الشام شاما لوقوعها شمال الكعبة. والشام أصلها الشأم بالهمزة (انظر معجم لسان العرب- مادة يمين).

ومعنى قول الشاعر أننا نحن في جنوب الوادي كنا الأسبق والأكثر تفوقا بين الأمم. والسوابق في قوله "أعراف السوابق" هي الخيل الأصيلة السبّاقة، رمز العزة والمجد والسطوة والفتوحات في ذلك الزمان. والأعراف جمع عرف: عُرف الفرس وعُرف الديك. ويرى الشاعر أن هذا السبق والتفوق ظل في أمته منذ تاريخ تلك الأمجاد التليدة وحتى انتصار الثورة المهدية التي طردت المستعمر الدخيل والتي أشار إليها هنا بضريح الإمام محمد أحمد المهدي.


المراجع والمصادر:

1- ديوان خليل فرح، تحقيق علي المك، دار جامعة الخرطوم للنشر 1977

2- هيرودت، تاريخ هيرودت، ترجمة عبد الاله الملاح، مراجعة: د. أحمد السقاف ود. حمد بن صراي، المجمع الثقافي، ابو ظبي، 2001

3- سيغموند فرويد، موسى والتوحيد، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة بيروت ط 2000

4- نعوم شقير، تاريخ وجغرافية السودان، دار الثقافة بيروت، لبنان، ط1، 1903.

5- عبد المنعم عجب الفيا، أوراق في الثقافة السودانية، مدارات للنشر، الخرطوم، 2018



abusara21@gmail.com

 

آراء