جوع بنت البرقي … بقلم: د. عمر بادي

 


 

د. عمر بادي
28 August, 2010

 


عمود : محور اللقيا
مواصلة لما كنت قد ذكرته في مقالتي السابقة عن زيارتي الأخيرة إلى مدينة لندن و ضاحيتها أكسفورد , و رغم أن هذه الزيارة ليست بالزيارة الأولى لي إلى تلك البقاع , إلا أن الرؤية هذه المرة قد تجلت في أشياء مرتبطة بهموم الوطن , و هل لنا من فكاك من هموم الوطن !
الإستعمار البريطاني للسودان بدأ في عام 1898 بعد معركة كرري و زوال الدولة المهدية . كانت حالة البلد آنذاك في الحضيض , فقد سبب إقتصاد الحرب الذي إنتهجته الدولة المهدية و الدعوة إلى النفرة و الجهاد و ما صاحب ذلك من شح في الأمطار و غزو للجراد , أدى كل ذلك إلى مجاعة سنة ستة الشهيرة ( 1306 هجرية ) و التي إستمرت بالتقويم الميلادي من 1888 إلى 1890 , فقد ترك المزارعون أراضيهم الزراعية و ترك المهنيون أعمالهم و إنخرطوا جميعا في الجيوش التي تحركت في كل الإتجاهات داخل السودان لإخضاع المعارضين لسلطة الخليفة عبد الله التعايشي , و كذا الجيوش التي إتجهت شرقا إلى الحبشة و شمالا إلى مصر من أجل الفتوحات و نشر الدعوة المهدوية تشبها بالرسول الكريم في تخطيطه لحرب الفرس و الروم .
 في مجاعة سنة ستة أكل الناس  الجلود و ماتوا فيها بمئات الآلاف و هلكت جيوش عثمان دقنة و عبد الرحمن النجومي , و أتانا منها المثل الذي يضرب في الحالة المزرية للجوع : ( جوع بت البرقي الشوت رحطها ) ! و قد حكى لي والدي يرحمه الله حكاية قيلت له عن تلك الفترة , فقد كانت لإحدى الأسر شاة و لكنها نفقت و نسبة لجوع الأبناء إتفق الأبوان على طبخها و إعدادها للأبناء و عند الأكل صار الأب يوجه أبناءه بأن يأكلوا تلك اللحمة و ( يكدوا ) ذلك العظم فطلبت منه زوجته أن يكف عن ذلك و يدع الأبناء يأكلون كما يشاؤن فرد عليها قائلا : ( أها عشان تدخلك دا أنا ماكل معاهم ) و نزل و شرع في الأكل معهم ! لقد كانت فترة الثلاث عشرة سنة التي عاشتها الدولة المهدية ( 1885 – 1898 ) كلها مملؤة بالجهاد و بالحروب و بالحراك السكاني , و لذلك لم تكن فترة إستقرار و تنمية , و في حقيقة الأمر فإن الدولة المهدية قد ورثت التخلف من الحكم التركي العثماني للسودان و الذي كان كل همه أن يجمع الضرائب الباهظة من الناس بسطوة جنوده الذين لا يرحمون لإرسالها إلى الأستانة و لم يكن همهم تطوير البلد .
بدأ البريطانيون حكم السودان من الصفر و قرروا أن ينتقلوا به و بأهليه إلى حضارة القرن العشرين , فأسسوا كلية غردون في عام 1901 و أفتتحت رسميا في العام الذي يليه و قد تحولت فيما بعد إلى جامعة الخرطوم , و أقاموا التعليم العام في العاصمة و الأقاليم , و أنشأوا ميناء بورتسودان لإرساء السفن في عام 1907 , و مدوا السكك الحديدية من الشمال و إلى الأبيض التي وصلها الخط في عام 1912 , و أنشأوا جسر النيل الأزرق لربط الخرطوم بالخرطوم بحري في عام 1910 , و كذا جسر النيل الأبيض لربط الخرطوم بأم درمان في عام 1925 , و أنشأوا المدرسة الحربية ( الكلية الحربية لاحقا ) و شركة النور و أتوا بالطفرة العمرانية و الطرق منذ العشرينات , ثم أقاموا السدود على النيلين الأبيض و الأزرق و أنشأوا مشروع الجزيرة الذي كان سابقا لزمانه في إنسيابية الماء الطبيعية في القنوات من خزان سنار و إلى آخر ( حواشة ) فيه دون الإحتياج إلى مضخات و كذا في إدارته التي كانت مثالا يحتذى !
و أنا في زيارتي الأخيرة إلى لندن مررت بشلرع كورنيش نهر التايمز فتذكرت شارع النيل في الخرطوم , فالكورنيش هو نفسه و كذلك الأشجار الضخمة المغروسة على جانبي الشارع و التي تغطيه من عل , حتى المباني على جانبي الطريق تشابه مباني الوزارات و الفندق الكبير عندنا . السودان آنذاك كان في تنمية مستمرة و كان جاذبا للإستثمار الأجنبي لإنفتاحه و لقوانينه المستمدة من الشريعة الإسلامية و من القانون الهندي و من العرف و التقاليد و كانت المحاكم تشمل المحاكم المدنية و المحاكم الشرعية و المحاكم الأهلية الخاصة بزعماء القبائل , و قد إستمر حال المحاكم هكذا حتى بعد إستقلال السودان , فقط ألغيت بعض القوانين الشخصية الليبرالية التي تتنافى مع ديننا و تقاليدنا , و عند خروج البريطانيين من السودان في عام 1956 تركوا وراءهم ما كانوا هم يعتزون به : شعب مؤهل لحكم بلده و إقتصاد قوي ذي فائض مالي و خدمة مدنية تضاهي ما في بريطانيا ! يكفيني أن أقول هنا أنه بعد الإستقلال و حتى فترة الستينات لم يكن هنالك أي شخص سوداني يتسول في الطرقات , و إنما كان التسول مقصورا على الوافدين إلى السودان من الدول الأخرى و لم يكن هنالك معسرون و لا متعثرون , و هذه حقيقة يعرفها كل من تجول في أسواق و شوارع المدن في ذلك الزمان !
ربما يظن ظان أنني أمجد فترة الإستعمار و أدعو لعودتهم كما قد دعا بعض اليائسين من الحكم الوطني . لا , لست كذلك و لكنني أبنت محاسن الإستعمار البريطاني في تطوير البلد و لم أبن مساوئه في إستغلال الثروات و في كبت الحريات و في تطبيق سياسة ( فرق تسد ) و خلقه لمشكلة الجنوب بسن قانون المناطق المقفولة و إطلاق يد المنظمات التبشيرية فيه و إعتماد اللغة الإنجليزية للتعليم في مدارسها و منعه للتواصل بين الشماليين و الجنوبيين .
عندما إزداد الوعي المعرفي بين السودانيين كون الإنجليز المجلس الإستشاري لشمال السودان في عام 1944 , و بعده تكونت الجمعية التشريعية في عام 1948 , و نشطت الأحزاب في تكويناتها و تحالفاتها و هكذا كانت إنتخابات الحكومة الوطنية الأولى في عام 1953 و أعلن إستقلال السودان في 1/1/1956 . المشكلة الأساسية التي جابهت السودان كانت في تطبيق الديموقراطية في بيئة نصف جاهلة و مفعمة بالولاءات الدينية و العشائرية فكان الإستغلال من السياسيين , و عند تحول الحكم إلى الديكتاتورية العسكرية ألغيت عقول الناس و صاروا حقول تجارب للمستبدين الغير عادلين !
في بريطانيا تمجد الملكة في خطبها التنوع العرقي و اللوني الذي أمامها بين شعبها , و ترى في ذلك مفخرة و خيرا إلى بريطانيا . كذا الحال في أمريكا التي صارت تفاخر بالتنوع اللوني و تظهره في إعلامها و أفلامها .هل شعرتم في السودان بشيء مثل هذا يمكن أن يكون لنا في المستقبل الذي سوف نصنعه بإرادتنا ؟
omar baday [ombaday@yahoo.com]

 

آراء