حمى حرب “الوثائق”

 


 

 


حمى حرب الوثائق المنتشرة هذه الأيام في الصحف ووسائل التواصل الإجتماعي حول اتهامات بالتورط في الفساد في أكثر من مؤسسة حكومية مجرد عرض لما هو أعظم من قضايا فساد هنا أو هناك, بل تشير إلى مرض أخطر وهو أن جهاز الدولة تضعضع ودخل في حالة شلل شبه كامل أفقده السيطرة على ضبط الأمور في دولاب الجهاز الحكومي, أضحت معه كل محاولة للاستمرار في معالجة التجاوزات الفاضحة داخل قمقم السلطة بالتستر عليها أو "دغمستها" أمر غير ممكن ولا وارد إبقاؤه خارج تسليط الأضواء عليه.
الأمر الوحيد المؤكد أن خروج قضايا الفساد إلى العلن لم تتم بصورة طبيعية, أي عن طريقة تغطيات صحافية مثلاً لإجراءات قضائية أمام المحاكم, بل تم أغلبها عن طريق تسريب وثائق ومعلومات وإفادات من داخل حوش "الحكومة" من مؤسساتها المختلفة, وبغض النظر عن دوافع أو نزاهة الذين تبرعوا بتلك المعلومات تسريباً للرأي العام للصحف, فقد كان في هذا الاسلوب ما يشير إلى انسداد الأفق امام معالجات مؤسسية شفّافة تُوقف هذه التجاوزات عند حدها, أو تترك القانون يأخذ مجراه إلى آخر الشوط إحقاقاً لحقوق الأطراف المختلفة في عملية عدلية نظيفة مكتملة الأركان.
ما حدث ببساطة أن القاسم المشترك في كل هذه القضايا التي وجدت طريقها إلى الرأي العام فاتحة أبواب ملفات الفساد على مصاريعها, يعود إلى أنه جرت محاولات متعمدة تدخلت فيها جهات ذات نفوذ لعرقلة وصول العملية العدلية إلى منتهاها, وهو أمر أقر به وزير العدل صراحة في خطابه أماما المجلس الوطني بشأن قضية الأقطان, وإن كان وقع هو نفسه في المحظور حين لم يكشف عن تلك الجهات أو يعلن إتخاذ إجراءات محددة ضدها, ثم جاءت المعالجة المعوجّة لملف الفساد في مكتب والي الخرطوم لتكشف المزيد من الخلل المؤسسي في وزارة العدل نفسها المناط بها تولي مسؤولية الدور الأكبر في الحرص على سيادة القانون والحفاظ على المال العام وتمكين القضاء من أن يقول كلمته في شأن كل من طاله اتهام, ثم جاءت طامة شبهة الاتهامات الموجهة لوكيل العدل.
على أي حال فإن حمى تسريب الوثائق الحكومية وكان آخرها ما تم نشره بالأمس ويتضمن إجراءات حراسة ضابط الشرطة المتهم في قضية مكتب ولاية الخرطوم, يحمل نذراً خطيرة تشير إلى مدى إنفلات الأمور داخل مؤسسات الحكم حتى بلغ مؤسسة نظامية هي الشرطة المناط بها ضمان وحفظ النظام, فإذا هي نفسها تقع تحت دائرة فقدان الإنضباط, وهو ما يكشف عن مدى عمق لتحلل بنية الحكم من قاعدة الهرم وتفككه.
ما تحاول السلطات عمله بدلاً عن معالجة جذور المرض التي أدت بنا إلى هذا الوضع المتردي, السعي إلى مطاردة الأعراض الناجمة عنه, فالمشكلة في حقيقة الأمر ليس من هم الذين سربّوا هذه الوثائق, ولا هي الصحف التي تصدّت لنشرها, بل وجود البيئة التي أدت إلى انتشار ظاهرة الفساد على نحو غير مسبوق في جسد الأجهزة الحاكمة بمسمياتها المختلفة, فالعلّة هي وجود الفساد وتمدده, وليست العلّة في الكشف عنه.
لم يعد ممكناً أن تستعصم قيادة الحكم بالصمت أو تجاهل ما يجري في شأن قضايا الفساد وكأنها تحدث في بلد آخر, أو موجة عابرة ستمر بالإنحاء لتيارها, فلن تلبث الحملة على الفساد طويلاً عند عتبة صغار الفاسدين بل ستكبر كرة الثلج المتدحرجة بحكم طبيعة الأشياء, ولا يمكن محاربة الفساد بالتصريحات الحكومية في غياب إرادة سياسية تمكّن من وجود مؤسسات عدلية قوية صارمة وفعّالة يخضع لها الجميع, وإلا فلا ناج من الفضح في سيل الفساد المنهمر.

 

آراء