حميدتي… ما كنت رائق وساكن في صفاء وتأمين

 


 

 

لعن الله الطمع، فهو صفة من صفات جهنم، (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ)، وفي الدنيا فإن جهنم المال والجاه والنفوذ لا تمتلئ ابدأ، وهي أيضاً في حالة بحث دائم عن المزيد.
وقع حميدتي مثل كثيرون غيره، في هذا الفخ، فانطلق يجمع الاموال والجاه والنفوذ، في شراهة عجيبة، والمشكلة انه غير مهيأ لذلك وبنيته الفكرية غير مستعدة لتحمل كل هذا الكم الهائل من الثروة والنفوذ الذي وجده نفسه فيه.
حميدتي رجل صنعته الظروف ولما جاءته الفرصة ليصنع هو الظروف بما امتلكه من ثروة ونفوذ ويعود لبلده بالخير والنفع فشل في ذلك، فهو ليس مفكراً تجارياً عصامياً كالشيخ مصطفى الامين أو فتح الرحمن البشير او خليل عثمان او النفيدي، أو داؤود عبد اللطيف، وغيرهم من الذين بدأوا رحلة الثروة من الصفر وتحدوا الصعاب.
ولا هو صاحب فكر يمتلك ملكة القراءة المتأنية، والتفكير المتأمل، والتخطيط والرؤية المستقبلية مثل عبد الخالق محجوب أو الترابي او الصادق المهدي، أو جون قرنق، مهما كانت درجة الاختلاف أو الاتفاق مع فكرهم.
ولا هو شيخ طريقة صوفية يملك جاذبية هؤلاء الشيوخ في جعل الاتباع يلتفون حولهم بقوة الايمان الروحي بهم والاعتقاد في بركتهم.
ولا هو شيخ قبيلة بالوراثة يملك التأثير وخضوع افراد القبيلة لشيخهم بغض النظر عن رضاهم عنه او سخطهم عليه.
ولا هو العسكري والذي يحمل رتبة فريق مر بما مر به اقرانه ممن يحملون الرتبة نفسها، من سلك الطريق الطويل، منذ اول يوم يجلسون فيه على مقاعد الدراسة في المدرسة الاولية أو الابتدائية، مرورا بالمتوسطة ثم الثانوية ثم الكلية الحربية، وبعدها الانخراط في سلك الخدمة، والتنقل هنا وهناك، بين وحدات مختلفة وبين اقاليم مختلفة، والسفر للخارج، وما يقع لهم في اثناء هذه السنوات من حروب وصراع ومشاكل، ومع هذا الجهد ينخرط بعضهم في الدراسات العسكرية العليا، ولا يجد الواحد منهم نفسه قد وصل لرتبة فريق؛ إلا وقد عرك الدنيا وعركته؛ وشاب شعر رأسه مما واجهه من خطوب ومحن. وقد تشرب الروح العسكرية فأصبحت ديدن حياته، تتحكم حتى في علاقته مع افراد اسرته. ولا يرى في الحياة الا قانونا واحدا اسمه الضبط والربط.
وجد حميدتي نفسه انه يريد ان يكون التاجر الماهر، وصاحب الفكر الالمعي، والشيخ الصوفي وشيخ القبيلة، والعسكري المتمرس، مع ان كل واحد من هؤلاء حصر نفسه في طريقه المعين الذي ارتضاه، فقد ظل عبد الخالق مفكراً إلى أن دفع حياته ثمنا لفكره، وظل الترابي سياسيا مفكرا ولم يدخل عالم التجارة، ولم نسمع بالصادق المهدي رئيسا لمجلس ادارة شركة، واستمر قرنق يحمل البندقية الى ان تقلد منصب نائب رئيس الجمهورية. ولم نسمع ان داؤود عبد اللطيف كون مليشيا ولا طمع فتح الرحمن البشير في رتبة عسكرية.
حميدتي جعل سفينته كسفينة نوح تحمل العديد من الانواع، دونما خطة محددة، ونجت سفينة نوح لأن الهدف كان واضحا بينما غرقت سفينة حميدتي لأنه حملها ما لا تحتمل، وتاه قبطان السفينة في لجج الامواج.
في سبيل سعي حميدتي ليلعب دور التاجر والمفكر وشيخ القبيلة والعسكري، جمع حوله جيشاً من المستشارين، ونسبة لضعف الخلفية الفكرية والتعليمية له فهو يستمع لمشورتهم دون تمحيص، وكل مستشار يلون نصائحه بلون الصدق والاخلاص، وكل مستشار يعمل في المقام الاول لمصلحته الخاصة، فالأموال تتدفق دون حساب، والشاطر من يستطيع ان يغرف كلما وجد فرصة للغرف. وجماعات المصالح تتشكل، واسلوب (امسك لي واقطع لك) يعمل، ولم لا؟ فالأموال تأتي من مناجم الذهب والمصادر الأخرى، والخير وافر، وغض النظر عن تجاوزات الاتباع ضروري لكسب ولاءهم.
كان حرى بالرجل وقد بلغ رتبة الفريق وهو في سن الشباب ان يعرف ان طريق العسكرية قد بات في حكم المقفول امامه، إذ لم يتبقى له إلا رتبة مشير. وهي رتبة لم ينلها في البلاد إلا ثلاثة اشخاص هم جعفر النميري وعبد الرحمن سوار الذهب وعمر البشير، وحاملها هو القائد العام للجيش، لكن ليس كل قائد عام للجيش يحمل رتبة مشير، ولا يمكن ان ينال هذه الرتبة شخصان في وقت واحد، بمعنى لا يكون في البلد مشيران في الخدمة العسكرية.
كان على حميدتي وقد اصبح الطريق العسكري مقفولاً امامه البحث عن مجد آخر في العمل السياسي، وأن ينشئ حزباً سياسياً يموله بما اكتنزه من مال، ويستثمر فيه ومعه اتباعه ومستشاروه جهده السياسي في الوصول لكرسي الحكم بالطريقة الديمقراطية.
لكن هؤلاء المستشارون رأوا ان الطريق العسكري هو الاقصر، عوضاً عن الطريق المدني الطويل غير مضمون النتائج، وانه كلما ترقى قائدهم ترقوا معه، فحسنوا له مصادمة الدولة؛ وانه يملك من القوة ما يكفى لجعل فرائصها ترتعد امامه، وان الحلفاء في الخارج سيهبون لنصرته، واعتقدوا جازمين ان مصادمة الجيش السوداني لن تختلف كثيراً عن مصادمة حركة مسلحة من حركات دارفور التي تحاربوا معها في السابق، فارتكب مستشاروه جملة من الاخطاء:
1- لم يحددوا بدقة ما هي العقيدة العسكرية التي سيحاربون خصمهم تحت لوائها.
2- الاهداف من الحرب لم تكن واضحة، هل هي لمحاربة (الكيزان) أم من اجل المساواة، ام من اجل استعادة المسار الديمقراطي، ام من اجل الاختلاف في موضوع دمج الدعم السريع. فقد كان حميدتي يرسل رسائل متضاربة في هذا الشأن حسب الجهة التي تأتيه منها الاستشارة.
3- الدعم السريع تغيرت تركيبته القبلية التي كان يعتمد عليها حميدتي، فاصبح يضم عناصر كثيرة من جهات مختلفة، فقد اراد حميدتي نفي صفة العنصرية عنه، هذا من ناحية ، ومن الناحية الأخرى كانت رغبته في التوسع؛ وحشد الجيش الجرار ليكون قوة ضاربة؛ من اسباب جشعه في التوسع العددي، وانتهزت استخبارات الجيش السوداني هذا الجشع فدست الكثير من عناصرها بين صفوفه، وهي التي كانت تتحسب ليوم مثل هذا، وكان ظن حميدتي انه سيكسب الحسنيين، نفي صفة العنصرية عن قواته؛ مع ابقاء عناصره القبلية في الوقت نفسه، ليضمن استمراره في القيام بدور الشيخ القبلي، والقائد الشامل لأبناء السودان بمختلف توجهاتهم، لكن عندما اندلعت الحرب وسلم الكثير من قادة وحدات الدعم السريع وحداتهم للجيش السوداني، اكتشف لاحقاً أنه لا كان شيخاً قبلياً ولا قائدا شاملاً.
4- تحركاته كانت مكشوفة لحد بعيد، إذ استقدم قوات من دارفور، ثم زحف الى مروي، وكلها امور تحرك الحاسة السادسة الامنية لأي مستجد في الاستخبارات العسكرية، وبالطبع فمن المنطقي أن تكون الرسالة قد وصلت للجهات المعنية، والتي قامت من فورها بإعداد الخطط والخطط البديلة، واستعدت لكل طارئ.
5- ظن حميدتي في ظل الاستقطاب السياسي الذي تمر به البلاد انه يمكن ان يحدث اختراقا لصالح جهة معينة هي قحت المركزي، فكانت مغامرة كبرى ان يضع امكاناته العسكرية والمالية في يد هواة في السياسة، يستعجلون الوصول لكراسي الحكم، وليس فيهم رجل رشيد، فاخذوا يمررون اجندتهم من خلاله، مثل مطلب التوقيع على الاتفاق الإطاري، ومطلب فصل ثمانمائة ضابط من القوات المسلحة، وقدموا له بالمقابل نصيبه في الكيكة؛ وهي الا تتبع قوات الدعم السريع للقائد العام للقوات المسلحة، وأن تكون مدة الدمج عشر سنوات، كما قدموا له هدية أخرى اضافية وهي اسقاط ملفات فض الاعتصام، وكل هذه الهدايا كانت مهراً لخطب وده، ولا ندري ان كان حميدتي يعلم ان هذا المهر مهر مؤقت، وأنهم متى ما (عبروا) على كتفه وتمكنوا من السلطة، فسيسقطون المهر المدفوع، ويرفعون الملفات اياها من جديد. كضمان لبقائه في بيت الطاعة القحتية. وأنه قد استعد ذلك بحيث يتغدى بهم قبل ان يتعشوا به.
والآن عندما ازفت الآزفة، ولم تسر الامور كما هو مخطط لها، بدأ هؤلاء في التنصل عنه والابتعاد عن طريقه، وكما يقول المثل: للنصر آباء كثر اما الهزيمة فهي ابنة يتيمة.
6- لم يحسب حميدتي حساب كيف سيتمكن حلفاؤه الاقليميون من نجدته اذا سارت الامور على عكس ما يهوى، فلن يستطيعوا مساعدته بالطيران كما فعلوا مع حفتر في ليبيا، ولا بالأسلحة ، ولا بالدعم السياسي المكشوف، فغاية ما سيقدمونه له هو الدعم الاعلامي، والذي سيقدمونه له مبتوراً وعلى استحياء، إذ لن يخاطروا بتعريض علاقتهم مع السودان كدولة من اجل مليشيا باتت في حكم المهزومة.
7- ارتكب حميدتي خطأ اعلاميا فادحاً حين قام بعرض الجنود المصريين في وضع مهين، وكان ظن مستشاريه انه بهذه الصورة سيكسب التعاطف الشعبي السوداني بوصفه محرراً لمروي، لكن هذا الموقف اشعل الغضب ضده في مصر، وحتى الذين سيتعاطفون معه من المصريين اصبحوا في موقف حرج ولن يظهروا موقفا مضاداً للغضب الشعبي العارم تجاه تلك الصور. وهذا يدل على ان مستشاريه لا يقرأون لوحة العلاقات الخارجية جيداً، ويجهلون اهميتها في مثل هذا النوع من الأزمات.
نختم هذا المقال بالقول أن مرحلة ما بعد الحرب على حميدتي ستكون مختلفة تماما، فهي لن تكون بردا وسلاماً على القوى السياسية المتشاكسة، ولا على الحركات المسلحة التي كانت تراهن على وجود جيوشها في العاصمة كضامن قوى لأطروحاتها، كما ارسلت هذه الحرب رسالة تحذير واضحة لكل المشككين في قدرة الجيش السوداني على حسم الامور، واستعاد بذلك سمعته المميزة التي كاد ان يعصف بها التراخي ومد حبال الصبر. ووضعت من يقولون (معليش ما عندنا جيش) في قائمة الانتظار.
والاهم من ذلك كله أن موضوع هيكلة القوات المسلحة سيكون من الصعب طرقه في مقبل الأيام، مع ازدياد شعبية الجيش في نفوس المواطنين.
الضمان القوي دائما هو ليس تعدد الجيوش ولا وجودها في العاصمة وانما التفاوض والحوار بنية طيبة وسليمة، والضمان الاكبر هو الوصول لانتخابات ديمقراطية نزيهة، لا مجال فيها للشرعية الثورية، ولا وجود فيها لعدة افراد يسرقون ارادة الشعب ويتحدثون باسمه دون تفويض، ويحتمون بالأجانب ويهددون ابناء وطنهم بين الفينة والاخرى بالفصل السابع.
فقد اثبت الجيش انه لا الفصل السابع ولا الفصل السبعين سينال منه، وعلى من يعتمد على فولكر وعلى مسألة الفصول هذه أن (يبلها ويشرب مويتها).

 

nakhla@hotmail.com

 

آراء