يعتبر الاقتصاد السلوكي واحدا من أحدث أفرع علم الاقتصاد، وهو يمزج بين علمي الاقتصاد وعلم النفس. ويُقصد به تحليل آثار الأفراد والجماعات السلوكية وتأثيرها في عملية صنع القرارات الاقتصادية. وبصورة غير مباشرة يُعد الاقتصاد السلوكي توجيها للسلوك البشري نحو السلوك العقلاني الرشيد لإتخاذ القرارات الاقتصادية، حيث تتداخل العوامل النفسية والمعرفية والعاطفية والثقافية والإجتماعية على قرارات الشراء. ومن جانب آخر، تتعدد استخدامات الاقتصاد السلوكي في مختلف أرجاء العالم، وتستخدم تطبيقاته الواسعة في تصميم وبناء سياسات سلوكية تهدف لدعم السياسات الاقتصادية للدولة، والتي يقصد بها تحسين إستجابة الأفراد للسياسات العامة وزيادة مستويات كفاءتها. وأصبح فرع الاقتصاد السلوكي الآن يلقى قبولا واسعا لدى الاقتصاديين، حيث يُعْتَبَرُ هذا الفرع الان من علوم الاقتصاد هو الإطار الذي يمكن من خلاله فهم سلوكيات المتعاملين في عالمنا المعاصر، سواءً أكانوا مستهلكين أو منتجين أو مستثمرين. يمتاز الاقتصاد السلوكي بالقدرة على تفسير عدد من الظواهر الاقتصادية التي لم تكن مفهومه من قبل، ويساعد في ابتكار طرق جديدة للتعامل مع السلوك الاقتصادي وتنظيم السياسة العامة. كذلك يمكن للدولة أن تضع إطاراً لسياستها الاقتصادية على كافة مستويات القطاعات الاقتصادية والبيئية والاجتماعية استنادا إلى استخدام أدوات الاقتصاد السلوكي. وتسهم هذه الأدوات في توجيه سلوك الأفراد نحو الخيارات الأفضل، وتحقيق وفورات مادية وخدمية عبر زيادة الناتج المحلي ومعدلات النمو الاقتصادي، من خلال صياغة برامج تنموية تخاطب سلوك الأفراد بناءً على احتياجاتهم وثقافاتهم والعوامل النفسية التي تؤثر على قيامهم بسلوك معين. يستفاد من أدوات الاقتصاد السلوكي باستخدامها لحل مشكلات اجتماعية عديدة مثل الاستهلاك المرتفع للكهرباء في مناطق معينة أو إهدار المياه أو تخطي إشارات المرور الحمراء وغيرها، حيث يتم في مثل تلك الحالات تحديد النوازع السلوكية التي تحفز على مثل ذلك السلوك المضر، وصياغة سياسات فعالة لحل هذه المشكلات بناءً على الاعتبارات التوعية السلوكية للمواطنين. وكل ذلك من شأنه أن يكون أحد أدوات تحقيق التنمية المستدامة في المجتمعات. وتذكر دوما عدد من تجارب بعض الدول المختلفة في ترشيد سلوك المواطنين، مثل مدينة كيب تاون بجنوب أفريقيا والتي لجأت إلى أسلوب تحسين سلوكيات المواطنين تجاه استهلاك المياه، مما أفضى إلى توفير أربعة لترات من الاستهلاك اليومي في كل منزل، وهو يعتبر أمراً جيداً. هناك أمثلة أخرى مثل رسم ذلك "الوجه الغاضب" الذي يظهر في الفاتورة عند تجاوز حد معين من استهلاك الكهرباء مثلا. ومعروف أن هناك سلوكيات معينة تصاحب الانشطة الاقتصادية للأفراد وليس لها من تفسير منطقي أو عقلاني مثل الانفاق المفرط من البطاقات المصرفية دون ترشيد للصرف ، أو الإقبال الكبير على السلع كلما زادت أسعارها، أو التسعير الخاطئ للأصول مثل العقارات كما هو حادث في السودان الآن. وعادة ما تكون السياسات الاقتصادية محكومة بالقوانين والتشريعات التي تتيح للجهات الرقابية والاشرافية ضبط النشاطات الاقتصادية. غير أن علم الاقتصاد السلوكي أظهر ما يسمى بـ "وحدات التبصر Foresight units" والتي يقصد بها الحث السلوكي أو التنبيه. وتعتبر وحدات التنبيه هذه إحدى مرتكزات التخطيط المجتمعي، وهي الأساس في هندسة وصياغة سياسات اقتصادية وإجتماعية عامة، من خلالها تعمل على فهم السلوك الفردي والتواصل مع الأفراد من أجل فرض تأثير إيجابي لتعزيز أثرها على السياسات العامة. وتعمل وحدات التبصر في تناسق تام بين الحكومة والمجتمع المدني كمصدر لاختبار نتائج السلوك الاقتصادي، والدفع بالمحفزات في كافة القطاعات، مثل قطاع الصحة حيث يدفع بالمحفزات للاستخدام الصحيح للتعامل مع الأدوية وتناول الأكل الصحي. كذلك هنالك التنبيه للانضباط عند المعاملات المالية بدفع المستحقات الضريبية، والمحفزات الأخرى في التعليم والتعامل مع النفايات المنزلية حفاظاً على البيئة وغيرها. وعند دراسة مفاهيم التبصر في المجتمع السوداني نجد أن الدولة والمجتمع المدني لم يوليا هذا الأمر أي درجة من الاهتمام ، شأنه شأن كثير مفاهيم التخطيط المجتمعي الإيجابي. بل على العكس نجد أن ما يسود في المجتمع يصب في مصلحة السلوك الاقتصادي غير الرشيد، وهو ما ورد في الكتاب المعنون " Nudgeالوكزة أو الدفعة" هو من أشهر الكتب في الاقتصاد السلوكي بقلم الكاتبين ريتشارد ثالر Richard Thaler وكاس سانستين Cass Sunstein . وأهم مرتكز في هذا الكتاب هو تحسين القرارات في مجالات مثل الصحة والثروة والسعادة وغيرها من الخيارات الفردية السلوكية مثل التدخين وتناول الوجبات السريعة التي تؤدى للسمنة، وجميعها خيارات يتخذها الناس ولكنها تكون في الغالب غير رشيدة، ويستمرون في التعامل معها لانهم غير قادرين على اتخاذ خيارات أفضل منها، ولم تقدم لهم (نظرية الدفعة أو الوكزة ) التي تعمل على دفع أو توجيه الناس إلى قرارات أكثر حكمة، ومساعدتهم على تحسين تفكيرهم، حيث أن البشر يحتاجون دوما إلى التشجيع والدفع للحصول على ما هو أفضل، سواءً من أجلهم أو من أجل المجتمع ككل، حيث أن محاولة إجبارهم على سلوك معين، عادة ما يقابل بكثير من عدم القبول. كذلك تعتبر البيئة غير الواعية مهيئة لسوق الإعلانات، خاصة للشركات والمسوّقين الذين يتطلعون إلى زيادة في المبيعات من خلال تشجيع تغيرات في سلوك الإنسان تجاه منتجات بعينها وتعمل على الدفع بالمستهلكين نحو الاستخدام المفرط وغير الرشيد للسلع التي يمكن أن تضر بالصحة مثل الوجبات السريعة والمياه الغازية والتدخين ومستحضرات التجميل الضارة وغيرها. وهذه إحدى صور سوء استغلال مبادئ الاقتصاد السلوكي. و كان يمكن للدولة أن تستفيد من وحدات التبصر في تحقيق مكتسبات تساهم في صياغة السياسات العامة مثل التوعية باتجاهات الافراد تجاه مفهوم الادخار من حيث الانفاق الحالي والادخار المستقبلي والتخطيط للتقاعد، والسلوك الحميد نحو الصحة والعادات الاجتماعية، حيث ينظر للمعايير المجتمعية (وهي إحدى نواتج الثقافة السائدة) إن ما يفعله الاخرون يصبح ملزما للأخرين وعليهم فعله، وهو ما قد يحوي كثيراً من العادات التي تقع في مفهوم العادات الضارة. كذلك الاستخدام الرشيد للطاقة والبيئة وكافة الموارد الناضبة الاخرى ، حيث أن التدهور في الوضع البيئي يفرض أعباء ضخمة على الاقتصاد على المدى البعيد، و أن تكاليف معالجة التلوث تزداد كلما زادت مدة إهمال علاج ذلك التلوث. كذلك من نتائج السلوك غير الرشيد والإسراف في الاستغلال المتواصل للموارد الطبيعية ، في حالتي الرفاهية التي تؤدي الى التبذير في الاستخدام ، وحالات الفقر ايضاً التي تلازمها معدلات نمو سكاني عالي مقرون بجهل أو قلة معرفة تؤدي الى الافراط في إستخدام الموارد ،خاصة تلك غير المتجددة . وينسب كل ذلك إلى نقص في الإرادة السياسية لفرض سياسات بيئية جيدة ، وتحويلها إلى ممارسات فعالة بشراكة مجتمعية ذات أبعاد حاسمة و متفاعلة وهي الابعاد الاقتصادية والبشرية والبيئية ، من خلال تحفيز الدوافع السلوكية الرشيدة. هذا فضلاً عن تحسين واجبات المواطنة ، حيث أن التربية على المواطنة تتم عبر المسار التعليمي وعبر ادوات التبصر للدفع بسلوكه الايجابي لاكتساب معارف ومهارات ايجابية للمواطن تجاه نفسه ونحو مجتمعه ووطنه، وإزاء الإنسانية جمعاء. نختم القول بأنه يجب على الدولة إتباع النهج العالمي المتعارف عليه في التخطيط الجيد للمجتمع عبر الاستفادة من الاقتصاد السلوكي في صياغة السياسات العامة فيما يعرف بوحدات الحث السلوكي والتي تسمى كذلك بـ "وحدات التبصر السلوكي". nazikelhashmi@hotmail.com