حول المُثقّف والحربْ
أحمد يعقوب
21 June, 2023
21 June, 2023
طموحٌ وحيد يدّعيه هذا المقال؛ وهو تعرية القبْليات التي توجّه رؤية المُثقف لذاته وللآخر - بما هو آخر والمجتمع وموقعه من الحرب الجارية الان؛ وفضح البداهات المُحتجبة التي توارت خلف اطروحاته وكتاباته في الازمة التي تعيشها بلادنا حالياً. ولا أدّعي بانتماء للنّخبة والصّفوة على ما يشهد به تاريخنا السوداني من سجالات وكتابات لصفوة مقتنعة بأنه يقع على عاتقها تحرير المجتمع والجماهير وبناء الدولة والمشروع الوطني فاذا بها في أول اختبار أخلاقي تسقط وتنحاز الى رواسبها الثقافية والاثنية وموقعها الاجتماعي من حقل الصراع؛ انما انا فردٌ أعمل في ميدان الانتاج الفكري وانخرط في تجربة الكتابة وهي تجربة تشتبك فيها السّلطة مع المعرفة والاستنارة مع التّعمية ، الصّراع والتّحولات، الأمل والاستحقاق على مايقول علي حرب.
وأيّاً ما كان نموذج المثقف وحقل اختصاصه أو مجاله فهو من يهتم بتوجيه الرأي العام وينخرط في السجالات العمومية دفاعاً عن الحقيقة أو الحُرية أو مصلحة الشّعوب وإذ ذاك يصنف كمثقف عضوي ملتحم بالجماهير على ما يرى غرامشي في اطروحاته وتهويماته؛ او مستقبل الدولة ومشاريع البناء الوطني الجامعة باعتباره المثقف الرسولي والنبوي على ما يرى جوليان بندا في طوباويته؛ واذا صحّ ذلك فاذاً هذه مهمته وبل مشروعيته ومسؤليته وهو بهذا المعنى الوجه الآخر للسياسي وربما المشروع البديل عنه.
ولكن؛ أي موقع يمكن أن يتموْضع فيه المثقف في ظل الأزمة الحالية التي تعيشها البلاد؟ أو بالأحرى كيف موْقع المُثقفين أنفسهم في ظل الصّراع الحالي؟ فما بين المثقف الذي احتمى باثنيته وتنازل عن مقولاته ووجّه معرفته لخدمة القبيلة وذاك الحائر بسبب تشوش ذهنه والمختبئ خلف برجه العاجي وانتهازيته؛ والاخر الذي اكتفى بالحياد وليس الصمت ، وهو حياد يضمر فيه الاصطفاف مع أحد طرفي الصراع ولكنه خائفٌ من الاعلان عن ذلك؛ وما بين هؤلاء وأؤلئك مشتركاتٌ تتمثّل في غياب الفكرة من أساسها والهشاشة المعرفية وعدم معرفة المكان الصحيح الذي يجب أن يتموضع فيه المثقف في وقت الازمات والشدّة وحين يوضع قدر الشعوب على المحك.
ومثلما فضحت حراكات ديسمبر من العام 2018 سوْءات مجتمعنا السّوداني على كافة الأصعدة فقد فضحت مثقّفنا وعرّته من ورق التوت المعرفي، أمّا الحرب الحالية فقد أتاحت لنا أن نعرف من هو المثقف بمقولاته وتمثيلاته المُنحاز لشعبه وللحقيقة أينما وجدت. وذاك الذي هرب للقبيلة والاثنية ليجنّب نفسه طرح الاسئلة والاجابة عليها ؛ المُثقف الذي تتنازعه سلطتين سلطة الجيش بكل ارث العنف وخلله وسوءاته وكياناته الاجتماعية المُسيطرة على مراكز قراره منذ مائة عام؛ وسلطة الدعم السريع المولود من رحم الجيش ومن كيانات اجتماعية محددة استخدمت في ما مضى لتركيع واخضاع باقي الكيانات، اذ أن فشل ما يسمى بالدولة ونخبها هو ما انتج كل المليشيا .
تميّزُ تاريخنا السّوداني بالعديد من التناقضات الفجّة؛ ففي مشهدنا السّياسي الذي أضحى مختبراً لتجريب كل الايدلوجيات التي أثبتت فشلها المريع من اليمين الى اليسار(...)؛ كانت القبيلة هي (الايدلوجيا) الوحيدة المستقرة التي لا تتغيّر أبداً والتي يلجأ اليها كل المهزومين من النخب السياسة والمثقفين باعتبارها البيت والحاضنة الرئيسية التي تؤمّن الفرد من غوائل الآخر؛ وسرعان ما يتم التخلي عن الايدلوجيا والفكر لصالح الكيانات الاثنية. ولا يجدي الهروب من الحقيقة في حال اردنا تشخيص وقائع بلادنا واحداثها المتسارعة؛ فقد صُمّمت هذه البلاد بشكل عنصري ومارست كل الحكومات المتعاقبة سياسات الاقصاء والاستلاب وقامت مشروعية الحكم على العنف. فالدولة هي دولة غلبة ومن يحكمها يتعاطى معها باعتبارها غنيمة. فالذين يتحدثون عن الحفاظ على الدولة ؛يدركون تماماً أنه لاتوجد دولة بل توجد كيانات اجتماعية محددة تسيطر على الجغرافيا والموارد.
تجلّت أزمة المثقف في هذه الحرب بصورة كبيرة؛فقد اصطفّت النخب المُثقفة كلاً حسب موقعه القبلي والاجتماعي من الصراع. وثمة محايدون ينتظرون آخر فرس في سباق الفوز بالسلطة ؛ فقد رأينا كتابات لمثقفين يقدمون نقداً صارماً للدولة وسلطتها وايدلوجيتها وعنفها وما ان بدأت الحرب حتى كفروا بما قالوا لأن امتيازهم أصبح مُهدداً ولأن موقعهم الاجتماعي سيتضرر منها. وموقفهم من الصراع الحالي هو موقف كياناتهم الاجتماعية وامتيازاتها لا موقف وقائع شعوبنا والحدث الذي تمر بها ومخاضها في أن تولد من جديد بوجدان مشترك لتبني دولة محترمة؛ فالصراع الحالي هو صراع سلطة لأن مفهوم الدولة في ذهنية من يتصارعون يرونها غنيمة ومن يفوز بها سيحكم بالمطلق؛ أما الاجندة الوطنية فهي غائبة تماماً ؛ وأما وقف الحرب في القريب العاجل فهو أمرٌ يتعذر حدوثه لاتساع الرقعة وتداخلات المصالح الاقليمية والدولية في البلاد.
رأينا المُثقف القبلي الذي يصارع من أجل قبيلته وامتيازاتها ذاك المثقف الذي وجّه كل كتاباته للكيان الاجتماعي الذي ينتمي اليه مستهيناً بالروح البشرية متلذذاً بالدماء التي تسيل هنا وهناك. فريق من المثقفين يرى أن الجيش بخلله وتشوهاته يمثل الدولة نفس الجيش الذي قاد حروب على مناطق ( جنوب السودان ؛ دارفور ؛ النيل الازرق؛ جبال النوبة ) نفس الجيش الذي وأد كل السبل لقيام دولة مدنية وديمقراطية أما الفريق الاخر فانه يرى أن الدعم السريع يمكن أن يجلب الديمقراطية والدولة المدنية...الخ من الترهات وقد بشّرنا هذا المثقف بنهاية وزوال دولة 1956 التي لم توجد أصلاً فدولة ما بعد جلاء المستعمر لم تظهر كدولة بهيكلها وبنيتها ومؤسساتها وأفهوماتها وخطابها بل ظهرت كأشكال بيروقراطية ومؤسسات قبلية تتنازع وتتصارع ما بينها منذا العام 1955 أي قبيل ولادتها المشوهة وفي الجهة الاخرى المعاكسة يطالب المثقف بالحفاظ على شئ لم يوجد أبداً ؛ وهذه السردية التي يتنباها مثقف القبيلة تظهر لنا الكم الهائل من التشوهات المعرفية والخلل العقلي الذي أصاب المثقف. . ولا أبالغ حين نقول أن تأثير المثقف الاثني في بلادنا أضحى أكبر من أي تأثير آخر في هذه الحرب سواء كانت أحزاب سياسية أو إئتلاف سياسي أو منظمات المجتمع المدني أو النّقابات فمثقفنا يرى الدولة بمنظور مقولاته وتمثلاته لا بمنظور الواقع والحدث ويريد تطبيق مقولاته وخطاباته على وقائع واحداث لا يفهم كيف بدأت متناسياً كرنولوجيتها قافزاً نحو النهاية.
تظهر الحرب الحالية وبشكلٍ جلي إن القبائل لا تزال تتمتّع بسيادةٍ ما على نفسها، وعلى مواردها، وتواصل حكم نفسها بنفسها في كثير من المجالات بحسب قوانينها أو تقاليدها الخاصة وسعيها لابتلاع كل الجغرافيا السياسية التي تسمى السودان، وهذا يفرض بعض التساؤلات؛ منها كيف يجري تقاسم السيادة بين القبيلة والدولة التي يقول بها البعض من دون إلغاء هذا أو ذاك ؟ حيث أضحت القبيلة ؛عقبة أو تحدٍ لتشكّل وقيام الدولة الوطنية في بلادنا في ظل سيطرة النّظم القبلية والصراعات المتكررة في الاقاليم والأطراف.
وجه أخر للمثقف المختبئ أظهرته هذه الحرب وهو المغاير للمثقف الاثني المقتنع فعلاً بصحة مواقفه وأفكاره؛ وهو نوعٌ من مثقفٍ كاذبٍ، تبريريٍّ ومراوغ، يعي في السر حقيقته وحقيقة موقفه الانتهازي، ويستخدم صفة الثقافة استراتيجيةً لإخفاء هذه الحقيقة. يتوارى المثقف المختبئ خلف ثقافته، ليُخفي تعاليه ونخبويّته وعقدة نقصه، وجُبنه أمام ما يحدث، فهو، على سبيل المثال لا التخصيص، مثقف السلطة الذي لا يريد أن يعترف بذلك؛ على ما كتب ويرى عزام أمين في مقاله المنشور بالعربي الجديد.
ماهو الموقف من الحرب ؟ يقول البير كامو أنه : ليس بوسعنا إنكار الحرب، بل ينبغي أن نموت فيها أو نحيا بها. وإذا كان الامر كذلك فلابد للمثقف من اتخاذ موقف من الحرب العبثية التي تدور رحاها اليوم، سواء بالكلمة والجهر بالحقيقة متى تجلّت واضحة بلا مساحيق فلسنا في حوجة للمزيد من الضحايا أو النتائج الكارثية للحرب لكي نتخذ قبل كل شيء موقفا مناهضا لها في جميع الاتجاهات والمسارات والمآلات. ذلك أن الحرب في مطلق الأحوال هي الحرب بكل مخلفاتها وفظاعتها وشرورها؛ إذ هي مرفوضة أخلاقيا في أي ظروف جرت، وبأي مسوغات اندلعت، وبأي دوافع مشروعة من الناحية السياسية أو الأمنية انطلقت ووقعت ؛ لذا فإن المسؤولية الأخلاقية تفرض على المثقف الانتصار للعقل في صف الحق والوقوف ضد عبثية التاريخ وصناعة المآسي كما يقول عبدالرحمن السخيري في مقاله عن المثقفين والحرب.
وعلى خلاف كلاب الحراسة والكهنة من المثقفين القبليين فالمثقف الاخلاقي والنّزيه، لا يُقايض موقعه في الصراع بالتوقيع على شيك بياض للعسكريين أو الطغاة( جيش ودعم سريع) في التصرف بمصير ملايين البشر ودفعهم إلى الجحيم غير مبال بالتضحيات الجسام التي تقع على كاهل كل أطراف الحرب؛ كما تقع ويلاتها على من هم خارج دائرة المواجهة العسكرية ومعاركها سواء اقتصادياً او اجتماعياً.
وليس المثقف خارج التاريخ أو النمط الاجتماعي فهو كغيره من البشر لديه نزعاته واطماعه وفكره ويرتبط بمصالح وحسابات إيديولوجية أو ظرفية أو ما شابه ذلك، وتتوزّعه مشاعر الكراهية إزاء هذا أو ذاك من أطراف الحرب والصراع، لكنه في الوقت نفسه ينفرد بموقع أو صفة تسمح له باستعمال عقله بصورة نقدية وتشريحية للفصل بين الحقائق والأوهام، والتمييز بين المرئي من الحقيقة وبين الأكاذيب المفبركة، وليس الاحتماء بالاثنية والعرق والباس دفاعه عن كيانه الاجتماعي لبوس الدولة وأنه وحده من يمتلك الحقيقة المطلقة.
يتبع....
للمزيد يرجى الاطلاع على :
1- أوهام النخبة أو نقد المثقف – علي حرب – المركز الثقافي العربي الطبعة الثالثة 2004
2- المثقف المشتبك والمثقف المختبئ – عزام الامين –العربي الجديد 2023
3- المثقفون والحرب – عبدالرحمن السخيري – الحوار المتمدن 2022
ahmedyagoub8@gmail.com
////////////////////////
وأيّاً ما كان نموذج المثقف وحقل اختصاصه أو مجاله فهو من يهتم بتوجيه الرأي العام وينخرط في السجالات العمومية دفاعاً عن الحقيقة أو الحُرية أو مصلحة الشّعوب وإذ ذاك يصنف كمثقف عضوي ملتحم بالجماهير على ما يرى غرامشي في اطروحاته وتهويماته؛ او مستقبل الدولة ومشاريع البناء الوطني الجامعة باعتباره المثقف الرسولي والنبوي على ما يرى جوليان بندا في طوباويته؛ واذا صحّ ذلك فاذاً هذه مهمته وبل مشروعيته ومسؤليته وهو بهذا المعنى الوجه الآخر للسياسي وربما المشروع البديل عنه.
ولكن؛ أي موقع يمكن أن يتموْضع فيه المثقف في ظل الأزمة الحالية التي تعيشها البلاد؟ أو بالأحرى كيف موْقع المُثقفين أنفسهم في ظل الصّراع الحالي؟ فما بين المثقف الذي احتمى باثنيته وتنازل عن مقولاته ووجّه معرفته لخدمة القبيلة وذاك الحائر بسبب تشوش ذهنه والمختبئ خلف برجه العاجي وانتهازيته؛ والاخر الذي اكتفى بالحياد وليس الصمت ، وهو حياد يضمر فيه الاصطفاف مع أحد طرفي الصراع ولكنه خائفٌ من الاعلان عن ذلك؛ وما بين هؤلاء وأؤلئك مشتركاتٌ تتمثّل في غياب الفكرة من أساسها والهشاشة المعرفية وعدم معرفة المكان الصحيح الذي يجب أن يتموضع فيه المثقف في وقت الازمات والشدّة وحين يوضع قدر الشعوب على المحك.
ومثلما فضحت حراكات ديسمبر من العام 2018 سوْءات مجتمعنا السّوداني على كافة الأصعدة فقد فضحت مثقّفنا وعرّته من ورق التوت المعرفي، أمّا الحرب الحالية فقد أتاحت لنا أن نعرف من هو المثقف بمقولاته وتمثيلاته المُنحاز لشعبه وللحقيقة أينما وجدت. وذاك الذي هرب للقبيلة والاثنية ليجنّب نفسه طرح الاسئلة والاجابة عليها ؛ المُثقف الذي تتنازعه سلطتين سلطة الجيش بكل ارث العنف وخلله وسوءاته وكياناته الاجتماعية المُسيطرة على مراكز قراره منذ مائة عام؛ وسلطة الدعم السريع المولود من رحم الجيش ومن كيانات اجتماعية محددة استخدمت في ما مضى لتركيع واخضاع باقي الكيانات، اذ أن فشل ما يسمى بالدولة ونخبها هو ما انتج كل المليشيا .
تميّزُ تاريخنا السّوداني بالعديد من التناقضات الفجّة؛ ففي مشهدنا السّياسي الذي أضحى مختبراً لتجريب كل الايدلوجيات التي أثبتت فشلها المريع من اليمين الى اليسار(...)؛ كانت القبيلة هي (الايدلوجيا) الوحيدة المستقرة التي لا تتغيّر أبداً والتي يلجأ اليها كل المهزومين من النخب السياسة والمثقفين باعتبارها البيت والحاضنة الرئيسية التي تؤمّن الفرد من غوائل الآخر؛ وسرعان ما يتم التخلي عن الايدلوجيا والفكر لصالح الكيانات الاثنية. ولا يجدي الهروب من الحقيقة في حال اردنا تشخيص وقائع بلادنا واحداثها المتسارعة؛ فقد صُمّمت هذه البلاد بشكل عنصري ومارست كل الحكومات المتعاقبة سياسات الاقصاء والاستلاب وقامت مشروعية الحكم على العنف. فالدولة هي دولة غلبة ومن يحكمها يتعاطى معها باعتبارها غنيمة. فالذين يتحدثون عن الحفاظ على الدولة ؛يدركون تماماً أنه لاتوجد دولة بل توجد كيانات اجتماعية محددة تسيطر على الجغرافيا والموارد.
تجلّت أزمة المثقف في هذه الحرب بصورة كبيرة؛فقد اصطفّت النخب المُثقفة كلاً حسب موقعه القبلي والاجتماعي من الصراع. وثمة محايدون ينتظرون آخر فرس في سباق الفوز بالسلطة ؛ فقد رأينا كتابات لمثقفين يقدمون نقداً صارماً للدولة وسلطتها وايدلوجيتها وعنفها وما ان بدأت الحرب حتى كفروا بما قالوا لأن امتيازهم أصبح مُهدداً ولأن موقعهم الاجتماعي سيتضرر منها. وموقفهم من الصراع الحالي هو موقف كياناتهم الاجتماعية وامتيازاتها لا موقف وقائع شعوبنا والحدث الذي تمر بها ومخاضها في أن تولد من جديد بوجدان مشترك لتبني دولة محترمة؛ فالصراع الحالي هو صراع سلطة لأن مفهوم الدولة في ذهنية من يتصارعون يرونها غنيمة ومن يفوز بها سيحكم بالمطلق؛ أما الاجندة الوطنية فهي غائبة تماماً ؛ وأما وقف الحرب في القريب العاجل فهو أمرٌ يتعذر حدوثه لاتساع الرقعة وتداخلات المصالح الاقليمية والدولية في البلاد.
رأينا المُثقف القبلي الذي يصارع من أجل قبيلته وامتيازاتها ذاك المثقف الذي وجّه كل كتاباته للكيان الاجتماعي الذي ينتمي اليه مستهيناً بالروح البشرية متلذذاً بالدماء التي تسيل هنا وهناك. فريق من المثقفين يرى أن الجيش بخلله وتشوهاته يمثل الدولة نفس الجيش الذي قاد حروب على مناطق ( جنوب السودان ؛ دارفور ؛ النيل الازرق؛ جبال النوبة ) نفس الجيش الذي وأد كل السبل لقيام دولة مدنية وديمقراطية أما الفريق الاخر فانه يرى أن الدعم السريع يمكن أن يجلب الديمقراطية والدولة المدنية...الخ من الترهات وقد بشّرنا هذا المثقف بنهاية وزوال دولة 1956 التي لم توجد أصلاً فدولة ما بعد جلاء المستعمر لم تظهر كدولة بهيكلها وبنيتها ومؤسساتها وأفهوماتها وخطابها بل ظهرت كأشكال بيروقراطية ومؤسسات قبلية تتنازع وتتصارع ما بينها منذا العام 1955 أي قبيل ولادتها المشوهة وفي الجهة الاخرى المعاكسة يطالب المثقف بالحفاظ على شئ لم يوجد أبداً ؛ وهذه السردية التي يتنباها مثقف القبيلة تظهر لنا الكم الهائل من التشوهات المعرفية والخلل العقلي الذي أصاب المثقف. . ولا أبالغ حين نقول أن تأثير المثقف الاثني في بلادنا أضحى أكبر من أي تأثير آخر في هذه الحرب سواء كانت أحزاب سياسية أو إئتلاف سياسي أو منظمات المجتمع المدني أو النّقابات فمثقفنا يرى الدولة بمنظور مقولاته وتمثلاته لا بمنظور الواقع والحدث ويريد تطبيق مقولاته وخطاباته على وقائع واحداث لا يفهم كيف بدأت متناسياً كرنولوجيتها قافزاً نحو النهاية.
تظهر الحرب الحالية وبشكلٍ جلي إن القبائل لا تزال تتمتّع بسيادةٍ ما على نفسها، وعلى مواردها، وتواصل حكم نفسها بنفسها في كثير من المجالات بحسب قوانينها أو تقاليدها الخاصة وسعيها لابتلاع كل الجغرافيا السياسية التي تسمى السودان، وهذا يفرض بعض التساؤلات؛ منها كيف يجري تقاسم السيادة بين القبيلة والدولة التي يقول بها البعض من دون إلغاء هذا أو ذاك ؟ حيث أضحت القبيلة ؛عقبة أو تحدٍ لتشكّل وقيام الدولة الوطنية في بلادنا في ظل سيطرة النّظم القبلية والصراعات المتكررة في الاقاليم والأطراف.
وجه أخر للمثقف المختبئ أظهرته هذه الحرب وهو المغاير للمثقف الاثني المقتنع فعلاً بصحة مواقفه وأفكاره؛ وهو نوعٌ من مثقفٍ كاذبٍ، تبريريٍّ ومراوغ، يعي في السر حقيقته وحقيقة موقفه الانتهازي، ويستخدم صفة الثقافة استراتيجيةً لإخفاء هذه الحقيقة. يتوارى المثقف المختبئ خلف ثقافته، ليُخفي تعاليه ونخبويّته وعقدة نقصه، وجُبنه أمام ما يحدث، فهو، على سبيل المثال لا التخصيص، مثقف السلطة الذي لا يريد أن يعترف بذلك؛ على ما كتب ويرى عزام أمين في مقاله المنشور بالعربي الجديد.
ماهو الموقف من الحرب ؟ يقول البير كامو أنه : ليس بوسعنا إنكار الحرب، بل ينبغي أن نموت فيها أو نحيا بها. وإذا كان الامر كذلك فلابد للمثقف من اتخاذ موقف من الحرب العبثية التي تدور رحاها اليوم، سواء بالكلمة والجهر بالحقيقة متى تجلّت واضحة بلا مساحيق فلسنا في حوجة للمزيد من الضحايا أو النتائج الكارثية للحرب لكي نتخذ قبل كل شيء موقفا مناهضا لها في جميع الاتجاهات والمسارات والمآلات. ذلك أن الحرب في مطلق الأحوال هي الحرب بكل مخلفاتها وفظاعتها وشرورها؛ إذ هي مرفوضة أخلاقيا في أي ظروف جرت، وبأي مسوغات اندلعت، وبأي دوافع مشروعة من الناحية السياسية أو الأمنية انطلقت ووقعت ؛ لذا فإن المسؤولية الأخلاقية تفرض على المثقف الانتصار للعقل في صف الحق والوقوف ضد عبثية التاريخ وصناعة المآسي كما يقول عبدالرحمن السخيري في مقاله عن المثقفين والحرب.
وعلى خلاف كلاب الحراسة والكهنة من المثقفين القبليين فالمثقف الاخلاقي والنّزيه، لا يُقايض موقعه في الصراع بالتوقيع على شيك بياض للعسكريين أو الطغاة( جيش ودعم سريع) في التصرف بمصير ملايين البشر ودفعهم إلى الجحيم غير مبال بالتضحيات الجسام التي تقع على كاهل كل أطراف الحرب؛ كما تقع ويلاتها على من هم خارج دائرة المواجهة العسكرية ومعاركها سواء اقتصادياً او اجتماعياً.
وليس المثقف خارج التاريخ أو النمط الاجتماعي فهو كغيره من البشر لديه نزعاته واطماعه وفكره ويرتبط بمصالح وحسابات إيديولوجية أو ظرفية أو ما شابه ذلك، وتتوزّعه مشاعر الكراهية إزاء هذا أو ذاك من أطراف الحرب والصراع، لكنه في الوقت نفسه ينفرد بموقع أو صفة تسمح له باستعمال عقله بصورة نقدية وتشريحية للفصل بين الحقائق والأوهام، والتمييز بين المرئي من الحقيقة وبين الأكاذيب المفبركة، وليس الاحتماء بالاثنية والعرق والباس دفاعه عن كيانه الاجتماعي لبوس الدولة وأنه وحده من يمتلك الحقيقة المطلقة.
يتبع....
للمزيد يرجى الاطلاع على :
1- أوهام النخبة أو نقد المثقف – علي حرب – المركز الثقافي العربي الطبعة الثالثة 2004
2- المثقف المشتبك والمثقف المختبئ – عزام الامين –العربي الجديد 2023
3- المثقفون والحرب – عبدالرحمن السخيري – الحوار المتمدن 2022
ahmedyagoub8@gmail.com
////////////////////////