خفايا وخبايا مفاوضات اتفاقية مياه النيل لعام 1959 (5 – 12)
1
أوضحنا في المقالات الأربعة السابقة من هذه السلسلة من المقالات مسار المفاوضات بين مصر والسودان حول مياه النيل. كما ذكرنا فقد تولّى السيد ميرغني حمزة مسؤولية الري من يناير عام 1954 حتى ديسمبر عام 1954، وجرت الجولتان الأولى والثانية من المفاوضات تحت رئاسته في شهري سبتمبر ونوفمبر عام 1954. وقد جرت الجولتان الثالثة والرابعة من المفاوضات في شهري أبريل ويونيو عام 1955 بعد شهور قلائل من تولّي السيد خضر حمد مهام وزارة الري خلفاً للسيد ميرغني حمزة. وكما شرحنا فقد انتهت هذه الجولات الأربعة من المفاوضات بالفشل.
أوضحنا أيضاً الموقف التفاوضي للطرفين والذي وصلا إليه في يونيو عام 1955 إثر انتهاء الجولة الرابعة من المفاوضات. فمصر كانت مصرةً على أن يتحمّل السودان نصف فاقد التبخر في بحيرة السد العالي بسبب أن السد العالي سيكون لمصلحة مصر والسودان، وأن يكون توزيع فائض المياه بناءاً على معادلة السكان بعد خصم الحقوق المكتسبة للبلدين وفاقد التبخر في بحيرة السد العالي، وأن يتم إنشاء خزان الروصيرص بعد اكتمال السد العالي.
رفض السودان هذه المقترحات الثلاثة وتلخّص موقفه (بعد قبوله لقيام السد العالي) في أن لا علاقة لنصيب السودان ببناء السد العالي أو التبخر فيه لأن التبخر في السد العالي أمرٌ يخص مصر وحدها. كما أصرّ السودان على قسمة المياه المتاحة بعد خصم الحقوق المكتسبة مناصفةً بين الدولتين كما اقترح السيد كوري (عضو لجنة مشاريع النيل لعام 1920) مما سيجعل نصيب السودان في حدود 20 مليار متر مكعّب. ورفع السودان سقف مطالبه في مجال التعويضات. فقد طالب السودان بالتعويض الكامل لأهالي حلفا الذين ستغمر مياه السد العالي أراضيهم وبدفع تكلفة توطينهم في الموقع الذي سيُرحّلون إليه، وكذلك بالتعويض عن الآثار والمعادن التي سيتم إغراقها بواسطة السد العالي، وبمدّ السودان ببعض الكهرباء التي سيتمّ توليدها من السد العالي.
2
تشكّلت الحكومة القومية كما ذكرنا في المقال السابق في فبراير عام 1956، واستمر السيد اسماعيل الأزهري في رئاسة الوزارة التي شارك فيها حزب الأمة، ودخلها السيد ميرغني حمزة ممثلاً لحزب الاستقلال الجمهوري الذي كان قد أسسه بعد عزله من الوزارة في ديسمبر عام 1954، واستقالته (أو إقالته؟) من الحزب الوطني الاتحادي في ذلك الشهر. يلاحظ أن السيد ميرغني حمزة قد عُيّن وزيراً للزراعة والري والطاقة الكهربائية في الحكومة القومية، وكان قد شغل حقائب الزراعة والري والمعارف في الحكومة الأولى, بينما شغل خلفه السيد خضر حمد حقيبة الري التي كانت وزارةً بنفسها، ولم تشمل معها حقيبة الزراعة.
زار السيد اسماعيل الأزهري رئيس وزراء الحكومة القومية الجديدة القاهرة في أبريل عام 1956، وكانت تلك أول زيارة يقوم بها رئيس الوزراء لمصر بعد استقلال السودان. وأكّد أثناء الزيارة موقف السودان بأن مسألة التبخر في بحيرة السد العالي شأنٌ مصري. وأشارت بعض التقارير إلي أن السيد رئيس الوزراء تساءل عن الجدوى الاقتصادية للسد العالي لمصر إذا كان السودان سيتلقّى نصيبه وفقاً لمقترح السيد كوري (عضو لجنة مشاريع النيل لعام 1920)، حيث لن يتبقّى الكثير من المياه لمصر بعد التبخر في البحيرة. غير أن الزيارة لم تُحرّك مياه المفاوضات الساكنة. في هذا الأثناء كان هناك نقاشٌ يدور في الخرطوم حول إمكانية تحمّل السودان جزءاً من التبخر في بحيرة السد العالي مقابل مساعدة مصر للسودان في تمويل خزان الروصيرص وإعطاء مصر قرضٍ مائي من نصيب السودان من مياه النيل.
3
لكن الخلافات داخل الحكومة القومية لم تساعدها في التركيز على مفاوضات مياه النيل أوعلى أيٍ من المشاكل الأخرى التي كانت تواجه السودان. بعد حوالي الأسبوعين من تشكيل الحكومة القومية حدثت مأساة عنبر جودة والتي راح ضحيتها حوالي مائتي من المزارعين الذين ألقى بهم البوليس السوداني في عنبرٍ ضيقٍ محكم الإغلاق بلا ماء أو هواء، ولقوا حتفهم نتيجة الاختناق والعطش. اتهمت أطرافٌ في الحكومة أطرافاً أخرى فيها بالمسؤولية عن تلك المأساة والتي خلّفت جرحاً عميقاً في الضمير السوداني، خصوصاً مع الاستقلال الحديث من الاستعمار. ولا يبدو أن هناك سابقةً في تاريخ البشرية جمعاء لموت هذا العدد الكبير من الناس بسبب العطش والاختناق على أيدي حكومتهم.
انشغلت الحكومة بعد ذلك بخلافاتها الداخلية، وتسارعت خطى الخلافات وأدّت بعد حوالي أربعة أشهر من تكوين الحكومة القومية إلى سقوطها. فقد أنشقت مجموعة من نواب الحزب الوطني الاتحادي وشكّلوا حزب الشعب الديمقراطي في يونيو عام 1956 تحت رعاية السيد علي الميرغني. صوّت نواب هذا الحزب مع نواب حزب الأمة ضد الحكومة القومية، وسقطت الحكومة واستقال رئيس الوزراء السيد اسماعيل الأزهري في 4 يوليو عام 1956، بعد عامين ونصف في رئاسة ثلاث حكومات متعاقبة.
تشكّلت إثر ذلك حكومة ائتلافية برئاسة السيد عبد الله خليل بين حزب الأمة وحزب الشعب الديمقراطي (وهي ما عُرِفت بحكومة السيدين – السيد عبد الرحمن المهدي راعي حزب الأمة، والسيد علي الميرغني راعي حزب الشعب الديمقراطي). وقد واصل السيد ميرغني حمزة (والذي أصبح من قيادات حزب الشعب الديمقراطي بعد أن حلّ حزب الاستقلال الجمهوري الذي كان قد أنشأه وترأسه) تولِّي وزارة الزراعة والري والطاقة الكهربائية، وأصبح أيضا نائباً لرئيس الوزراء (وهوما كان يطالب به ويطمح إليه في الحكومة الوطنية الأولى). وانتقل الحزب الوطني الاتحادي إلى المعارضة رغم أن عدداً من الذين كانوا وزراء في حكوماته (يناير 1954 حتى يوليو 1956) عادوا أو واصلوا كوزراء في الحكومة الائتلافية تحت مظلة حزب الشعب الديمقراطي.
4
نال حزب الأمة قرابة نصف حقائب الوزارة التي شكّلها السيد عبد الله خليل، بما في ذلك وزارتي الدفاع المالية، وكذلك وزارة الخارجية التي أُسندت إلى السيد محمد أحمد محجوب (والذي انضم إلى حزب الأمة بذاك الوقت بعد أن كان مستقلاً)، ووزارة العدل التي أًسندت إلى السيد زيادة أرباب. لا بدّ أن هذا التغيير في كراسي الحكم في السودان قد أزعج مصر كثيراً. فالعلاقة لم تكن طيّبةً بين مصر وحزب الأمة الذي ظلّ يدعو ويعمل لاستقلال السودان وضد فكرة وحدة وادي النيل. وليست حوادث مارس عام 1954 التي قادها حزب الأمة والتي أدّت إلى مقتل العشرات وتأجيل افتتاح البرلمان وإحراج الوفد المصري الزائر للسودان بقيادة السيد محمد نجيب، ببعيدةٍ عن الأذهان. ولكن قد تكون مشاركة حزب الشعب الديمقراطي في الحكومة، وأيلولة منصب نائب رئيس الوزراء للسيد ميرغني حمزة واستمراره في وزارة الري قلّلت بعض الشئ من تخوفات مصر تجاه الحكومة الجديدة.
5
غير أن الأحداث في مصر نفسها تلاحقت بسرعة بعد أيامٍ من تولي السيد عبدالله خليل رئاسة الوزارة في السودان. فالعلاقة بين مصر والمعسكر الشرقي قد بدأت في النمو ذاك العام كنتاجٍ طبيعيٍ للتدهور في علاقات مصر مع الغرب .ففي العاشر من شهر يوليو عام 1956 أعلنت بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية أنهما لن تساهما في تمويل السد العالي رداً على صفقة الأسلحة بين مصر وتشيكوسلوفاكيا والتي عقدتها مصر بعد الهجمات الاسرائيلية المتكررة على الحدود مع غزّة. رد الرئيس عبد الناصر بتأميم قناة السويس في 26 يوليو عام 1956، وتوالت الأحداث بعد ذلك بالعدوان الثلاثي (بريطانيا وفرنسا واسرائيل) على مصر في 29 أكتوبر عام 1956 رداً على تأميم القناة. وانشغلت مصر بعد ذلك بتداعيات الحرب وانسحاب القوات الغازية والذي اكتمل في ديسمبر عام 1956.
بدأت مصر بعد ذلك في البحث عن ممولٍ للسد العالي بعد أن أعلنت بريطانيا والولايات المتحدة الآمريكية ثم البنك الدولي أنهم لن يساهموا في تمويل السد العالي. وقدعلّل البنك الدولي قراره ذلك بعدم التوصل لاتفاقٍ حول مياه النيل مع السودان.
وانشغل السودان بمشاكله الداخلية والخلافات الحادة داخل الحكومة الائتلافية نفسها، وكذلك مع المعارضة. وهكذا انقضى عام 1956، ثم النصف الأول من عام 1957، وليس في لائحة أسبقيات مصر والسودان مسألة التفاوض حول مياه النيل.
6
بعثت مصر برسالة إلى السودان في أغسطس عام 1957 مفادها أن مصر تود مواصلة المفاوضات حول مياه النيل. كانت تلك أول مرةٍ تأخذ فيها مصر زمام المبادرة في مسألة التفاوض. وقد كان السبب الرئيسي هو أن مصر كانت قد نجحت في تدبير التمويل للسد العالي من الاتحاد السوفيتي ولم يتبق لها غير الاتفاق مع السودان.
في ذلك الوقت كانت اثيوبيا ويوغندا قد بعثتا برسائل لمصر والسودان تطالبان بإشراكهما في المفاوضات. كانت هناك بعض الآراء في السودان التي نادت بتأجيل المفاوضات حتى تتكوّن الحكومة الجديدة بعد الانتخابات التي كان مقرراً قيامها في فبراير عام 1958، وحتى يتّضح للحكومة مصادر تمويل خزان الروصيرص بعد أن أوضح البنك الدولي للسودان أن البنك لن يستطع تمويل الخزان بدون اتفاقٍ مع مصر حول مياه النيل، وهو نفس ما ذكره البنك الدولي لمصر حول تمويل السد العالي.
بعد مزيدٍ من الاتصالات مع مصر غادر السيد ميرغني حمزة الخرطوم إلى القاهرة في الإسبوع الأول من ديسمبر عام 1957. وبعد مشاوراتٍ استمرت لبعض الوقت بدأت الجولة الخامسة من المفاوضات في الاسبوع الأخير من ديسمبر واستمرت حتى 6 يناير عام 1958. وقد قاد الوفد المصري السيد زكريا محي الدين وزير الداخلية، بعد أن غادر السيد صلاح سالم المسرح السياسي بعد استقلال السودان وتحمّله المسؤولية لذلك (ليصبح كاتباً صحافياً بجريدة الجمهورية)، وقاد السيد ميرغني حمزة الوفد السوداني.
واصلت مصر خلال هذه الجولة الخامسة من المفاوضات إصرارها على أن السد العالي لمصلحة مصر والسودان وعليه لابدّ أن يُخصم فاقد التبخر قبل توزيع ما تبقّى من المياه بين مصر والسودان وهذا ما رفضه السودان. من ناحيةٍ أخرى أصرّ السودان على توزيع المياه قبل إنشاء السد العالي وبناءاً على مقترح السيد كوري (عضو لجنة مشاريع النيل لعام 1920) الذي يُعطي السودان نصف ما تبقّى من المياه بعد خصم الحقوق المكتسبة للبلدين، وهذا ما رفضته مصر. أصرت مصر على ألا يُبْنى خزان الروصيرص حتى الفراغ من بناء السد العالي لأن هذا سوف يسبب ضرراُ لمصر، بينما رفض السودان الربط بين بناء السدين وأوضح أن دراساته الفنية توضّح أن خزان الروصيرص لن ينتج عنه أي ضررٍ لمصر لأن ملء بحيرة الخزان سيتم في فترة الفيضان كما حدث عند ملء بحيرة خزان سنار.
بعد قرابة الاسبوعين من التفاوض فشل الطرفان في حسم أيٍ من هذه المسائل التي ظلّت عالقةً منذ انهيار الجولة الرابعة من المفاوضات التي جرت في يونيوعام 1955، أي قبل أكثر من عامين ونصف، والتي قاد وفد السودان لها السيد خضر حمد كما ناقشنا من قبل. وهكذا وجد الوفدان المفاوضان نفسيهما في النقطة التي انتهت إليها تلك الجولة الرابعة من المفاوضات.
7
برزت ثلاث مسائل جديدة في هذه الجولة الخامسة من المفاوضات:
المسألة الأولى أن مصر عرضت على السودان مبلغ عشرة مليون جنيه مصري كتعويضٍ لأهالي حلفا على إغراق أراضيهم وممتلكاتهم وهذا ما رفضه السودان بشدّة، وطالب مصر بدفع مبلغ 35 مليون جنيه كتعويضاتٍ أهالي حلفا، وعن المعادن والآثار التي ستغمرها مياه السد العالي. أكدّ مطلبُ السودان لهذا المبلغ من التعويضات قبولَ السودان لمبدأ قيام السد العالي واختلافه مع مصر حول حجم التعويضات.
المسألة الثانية هي مسألة الحدود بين السودان ومصرشمال مدينة حلفا. فبينما كانت مصر ترى أن حدودها في تلك المنطقة تمتد حتى خطّ 22 شمال وأن القرى شمال مدينة وادي حلفا التي تقع على خط 22 شمال (وتشمل قرى سره ودبيره وفرس) هي في حقيقة الأمر أراضي مصرية، رفض السودان ذلك الإدعاء وأكدّ أن حدوده تمتد لعدة أميال حول شاطيئ النيل شمال خط 22 ومدينة حلفا، وأن قرى سره ودبيره وفرس أراضي سودانية. لكن يبدو أن هذه المسألة قد طغت عليها الخلافات الأخرى. وقد يكون علم الطرفين أن هذه الأراضي ستغرق تحت بحيرة السد العالي قد جعل النقاش حول تبعيتها بلا معنى، إلاّ إذا كان في ذهن المفاوض السوداني مسألة التعويضات عنها، وهذا ما لم يثره الوفد السوداني رسمياً.
المسألة الثالثة هي أن السيد همفري موريس لم يُشارك في هذه الجولة من المفاوضات، وغادر السودان نهائياً في منتصف عام 1958 بعد أن تقاعد عن العمل بعد أكثر من ثلاثين عاماً في خدمة الري بالسودان. وكان السيد همفري موريس قد شارك مشاركةً فعالةً، كما ذكرنا في المقالات السابقة، في جولات المفاوضات الأربعة الماضية، وساهم مساهمةً كبيرةً في بناء وتطوير قطاع الري في السودان.
8
التقى السيد ميرغني حمزة مرتين خلال مفاوضات الجولة الخامسة في ديسمبر 1957 ويناير 1958 بالرئيس جمال عبد الناصر لمناقشة نقاط الخلاف، ولكن الاجتماعين لم ينجحا في حلحلة أيٍ من المسائل العالقة. وهكذا انتهت الجولة الخامسة بالفشل كسابقاتها من جولات المفاوضات رغم التفاؤل الذي أبداه السيد ميرغني حمزة أثناء المفاوضات، خصوصاً بعد اجتماعه بالرئيس جمال عبدالناصر، وعاد الوفد السوداني من القاهرة إلى الخرطوم في 7 يناير عام 1958 خاوي الوفاض.
ولكن قبل أن تهدأ عاصفة الفشل الذي صاحب تلك الجولة من المفاوضات اندلعت شرارة خلافٍ آخر حادٍ وخطير بين مصر والسودان حول منطقة حلايب، وفتح هذا الخلاف أيضاً ملف المنطقة المتنازع عليها شمال حلفا، مضيفاً تعقيداً آخر ليس فقط لمفاوضات مياه النيل فحسب، ولكن لمجمل العلاقات بين مصر والسودان، كما سنناقش في المقال القادم.
Salmanmasalman@gmail.com