خواطر عن العنج !
رئيس التحرير: طارق الجزولي
2 October, 2022
2 October, 2022
سمعت عن العنج لأول مرة من والدي الشيخ التجاني عمر قش، رحمه الله وغفر له، فقد كان مهتما بتاريخ شمال كردفان وسمع من كثير من الأشخاص المعمرين في المنطقة. وفي عام 1949م ألف كتاباً عن آثار العنج في ديرانا، ولكن يا للأسف الشديد أحرق ذلك الكتاب؛ نظراً أنه أصبح شاغلا له عن عمله! وكان قد جهز كامل العدة لحفر ونبش قبور العنج للوقوف على حقيقتها، ولكنه أيضا تخلى عن تلك الفكرة؛ حتى لا يظن الناس أنه يبحث عن كنوز قد تكون مدفونة في تلك القبور، وبذلك أضاع علينا فرصة ثمينة لمعرفة كنه تلك القبور وتزويدنا ببعض المعلومات عن أصحابها.
وظل اهتمامي بالعنج قائما حتى انضممت إلى مجموعة الجمعية التاريخية في الواتساب، وهي في واقع الأمر كحامل المسك، أما أن تبتاع منه أو تجد عنده ريحاً طيبة. فهذه المجموعة تضم نخبة متميزة من أساتذة التاريخ في الجامعات السودانية، ونفراً من المهتمين بالتاريخ والانثروبولوجيا، والباحثين، ولذلك تجدهم يثيرون مواضيع غاية في الأهمية ويتبادلون النقاش بطريقة تنضح بالمهنية، ويسعدني أن أكون تلميذاً في حضرتهم، ولهم مني جزيل الشكر والتقدير؛ فهم الذين دفعوني لكتابة هذه الخواطر عن العنج، وأعانوني بكثير من المصادر الهامة التي تتحدث عن أولئك القوم.
وأنا مدين للأساتذة الكرام في الجمعية التاريخية لتوفير بعض الكتب والمقالات التي امدتني بمعلومات ثرة، وأشير هنا تحديدا إلى كتاب سي. هيلسون عن داؤود روبيني، ترجمة الدكتور أحمد المعتصم الشيخ، ومقالات الدكتور أحمد الياس حسين عن العنج وكتاب مملكة الأبواب وزمن العنج من تأليف د. أحمد المعتصم الشيخ، وكتاب مكامايل عن قبائل شمال كردفان ووسطها، من ترجمتي، وغير ذلك من المقالات والمداخلات المفيدة، التي حفزتني للقراءة والاطلاع عن العنج، وأود أن أشير إلى أن محتوى هذه المقالات ليس بحثا بالمعني الذي يتبادر إلى الأذهان، بل هو خواطر أود مشاركتها معكم لأستفيد من غزير علمكم.
ومن الأشياء التي لفتت انتباهي في هذا الصدد أن كلمة "عنج" أو "أنج" تعني الغريب في اللغة النوبية القديمة؛ وخاصة لجهة الدناقلة، مما يدل على أن العنج قد جاءوا من وراء الحدود التي كانت معروفة في سالف الأزمان، وقد حكم هؤلاء العنج الأغراب المنطقة التي تمتد من سواحل البحر الأحمر، وشمال كردفان مرورا بقرى شمال أم درمان وبحري، والجزيرة والبطانة وشمالا حتى جنوب مناطق النوبة.
وحسب الأوصاف المتواترة عنهم، فإن العنج عنصر غير عربي، وتوجد لهم آثار في شرق قرية دميرة، بشمال كردفان، وحول جبل الزناتي، وهنالك قبور تنسب إلى العنج في شمال غابة الخضارة الواقعة بالقرب من قرية القاعة، بمحلية غرب بارا. وهنالك أقوال تتحدث عن أن قبور العنج تمتاز بالطول مما يدل على ضخامة أجسامهم. وثمة مدن أثرية في أطراف الصحراء الكبري يقال إنها لقوم أبو كنعان (قنعان) الذين يقال إنهم هم العنج أنفسهم.
عموما الروايات الشفاهية عن العنج في كثير من أنحاء السودان تكان تكون متواترة، بحيث لا يمكن أن يكون هؤلاء القوم أو الشعب العظيم مجرد نسج خيال، بل كان لهم وجود وسلطنة وتنظيم للحكم حتى سيطروا على معظم ما يعرف الآن بالسودان. من ناحية أخرى، يستخدم الناس في منطقتنا بعض الألفاظ التي ليس لها أصل عربي ويقولون إنها من كلام العنج، مثل "الأنجيرة أو العانجيرة" وهي العصيدة المعروفة في جميع أنحاء السودان. ووجهة الدلالة أن الحروف الأولى من الكلمتين يبدآن إما "بانج، أو عنج" ومن الواضح جدا صلتها باسم العنج أو الأنج. وكذلك يقال "سوط العنج" بفتح العين وسكون النون، وقد سألت أحد الأخوة من أبناء شرق السودان فقال لي إن كلمة "العنج" في لهجتهم تعني الحلنقة، وأضاف أن هنالك مجموعة من الناس كانوا يسكنون في شرق السودان يعرفون "بالعنج" أو "البلو".
وفي هذا السياق تشير بعض الآراء إلى أن اسم "سوبا"، عاصمة علوة، مأخوذ من "سبأ" تلك المملكة اليمينة التي تدهورت بانهيار سد مأرب الذي كان يعتمدون عليه في الزراعة ، ولما إنهار بسبب السيول أضطر أهل المملكة للهجرة شمالا إلى الجزيرة العربية واستقرت بعض قبائلهم مثل الأوس والخزرج في يثرب، وانداح بعضهم حتى أقصى شمال الجزيرة العربية، بينما عبر جزء كبير منهم عن طريق باب المندب ووصلوا إلى السواحل الغربية للبحر الأحمر، وانتشروا في تلك البلاد حتى أسسوا مملكة في وسط السودان وأطلقوا عليها اسم "سبأ" لكن اللسان السوداني حرف الاسم إلى "سوبة" وظلت تلك المملكة (علوة) قائمة حتى انهارت على يد جيوش الحلف العبدلابي- الفونجاوي في عام 1504م وتأسست على إثرها سلطة الفونج ومشيخة العبلاب. ولو صح هذا القول لوجدنا أثرا للغة حمير أو على أقل تقدير للغة العربية في المناطق التي سيطر عليها العنج، إلا أن أحداً من المؤرخين لم يذكر أن العنج كانوا يتحدثون لغة حمير أو أي لجهة عربية أخرى.
gush1981@hotmail.com
وظل اهتمامي بالعنج قائما حتى انضممت إلى مجموعة الجمعية التاريخية في الواتساب، وهي في واقع الأمر كحامل المسك، أما أن تبتاع منه أو تجد عنده ريحاً طيبة. فهذه المجموعة تضم نخبة متميزة من أساتذة التاريخ في الجامعات السودانية، ونفراً من المهتمين بالتاريخ والانثروبولوجيا، والباحثين، ولذلك تجدهم يثيرون مواضيع غاية في الأهمية ويتبادلون النقاش بطريقة تنضح بالمهنية، ويسعدني أن أكون تلميذاً في حضرتهم، ولهم مني جزيل الشكر والتقدير؛ فهم الذين دفعوني لكتابة هذه الخواطر عن العنج، وأعانوني بكثير من المصادر الهامة التي تتحدث عن أولئك القوم.
وأنا مدين للأساتذة الكرام في الجمعية التاريخية لتوفير بعض الكتب والمقالات التي امدتني بمعلومات ثرة، وأشير هنا تحديدا إلى كتاب سي. هيلسون عن داؤود روبيني، ترجمة الدكتور أحمد المعتصم الشيخ، ومقالات الدكتور أحمد الياس حسين عن العنج وكتاب مملكة الأبواب وزمن العنج من تأليف د. أحمد المعتصم الشيخ، وكتاب مكامايل عن قبائل شمال كردفان ووسطها، من ترجمتي، وغير ذلك من المقالات والمداخلات المفيدة، التي حفزتني للقراءة والاطلاع عن العنج، وأود أن أشير إلى أن محتوى هذه المقالات ليس بحثا بالمعني الذي يتبادر إلى الأذهان، بل هو خواطر أود مشاركتها معكم لأستفيد من غزير علمكم.
ومن الأشياء التي لفتت انتباهي في هذا الصدد أن كلمة "عنج" أو "أنج" تعني الغريب في اللغة النوبية القديمة؛ وخاصة لجهة الدناقلة، مما يدل على أن العنج قد جاءوا من وراء الحدود التي كانت معروفة في سالف الأزمان، وقد حكم هؤلاء العنج الأغراب المنطقة التي تمتد من سواحل البحر الأحمر، وشمال كردفان مرورا بقرى شمال أم درمان وبحري، والجزيرة والبطانة وشمالا حتى جنوب مناطق النوبة.
وحسب الأوصاف المتواترة عنهم، فإن العنج عنصر غير عربي، وتوجد لهم آثار في شرق قرية دميرة، بشمال كردفان، وحول جبل الزناتي، وهنالك قبور تنسب إلى العنج في شمال غابة الخضارة الواقعة بالقرب من قرية القاعة، بمحلية غرب بارا. وهنالك أقوال تتحدث عن أن قبور العنج تمتاز بالطول مما يدل على ضخامة أجسامهم. وثمة مدن أثرية في أطراف الصحراء الكبري يقال إنها لقوم أبو كنعان (قنعان) الذين يقال إنهم هم العنج أنفسهم.
عموما الروايات الشفاهية عن العنج في كثير من أنحاء السودان تكان تكون متواترة، بحيث لا يمكن أن يكون هؤلاء القوم أو الشعب العظيم مجرد نسج خيال، بل كان لهم وجود وسلطنة وتنظيم للحكم حتى سيطروا على معظم ما يعرف الآن بالسودان. من ناحية أخرى، يستخدم الناس في منطقتنا بعض الألفاظ التي ليس لها أصل عربي ويقولون إنها من كلام العنج، مثل "الأنجيرة أو العانجيرة" وهي العصيدة المعروفة في جميع أنحاء السودان. ووجهة الدلالة أن الحروف الأولى من الكلمتين يبدآن إما "بانج، أو عنج" ومن الواضح جدا صلتها باسم العنج أو الأنج. وكذلك يقال "سوط العنج" بفتح العين وسكون النون، وقد سألت أحد الأخوة من أبناء شرق السودان فقال لي إن كلمة "العنج" في لهجتهم تعني الحلنقة، وأضاف أن هنالك مجموعة من الناس كانوا يسكنون في شرق السودان يعرفون "بالعنج" أو "البلو".
وفي هذا السياق تشير بعض الآراء إلى أن اسم "سوبا"، عاصمة علوة، مأخوذ من "سبأ" تلك المملكة اليمينة التي تدهورت بانهيار سد مأرب الذي كان يعتمدون عليه في الزراعة ، ولما إنهار بسبب السيول أضطر أهل المملكة للهجرة شمالا إلى الجزيرة العربية واستقرت بعض قبائلهم مثل الأوس والخزرج في يثرب، وانداح بعضهم حتى أقصى شمال الجزيرة العربية، بينما عبر جزء كبير منهم عن طريق باب المندب ووصلوا إلى السواحل الغربية للبحر الأحمر، وانتشروا في تلك البلاد حتى أسسوا مملكة في وسط السودان وأطلقوا عليها اسم "سبأ" لكن اللسان السوداني حرف الاسم إلى "سوبة" وظلت تلك المملكة (علوة) قائمة حتى انهارت على يد جيوش الحلف العبدلابي- الفونجاوي في عام 1504م وتأسست على إثرها سلطة الفونج ومشيخة العبلاب. ولو صح هذا القول لوجدنا أثرا للغة حمير أو على أقل تقدير للغة العربية في المناطق التي سيطر عليها العنج، إلا أن أحداً من المؤرخين لم يذكر أن العنج كانوا يتحدثون لغة حمير أو أي لجهة عربية أخرى.
gush1981@hotmail.com