دارفور في هوليوود؟

 


 

 




(1)

نبهنا الأخ الصديق والدبلوماسي السوداني المتميز خالد موسى دفع الله إلى فيلم جديد تطلقه استديوهات هوليوود هذا الشهر تحت اسم "داعية المدفع الرشاش"، يظهر مواطناً أمريكياً تحول من مجرم ومدمن خمر إلى ناشط يتولى منفرداً حماية مئات الأطفال في دارفور من بطش النظام السوداني والميليشيات المتحالفة معه.

(2)

ربما يتذكر كثيرون الأخ خالد بالتصريحات غير الموفقة التي أدلى بها حول مشاركة "مرتزقة من دارفور" مع كتائب القذافي حين كان يتولى منصب الناطق الرسمي باسم الخارجية السودانية، لا بمساهمته الفكرية المتميزة. ولا شك أن مثل هذه السقطات هي من مخاطر العمل في الخارجية السودانية، وإن كان من واجب الناطق الرسمي، والدبلوماسية السودانية عموماً، التفكر في عواقب حصائد ألسنتهم، وانعكاسات ما يقال على كثير من السودانيين والأفارقة الأبرياء في ليبيا.

(3)

في المداخلة موضوع نقاشنا اليوم، وصف خالد الفيلم الهوليوودي بأنه جزء من "حرب ثقافية على السودان"، واستمرار لتشوية صورة افريقيا. وينسب خالد هذا التوجه إلى عقلية استعلائية تصر على "تشويه صورة السودان التي تجسده رمزا للقبح والعنف والدماء والجنون والموت لينقذ أطفاله اليتامي رجل أبيض أتي من أصقاع نائية ليعلم هؤلاء الهمج السود الوالغون في الدماء قيمة حماية الأطفال واللقطاء واليتامي وكيفية الإعتناء بهم، لأن قلبه عامر بالإنسانية والقيم الرفيعة، وقلوب أهل السودان مليئة بالبشاعة والقسوة والموت الزؤام."

(4)

من نافلة القول أن أفلام هوليوود ليست سجلاً صادقاً للواقع والتاريخ، وإنما هي تهويمات في دنيا الأماني والخيال، تصور ما يمكن أو ينبغي أن يكون، وترسل رسائل مشفرة غير مباشرة عن العالم والنفس الإنسانية. من نافلة القول كذلك أن تصوير افريقيا في الإعلام الغربي، المتخيل والواقعي، ينطوي على كثير من التحامل والجهل، وغير قليل من التعالي والاحتقار.

(5)

ولكن إذا تعمقنا أكثر في المسألة فإن السؤال يطرح نفسه: من الذي شوه صورة افريقيا أكثر، الإعلام الغربي أم أفعال كثير من أبناء القارة السمراء؟ في الأسبوع الماضي، كان هناك تقرير في الإذاعة البريطانية من منطقة في الكونغو الديمقراطية يطلق عليها البعض تمسية "عاصمة الاغتصاب في العالم". تحدث التقرير عن طفل عمره ثمانية أشهر، كان يعالج سكرات الموت في رعاية امرأة نذرت نفسها لرعاية النساء من ضحايا الاغتصاب. تقول المرأة أنها عثرت على الطفل وذراعه مكسورة وسط ركام من الجثث. وبحسب رواية الأهالي، فإن الجنود (لايذكر التقرير إن كانوا من أنصار الحكومة أم خصومها) طلبوا من النساء إلقاء أطفالهن على الأرض، حيث كانوا يقومون بقتلهم. وعندما رفضت أم هذا الطفل الأمر أطلقوا عليها النار فأردوها هي قتيلة.

(6)

هذا غيض من فيض من الفظائع التي ظلت ترتكب في افريقيا، وما لم تأت عليه التقارير مما خفي أعظم. فمن يستطيع أن ينصب نفسه محامياً عن هذه الصنوف من الإجرام، سواءً كانوا ثوار سيراليون الذين كانوا يأمرون بقطع أيدي المعلمين وغيرهم من الفئات، أو جنود جيش الرب الذين يختطفون الأطفال ثم يأمرونهم بقتل آبائهم وذويهم، أو "شباب" الصومال الذين يحبسون الإغاثة عن من يموت جوعاً؟ وإن فعل البعض، فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلاً؟

(7)

هناك عدم إدراك عند خالد، ومن ورائه الدبلوماسية السودانية والنظام، عن عظم حجم كارثة دارفور، ليس فقط إنسانياً، وإنما سياسياً وإعلامياً. فتهمة الإبادة الجماعية، حتى وإن كانت بهتاناً عظيماً، ليست بالأمر الهين، وهي لم تطلق في التاريخ الحديث إلا في حالات معدودة أصبحت علماً. وفي كل هذه الحالات كانت لها نتائج وخيمة لأجيال تلت. وعليه لا يمكن التعاطي مع هذه التهمة باستخفاف ونسبتها لتحيز الإعلام وافتراءات الأعداء.

(8)

لنأخذ مثلاً أول تهمة من هذا النوع أطلقت في القرن الماضي، وهي تهمة إبادة الأرمن في تركيا من قبل قادة جمعية الاتحاد والترقي في أثناء الحرب العالمية الثانية. فهذه التهمة ما زالت تثير الجدل والإدانات رغم أن النظام الذي ارتكبها وحتى الدولة المسؤولة (الدولة العثمانية) ذهبت في ذمة التاريخ، ورغم أن تركيا ظلت حليف الغرب و(حتى عهد قريب) إسرائيل أيضاً. وقد تحيزت إسرائيل (وبعض كبار أنصارها مثل المؤرخ برنارد لويس) إلى الرواية التركية نوعاً ما. ومع ذلك ما تزال التهمة تطارد الأتراك إلى اليوم.

(9)

ليس مما يطمئن الحكومة أن أمثل الناس طريقة يقول إن ما وقع في دارفور لا يرقى إلى الإبادة الجماعية، ولكنه يمثل فقط "جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية". فليس هذا مقام تريد أي حكومة أن تكون فيه، ناهيك عن حكومة ترفع راية الإسلام الذي لا يرى فرقاً في عظم الذنب بين قتل نفس واحدة بريئة وإبادة البشرية قاطبة.

(10)

بينما نحمد للأخ خالد أنه سعى إلى رفع مستوى الحوار نوعاً ما في محاولته لابتدار حوار متعمق حول صورة السودان –وافريقيا عموماً- في الثقافة الشعبية في الغرب، فإن مثل هذا التناول لأعراض المشكلة قد يصرف النظر عن القضية الحقيقية، وهي أن الأمر جد خطير، ليس فقط على النظام، بل على الوطن وسمعته. ولا يكفي ترداد المزاعم المكرورة حول تحيز الغرب وإعلامه، بل لا بد من مواجهة المسألة عبر تحقيق وطني مستقل، ومحاسبة كل من يثبت تورطه، ثم اتباع نهج المصارحة والمصالحة. فالسودان كوطن لا بد أن يتطهر ويطهر نفسه من الآثام التي اجترحت في دارفور بوسيلة غير الردح ولوم الغير. فالقاتل والمقتول في دارفور من السودانيين المسلمين، وجلهم دارفوريون. أما أمريكا –ومعها هوليوود- فهي بريئة ن تلك الدماء براءة الذئب من دم ابن يعقوب.
Abdelwahab El-Affendi [awahab40@hotmail.com]

 

آراء