دريدا من العدمية إلى العدالة- قراءة في كتاب عجب الفيا
ربما لا يفهم العجز عن التعاطي العميق مع ظواهر الارهاب المعاصر ومحاولات الأصوليين قلب طاولة المعتقدات الاجتماعية داخل أوروبا نفسها وبأدواتها القانونية، إلا بالعودة إلى سلسلة من الانعطافات الفلسفية أعقبت الحرب العالمية الثانية، بدءا من الوجودية وانتهاء بالتفكيكية، وانطلاقا من فلسفة العبث إلى تخوم العدمية المتمثلة في بعض جوانب «ما بعد الحداثة».
لقد حل الشك محل اليقين، وأعيد النظر في موقع الانسان من التاريخ والحدث: هل هو فاعل أم مفعول به؟ هل ثمة تطور حقا أم معايير مختلفة للتعامل مع الزمن بحسب الحضارات والثقافات؟ هل ينبغي تصدير النمط العقلاني الغربي أم أنه نمط معطوب واستبدادي؟
نسترجع بعضا من هذه التساؤلات بسبب من أن تطرف حالة «تأنيب الضمير» الغربي قد بلغت به حدود العجز والتنكر والمباهاة بفقدان اليقين، وهو ما أوصله إلى عدم القدرة على اتخاذ مواقف أخلاقية واضحة تجاه الفظائع الانسانية.
في كتابه عن جاك دريدا، الفيلسوف الفرنسي الراحل، والذي جاء بعنوان «في نقد التفكيك.. نصوص مختارة مع مقدمة شاملة»، يقدم عبدالمنعم عجب الفيا رؤية متوازنة لمفكر يقف على مشارف العدمية، مطورا التراث النيتشوي إلى نقطة أقل حماسا لتفكيك أي مركزية ممكنة للعقل، وأي مرجعية يمكن التثبت منها كنقطة انطلاق.
يحكي مؤلف الكتاب عن اللحظة الحاسمة التي انطلق فيها نجم دريدا في مؤتمر العلوم الانسانية بجامعة جون هوبكنز في العام 1966، وهو المؤتمر الذي شارك فيه أقطاب البنيوية: رومان ياكوبسون، وليفي شتراوس، ورولان بارت، ولوسيان غولدمان. ورقة دريدا المقدمة للمؤتمر والتي جاءت بعنوان «البنية والعلامة واللعب في خطاب العلوم الانسانية»، طوت صفحة النظرية البنيوية، بزعم ان الأخيرة، ولو أنها أقصت الانسان وأوهام الارادة عن مركز الفعل، فإنها أبقت على مركز ما ثابت ومفسر ونهائي. هنا كان عمل دريدا: تفكيك البنية نفسها . فلا وجود مركزا لتفسير النصوص والأفعال الانسانية (باعتبارها أيضا نصوصا.
انتقد دريدا ما أسماه بفلسفة «الحضور» في الفكر الغربي: أي الحضور الكامل للمعنى في اللفظ. واعتمادا على عالم اللغة السوسري الشهير فرديناند دوسوسيور، بتأويل خاص لأفكاره، اعتبر دريدا أن معنى اللفظ يتشكل باختلافه عن ألفاظ أخرى، وبالتالي فإن كل لفظ مسكون دائما بما يخالفه، ولا يمكن تحديد معنى له إلا في ضوء لفظ آخر وسياق آخر، وهو ما ينتج عنه إرجاء المعنى باستمرار، وما سمي وفق نظريته «الاختلاف المرجيء».
هاجم دريدا أيضا ما اعتبره تقديسا للكلام، في الفكر الغربي، على حساب الكتابة. وأرجع هذا التفضيل أيضا لفلسفة الحضور. فالكلام يقتضي حضور المتكلم ليصبح هو الضامن النهائي للمعنى، بينما تبقى الاحالة في الكلمة المكتوبة غامضة ولا يمكن التثبت من مرجعها النهائي أبدا. هكذا، بحسب مؤلف الكتاب، بلغ دريدا أعتاب نقلة أخرى هي الاكتفاء بـ«النص». النص بالنسبة لدريدا ليس الكتاب بل هو مدمر لفكرة الكتاب. إنه الكتابة المسكونة دائما بنصوص أخرى تختلف عنها، وتفترض حضورها بالضرورة. ان النص يمكن أن يشمل الحياة كلها، أو بتعبير أدق يمكن اعتبار كل ممارساتنا نصوصا مسكونة بالاختلاف ومعناها مرجأ باستمرار. انها تفكك الكتاب الذي يحاول أن يقنعنا أنه بنية متماسكة لها بداية ونهاية ومرجع، لتمزقه وتفتحه كنص منفتح على تأويل لا ينقطع.
وبحسب مؤلف الكتاب، الذي تضمن أيضا نصوصا لدريدا ومقالات مترجمة عن فلسفته، فقد انزعج الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو من أفكار نظيره الفرنسي حول «النصية» الشاملة. فقد كانت كلمة دريدا «لا شيء خارج النص» معناها طرح كل ملابساته واشتباكه مع الواقع المحيط به، كما أنها تمثل نفيا متعسفا لوجود أي قصدية داخل النص، قافزة بذلك على إرادة مؤلفه، وهو ما يسمح بنوع من الكهنوت يكون فيه لمفسر النص الحرية الكاملة في اختلاق تفاسير لا تنتهي له.
هل لذلك علاقة بما بدأنا به؟ نعم، فكما أن النقد العنيف للمركزية الأوروبية لدى شتراوس ومن بعده فوكو وغيرهم، أفضى إلى نفي وجود وحدة ومرجع عقلاني وأخلاقي للثقافات، ما جعلها تتواطأ مع تيارات متطرفة باعتبارها تمثل ثقافة «مختلفة». كذلك يفضي الارجاء المستمر للمعنى إلى نقض أي مرجعية لأي قيمة أخلاقية، ويصبح التعامل مع الأفكار مجرد تعامل جمالي باطنه نظره عدمية مغلولة اليد عن أي مبادرة لرفع الظلم أو حتى إعادة تحديد معناه.
غير أن اللافت خفوت النبرة «التقويضية» الراديكالية في فلسفة دريدا في التسعينات، واعترافه أخيرا بأن ثمة مبادئ قبلية لا يمكن تفكيكها مثل فكرة العدل. بل يتقدم أكثر ليستبقي من ماركس حلمه الطوباي الثوري.
يبقى أن أحد المحاور الشيقة في الكتاب تتعلق بالنسب اليهودي الصوفي لأفكار دريدا. فجأة يعاد تفسير أفكاره في ضوء صراع غربي/ غربي مضمر بين اتجاهين أحدهما توراتي، والآخر مسيحي إغريقي، أحدهما يعتبر النص مرجعه، والآخر يعتبر «الكلمة» مصدره. والكلمة هنا هي المسيح نفسه في المعتقد المسيحي الذي يرى أن كلمة الله تجسدت فيه، فصار هو المرجع والممثل للحضور الكامل، بينما واجه اليهود المسيح بمرجعية النص المكتوب وأصالته.
إن أهم سمة لكتاب «في نقد التفكيك» أنه لا يقف موقف المتلقي المنسحق أمام فيلسوف محير، بل يبادر إلى تعاط هادئ ونقدي مع أفكاره بما يسمح لنا برؤيتها في سياقها، وحتى خارج هذا السياق، مع إضافة الفائدة بنصوص مترجمة بعضها لشراح جاك دريدا المبرزين، وبعضها لنقاده ومفندي مزاعمه الفلسفية.
جريدة القبس :: خير جليس :: جاك دريدا.. من العدمية إلى العدالة
http://alqabas.com.kw/Articles.aspx?ArticleID=1112898&CatID=562
abdfaya@yahoo.com