دلائل الحكمة في حكم الأمَّة

 


 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم
abdelmoniem2@hotmail.com

إعلان تضارب مصالح: ‬‬‬
هذا الرَّأي يتَّخذ دين الإسلام مرجعاً ومنهجاً متكاملاً مع العلوم الثابتة، والخبرة العمليَّة والحياتيَّة، وصاحبه له عزم على العمل السياسي لنهضة السودان والمشاركة في قيادة شعبه إن شاء الله:
"وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا". ‬

الحكم هو وسيلة لإدراك عافية المحكوم لا الحاكم، وليس غايةً في ذاته، فإذا كانت المبادئ التي يقوم عليها الحكم هي ما يجب تطبيقه فالحكمة هي كيفية هذا التطبيق.
والأمر بين الحاكم والمحكوم سواء لا فضل لأحدهم على الآخر كما قال عمر الفاروق رضى الله عنه، وتُنال سيادة القلوب بالمحبَّة بخدمة الآخرين بلا منٍّ أو أذى، كما في قول العرب، وهي قيمة أصيلة من قيم القيادة، ولا تُنال بالتجبُّر والتَّهديد.

ولذا فمن الحكمة أن يستشار المحكوم ويشرك في قرار حياته عمّا يحقّق أسباب عافيته، فهو أدرى باحتياجاته، وهو ليس قاصراً تجب الوصاية عليه. ومن الحكمة أيضاً أن يكون شريكاً حقيقيّاً في تحقيق أمانيه، فمنه يبدأ الأمر وإليه ينتهي.

ولكنّ الحكّام درجوُا بطريقة أبويّة، على اختلافهم، على تطبيق أفكارٍ وخططٍ فوقية، لا تمتُّ للواقع بصلة، تبتكرها قلّة احتكرت المعرفة وجانبتها الحكمة، فقلّلت من قيمة الآخرين بدعوى إصلاح حال المحكومين، حتى وإن أدّت إلى تشريدهم وتجويعهم وقتلهم.

وهو كمثل ربّ البيت الذي يرى أنّ خلاص وسعادة عائلته في بناء بيت فخم بدلاً من الاستثمار فيهم بتشييد قيم العلم والأخلاق فيهم، حتّى وإن كان في ذلك تجويع وتشريد وموت عائلته، ضانّاً عليها بمحبّته ورعايته، وهي أحوج إليها من بنيانه الفخم.

وحجّته وجوب الصّبر على المكاره والتّضحية لنيل المراد، وهو مراده أوّلاً وآخراً لا مرادهم، حتى وإن كانوا يتضوَّرون جوعاً ويموتون مرضاً ويعيشون كالأشباح ضحايا الفاقة واليأس، دون أن يستشيرهم أو يشركهم في تقرير مصيرهم، مقتنعاً أنّ خطّته تأتى لمصلحة الكل، لأنّه أكثر درايةً وأبعد نظراً منهم كأنَّه رسول رحمةٍ يعرف الحقَّ ويبشِّر به، وهو سادرٌ في غيِّه، أصمٌّ لا يسمع أنين الأطفال والأمَّهات، وأعمي لا يري آثار المسغبة والحرمان، غير مدركٍ أنّ كلّ الذي يجب عليه إنجازه هو وضع الأساس بالاستثمار في إنسان وطنه وبقيّة البناء تتِمَّه الأجيال القادمة.

والحكومات على تعاقبها جانبتها الحكمة، ففشلت في إدارة الدولة وأهلمت النشء والشباب، وهم ثروة الوطن، ورأت فيمن خالفهم الرأي إمّا جاهل لا يرقى لعلوّ علمهم، أو مشكوك في وطنيّته خائن عميل، فانقلبت بذلك من خادم للشعب، إلى سيّد تبتكر له من القيود ما يزيده أسـراً وعسـراً، وهي تظنّ أنّها تدير أعماله بتدبّرٍ وحكمةٍ.

وأيضاً أهملت وأنكرت التنوّع ورأت فيه تهديداً بدلاً من قوّةٍ، فانتهجت طُرُقاً لا تمتُّ للوطن بِصِلة ولا بواقعه ممّا أدّت إلى الاحتراب والتشتّت والفرقة والتشرذم وانتهاك إنسانية إنسانه.

وما كلُّ ذلك إلاّ نتاج انفصال الحاكم عن المحكوم والفجوة بينهما، وعدم دراسة حال المحكوم عن قرب، ولا تلمّس آرائه وحاجاته باستفتائه وسؤاله، خاصّةً لمن يخالفونهم الرأي لأنّ نصف الرأي عند أخيك، مع أنّ الأغلبية هي مصدر القوّة والمعنية بالأمر وباسمها تقوم الحكومات وتسقط.

واختلط الأمر وساء أيضاً لغياب المؤسّسـيّة في الدَّولة والأحزاب، حتى وإن قامت المؤسسات، وذلك لانعدام الشّفافيّة والرؤية والأهداف الواضحة، وأيضاً البرامج الاستراتيجية المتكاملة والسياسات المبنية على الدليل العلمي التي تضع المواطن في قلبها وليس التَّنافس على كرسي الحكم. ومن الأسباب أيضاً عدم تجدّد القيادة، والموالاة للأفراد، وليس للحقّ والفكر، ولأسباب عـديدة أخرى.

ولقد دأبت الشعوب على تسليم أمرها لقيادتها آملةً في أن يقوم ولىّ الأمـر ومن والاه بخدمتها وتوفير أسباب معيشتها، ورعاية أمنها وصحّتها ورفع أميّتها، ولكن خابت آمالها المـرّة تلو الأخرى، مهما اختلفت أنواع وصيغ الحكم، لانشغال الحكّام بالسلطة أكثر من الشعوب، والالتفات إلى ما يفرّقهم لا إلى ما يجمِّعهم، والتّنافس على كراسي الحكم التي أعمتهم عن واقع ومعاناة شعوبهم، فانتهت معظم المواثيق والشعارات والوعود إلى سـراب لا يروى ظـمأً، وإلى فسـاد أضاع الأحـلام ودمـّر الحاضر والمستقبل، فبدّل أمنهم خوفاً على الرّزق والولد والبلد، والوحدة إلى احتراب وتصدّع، والمحبّة إلى كراهية وحقد، فبدّد أموالها، التي ائتمنتهم عليها، لتثبيت مراكزهم واستقطاب غريمهم، فحرمها حقوقها في الحريّة والمساواة والعدل والعيش الكريم.

ولقد دلّت تجارب الشّـعوب في الحكم على إخفاقٍ شديدٍ في تلبية احتياجات المواطنين، أو التّفاعل معهم، ومشاورتهم. وهذا الانفصال قلّل من مصداقية الحكومات عند الشّعوب، فانصرفت عامّة النّاس عن السّياسة باعتبارها لا تمثّلهم أو تمثّل طموحاتهم وبرامجهم، والتي هي تنمويّة وخدميّة في المقام الأوّل إن حفظت حرِّيتهم وكرامتهم، ومن أجل ذلك فقد وجب تقديم مثال جديد للسّياسة لا يجعل الحكم مبلغ همّه، ويدار بالأغلبيّة لا القلّة، ويقوم على خدمة النّاس وتحقيق المساواة والعدالة والتّعاون بينهم لا المعارضة والمنافسة الضارَّة.

والآن قد حان الأوان أن تمسك الشعوب بزمام أمـرها، وأن تصنع أسـباب رفاهيتها بيدها دون الاعتماد أو الانتظار لعطاء الحكومات، ضنَّت عليها أو منَّت، فإنّ لديها من الموارد ما يسدّ الأفق إذا ما تكاتفوا واتّفقوا وتعاونوا.

فالأمل الوحيد في تغيير الواقع هو تغييرنا لأنفسنا باتَّباعنا للعلم لا الخرافة، وللبرامج النَّاضجة لا الأماني، وبعزوفنا عن الأنانيّة وجنوحنا للتضحية، وفى التّفكير في غيرنا أوّلاً بدلاً عن التّفكير في أنفسنا، وأيضاً في تعاملنا مع وطننا على أنّه بيت الجميع الذي فيه متّسع للكل، وفيه من الأمل الفسيح لكل شخصٍ، نرعاه كما نرعى بيوتنا وأهلنا.

وأيضاً في البعد عن تزكية النّفس والتّنافس على مقاعد الحكم، وعلى سؤالنا لأنفسنا عن دورنا ومسؤوليتنا في بناء الوطن والمحافظة عليه قبل أن نسأل حكّامنا، هذا إذا ما أردنا أن نثبت أنّنا ناضجون وعلى قدر المسؤولية.

قوموا إلى اعتصامكم المدنيِّ يرحمكم الله وانتضوا نور الحكمة سيفاً يقطع ظلام الجهل، وينشر نور المعرفة، ويوقظ الضمائر المغفية، ويحثَّ الهمم اليائسة، ويبعث الأرواح الميتة، فالغد المشرق في انتظاركم إن أذِن الله.

ودمتم لأبي سلمي

 

آراء