ذكريات جامعة الخرطوم … بقلم: أحمد جبريل علي مرعي
27 March, 2010
1967-1972
Gibriel47@hotmail.com
توطـئة
هذه المقالات محاولة لاسترجاع الذكريات في جامعة الخرطوم في الفترة من أواخر الستينيات إلى أوائل السبعينيات من القرن العشرين، حين كان العود أخضرا. وكان كل شيء سليما ينبض حيوية ونشاطا في (قهوة النشاط) وغيرها من مرابع الصبا والشباب آنذاك. لقد كانت تلك فترة عصر ذهبي في السودان بكل المقاييس.
لقد أضفت بنات جامعة الخرطوم – آنذاك – السمر والبيض من السودانيات وغيرهن من الأجنبيات وبنات الفرنجة على الجامعة ألقا ونضارة وحلاوة وجمالا.
وقبيلة (البراكسة) هي مجموعة الطلاب الذين كانوا يسكنون الثكنات التي غادرها جيش المستعمر وأصبحت داخليات الطلاب بالقرب من سينما النيل الأزرق ومستشفى العيون.
ولا يعني الحديث بضمير المتكلم أن تلك التجارب والمعاناة العاطفية والأزمات النفسية المذكورة في هذه المقالات قد مر بها المؤلف، فرافق الليل وسهر الليالي الطوال وسبح مع موج الذكريات. بل مر ببعضها ومر بها بعض الأصدقاء الأعزاء، وكنت شاهد عصر عليها وعايشتها معهم.
كانت هذه التجارب تبدو في تلك الأيام معضلات جسام عصي حلها، ومتاهات صعب الخروج منها. كما يجب أن أنوه بأن أسماء الأبطال المذكورة هنا، والذين مروا بتلك المواقف، ليست حقيقية.
ومر الزمان وعدنا بذاكرتنا إليها، فوجدناها ليست بتلك الصورة التي كانت عليها آنئذ، سبحان الله!!! وعندما قرأ الأبطال المواقف الآن ضحكوا كثيرا بأسنان ليست كاملة، وتضاريس زمان أظهرت بجلاء مسيرة الأيام عليهم!!!
اقتضت بعض المواقف إخراجا أدبيا، ولم تكن الأمور حقيقة بتلك الصورة لأسباب عديدة احتفظ بها لنفسي، وأستميحكم العذر في ذلك.
فإلى كل الأصدقاء من الجنسين، وكل الذين عاصروا تلك الفترة الذهبية في أي كلية من كليات جامعة الخرطوم أهدي هذه المحاولة الطريفة علها تضع على ثغورهم بسمات وآهات رضا، وعلى صدروهم تنهدات شوق دفين، فقد وضع الفرسان (رجالا ونساء) أو على وشك أن يضعوا أسلحتهم، وقد (ذهب النوار وبقي العوار).
زفرات الحنين
(الغفران)
غدونا صباح أحد أيام سبتمبر الندية من عام 1969 مبكرين إلى مرابط الحافلات لنلحق برحلة من رحلات الجامعة التي تكثر في الفترة الأولى من العام الدراسي. انطلقت بنا الحافلات في صبيحة ذلك اليوم تنهب شارع الخرطوم – مدني نهبا إلى حدائق (البتري). والعمارات تمر علينا سريعة كجبال شامخة، وأزيز السيارات في كل الاتجاهات، والأرض تعدو في اتجاه معاكس حاملة ما عليها كأنها تسابق زلزالا عنيفا أنشب أظفاره على أديمها.
لم أكن أعلم أنك معنا في تلك الرحلة. سارت الحافلات محاذية للنيل، والأمطار قد جعلت من طرفي الشارع مرآة صافية بما ركد عليها من المياه. والخضرة التي مدت بأعناقها الملد من عليها كانت كالحسناوات وقد اشرأبت بأعناقها المرد.
تاهت الحافلات عن الطريق المؤدي إلى الحديقة، وفي أثناء بحثنا عن الطريق شاء القدر ووحلت (غرزت) حافلتكن. أنزلكن السائق ليخفف من الحمولة، ولتساعدنه في إخراجها من الوحل. كانت المفاجأة عندما رأيتك مع بقية الطالبات تحاولن إخراج الحافلة، وأنتن أشبه بعصافير الجنة. تغافلت عني. لكنك تحرقت شوقا لرؤيتي، والحديث معي. قصدتني لتحادثيني، فعدلت بوجهي في اتجاه آخر. بدأت أتغافل عنك عمدا، وقد أضمرت تجاهلك. حدث هذا لمرتين اثنتين. تارة أيمم شطر تلك المروج الخضراء الممتدة أمامي، وأسير متنسما نفحات النيل العليلة، ويداي داخل بنطالي شاردا بأفكاري، وتارة أشيح بوجهي عنك.
لم أدر وأنا في تلك اللحظات كيف كان سلوكي بهذا الشكل الفظيع! لماذا كنت بتلك الصورة التي لا تليق بي؟!! لكن للعواطف عنان قوي متين لا تقوى عليه فرس العقل والرشاد. أدارتني العواطف العارمة كيفما اتفق، وكنت في كل ذلك منقادا لها. عاطفة الشباب وغيرة الشباب التي أرخت سدولها السود أمام عيني، فحجبت عني الفكر والتعقل في أمري.
وصلنا أخيرا الحديقة. بدأنا في فرش أرضية ركن من الحديقة تحت الأشجار الظليلة. جلست أنت مسترخية على بساط بكسل ظاهر ينم عن الفتور، وتبعثرت حولك اسطوانات (توم جونز) و (جيمس براون) و (البيتلز) بالإضافة إلى اسطوانات موسيقى سودانية، وهندية.
كان منظرك وأنت تتوسطينها كزنبقة الغدير فاقت الأخريات طولا، وأطلت برأسها عاليا من وسط أوراقها الدائرية. وقد تدلت من طرف حقيبتك النسائية الفاغرة فاها حزمة مناديل ورقية بيضاء كنت تمسحين بها وجهك، وتتشاغلين بها كعادة الفتيات حين تملي عليهن الأنثى حواء ممارساتها فينصعن لها، ويكن رهن إشارتها.
تجمعت الفتيات في مجموعات إلاك، فغدوت إليك. لا أعلم لماذا؟ أأريد محادثتك بعدما صرمت حبلها قبل مدة قصيرة؟ لا أدري!! على كل حال جئتك محييا ومستسلما.
- إزيك يا رباب. مالك قاعدة براكي (وحدك). ما تلمي على ديل ولا ديل. (وأشرت بيدي إلى مجموعات الفتيات).
- لا والله، تعبانة شوية. وما بحبش الإزعاج.
كانت آثار السأم والملل من محادثتي بادية جدا على محياك الزيتوني لا يمكن إنكارها. لكنك حجبتها بالنفاق الاجتماعي، فانطلقت تحادثيني بلهجة الصديقة متناسية البغض في داخلك الذي كشف عنه أسلوبك، وتعابير وجهك الذي طفح بها.
- الحتة دي ضلها (ظلها) مش للدرجة دي.
- والله غايتو، مش ولابد.
- إنتي مالك، فترانة؟ (عندما شعرت بأنها لا تريد الاسترسال في الحديث والإطالة فيه. فلقد كانت أجوبتها مقتضبة).
- آي والله، كنت أمبارح (البارحة) مساهرة في عرس في (بري).
وصل في هذا الأثناء الفوج الثاني من الطلبة، وازدادت جلبة المكان، وعلت صيحاتهم كغزاة المغول. فمنهم من يغني، وآخر يصفر. بدأت مجموعة من الطلاب في غناء جماعي اختلط فيه الصوت القبيح بالجميل، وتباينت فيه الأنغام، فشاهدنا في هذه الفترة أكثر مما تحدثنا.
كانوا يمرون علينا يلقون إلينا بالتحايا. بعض هذه التحايا قصد منه المشاغلة اللطيفة (يعني أيه الحلوة المعاك دي!)، وأكثر هذه التحايا كان موجها إليك ومقصود منه إبداء الظرف وخفة الدم – كما يقولون - وبعضها اعتباطا لا هذا ولا ذاك.
هدأ المكان نسبيا، فواصلنا ما انقطع من حديث:
- وين اليومين ديل؟! ما شايفك. وكيف عاملة؟ (أسئلة كلها لا تحوي معنى. لكن قصدت منها كسر جدار الصمت وتمهيدا للحديث).
- والله قاعدة بشوفك طوالي قدام كلية الآداب طالع نازل.
كاد الحديث أن يدخل منعطفا آخر يكثر فيه الكلام لولا ثقل دم أحد الطلاب من جامعة القاهرة فرع الخرطوم الذي كان يرافق صديقه من جامعة الخرطوم. دخلا علينا فجأة وقد أخذا بجمال الآنسة رباب، وبهرتهما بأناقتها فصارا عجوزين شهرباوين ثرثارتين فقدتا أسنانهما. شكا لساناهما من كثرة الكلام وناءت أعصابنا وأرهقت من جراء ثرثرتهما، لكنهما استمرا في الكلام يدعيان اللباقة والحنكة في إدارة دفة الحديث.
وفي غمرة حديثهما، جبدتها(جبذتها) من طرف ثوبها قائلا:
- يظهر ونستكم دي ما بتنتهي ولا حاجة؟! والجماعة ديل شنو؟!
- زي ما شايف (وغمزت إلي بعينها).
فهمست إليها قائلا:
- معجبين أظنهم. ألعبي بقلوبهم شوية، وخلينا نشوف.
ابتسمت ابتسامة رضا كحال بنات حواء حين تبدي إعجابك بإحداهن (والغواني يغرهن الثناء)، فتبدأ في الدلال المقصود الذي يظهر تعمده لغير المحب.
سلس حديثي معك، واجتمعنا كلنا في دائرة، وبدأنا الحديث مرة ثانية:
- الفطور يا جماعة. بيض، مربة ولا جبنة؟
- خدي يا رباب.
ناولتها سندوتشا عندما مر علينا أحد الزملاء المتطوعين لتقديم الفطور.
- شكرا يا أنور.
كثرت ثرثرة صديقينا اللدودين حتى حجبتني عن الحديث وألجمت لساني، فالتقمت (سندوتشا)، وتشاغلت به مدة طويلة علهما يتركان المواضيع السمجة التي قتلاها تناولا، ولا زالا يلوكانها. شعرت بامتعاض صديقتي. لكنها حال حواء لا تشتكي بشيء أمام آدم حتى يدير ظهره، ثم يرى منها ما تعجز عنه حتى الأبالسة نفسها (إن كيدهن عظيم).
لاذت رباب بالصمت هنيهة لتستعيد أنفاسها التي انقطعت من كثرة جذبهما إياها في بحر خضم من الكلام والنفاق، وأخذت الساندويتش ذريعة، وتشاغلت به دهرا. وتحركت بدوري تجاه قدور كبيرة ملئت ماء وثلجا لأحضر بعض الماء.
انصرفت عنهم لمدة. عدت بعد ذلك آملا أن يكونا قد توقفا عن سخفهما. لكني وجدتهما على ما هما عليه من سماجة في الحديث، وصفاقة عدوها حذلقة وحنكة في القول. فقد كانا أرذل شخصين!!!
يبدو – أخيرا – أن رباب قد آذاها النفاق، ووصل بها الملل درجة، فاستأذنتهما. ولم تعد إلا بعد ساعة من الزمان. عادت رباب، ولكنها كانت كئيبة، وقد فارقت النضارة وجهها خوفا مما ينتظرها من مسيخ الحديث، والمشاركة فيه.
- أنور تعال ناخد صورة.
ومضت هذه الفكرة في ذهنها أخيرا، فنطقتها شأن من عي عن الكلام دهرا، ثم أفصح فجأة وهو غير مصدق من هول المفاجأة. دنوت منها، وهمست في أذنها قائلا:
- ما باخد صورة مع واحدة شينة زيك؟ اتزيني واتقيفي شوية. سامعة ولا لا؟
ضحكت، وأغمضت عينيها في ضحكتها. هكذا كان دائما حالها عندما تغمرها سعادة، أو يعجبها ثناء جميل، وهو عند بنات حواء كل السعادة.
- بالله الكمرة فيها فيلم؟ ياخي ما تاخد لينا صورة سوا (هكذا كان استهلال صديقنا ثقيل الدم)
- (...............) لم أرد عليه. نظرت في اتجاه آخر كأني أقول فيها (قنبلة موقوتة).
لبست رباب حذاءها، وخرجنا نتمشى ثلاثتنا في الحديقة. كان ثالثنا صديقي الصومالي (حسن) الظريف الدمث الخلق.
- الحكاية شنو يا رباب. دا شنو الحقنة ده؟ أف.
واستطردت حديثي قائلا:
- أظنه ما جاي. (وقبل أن أكمل الجملة سمعت صوت حذائه من خلفي فلم التقت لعملي أنه هو. سبحان الله حتى الأرض كانت تئن من ثقل دمه!!!)
- أحسن نمشي جنب النيل ونخليه خلفية للصورة.
- والشاطئ التاني ده ياتا بلد؟
- دي العيلفون الحلوة.
- أيوه النيل كويس (كان ذلك تعليق السمج).
مررنا في طريقنا بإحدى مجموعات الزملاء الذين كان يحتسون خمرا بلدية شديدة الكحول (عرق). فلتت من رباب نظرة إليهم، ورأت ما رأت. فقالت باستغراب.
- أجي!!! (وكتمت دهشة بأعماقها)
- خليك بنت مؤدبة، وما تشوفي البخجلك.
- لكن ديل ما طلبه، وبالطريقة دي بينتهوا!!!
- خليهم اتدمروا ويشوفوا شبابهم. مالك بيهم. مبتهجين، وآخر فرفشة.
أخذنا الصورة الأولى وقوفا والنيل من خلفنا، والثانية جلوسا على الحشائش الخضراء، وكانت رباب وسطنا والتصوير بالدور علينا إلا هي لأنها كانت محور التصوير. فلم تأخذ الكاميرا طوال أخذنا للصور.
- باخد ليك صورة براكي (وحدك). كدى أقعدي هنا. (وفي دلال أنثوي جاءت إلى المكان الذي أشرت إليه).
- لكن هنا ما في شيء بقرصني؟! (كان المكان منخفضا من الأرض وبه حشائش كثيفة).
- يابت (يابنت) خليك سودانية مية المية. شنو البقرصني وما بقرصني. (فابتسمت).
- بسمة بالله بقرش ثاني (ازدادت البسمة اتساعا فصورتها).
- يا سلام الصورة ورا الشدرة (الشجرة) ديك، حتطلع حكاية مش معقولة، تجنن!!!
- جدا.
- آي (نعم) ورا الشدره ديك حتطلع قيافة (كان ذلك تعليق صاحبنا السمج).
- صورها أنت (وأشرت لثقيل الدم بتصويرها، ومددت إليه بالكاميرا، فصورها وكان حنقا لأنه لم يكن في الصورة معنا).
في طريقنا داخل الحديقة إلى مكان المقيل أخذنا صورا كثيرة ونحن نمشي الهوينى، ورباب تختال كعادتها وسطنا كمليكة بين حاشيتها، وقد عبق الجو أريج (البرتقال) و(اليوسف أفندي) ونوار الفواكه الأخرى فأحلاه، وانتشينا دون خمر.
- يا سلام..... عبده الصغير بغني. أسمعه بغني (بيتكم بوين)، وأشارت بسبابتها إلى مبعث الصوت. علت يدها قليلا لتأخذ نوارة أعجبتها، وهي في طريقها، فظهر من تحت ذراعها نهد تكور حسده برتقال الحديقة الغناء المروية على تكوره.
- والله الود ده صوته حلو جدا!!!
جلسنا قبالة الفنان الصغير، وازدحمت البرامج بالنكات والفن. شاركت زميلة من كلية الهندسة المعمارية كنا نسميها (ديجانقو) ببراعة وشجاعة أدبية أعوزت غيرها من الزميلات، وجلبت عليها تندرات الزملاء. لكنها كانت جريئة جدا رغم جور الطبيعة عليها من آلائها الجمة، ومقومات الأنوثة، ولمسات الجمال.
- في واحد بربري...
- قدمي الاعتذار (علت صيحات استنكار الطباخين والطلبة البرابرة)
- طيب مع الاعتذار. في واحد بربري (مستأنفة) عاوز يدخن جوا الجامع. قام واحد من المصلين منعه. رد البربري قائلا:
- ليه أصلو هو جامع ولا ترمبة (طلمبة - محطة بنزين). وضحك الجميع.
- برضو في واحد بربري...
- أيه! الحكاية شنو؟ ما في غير البرابرة. أيه ده كله برابره برابره (علق أحد البرابرة).
- برضو في واحد بربري غني جدا. بنى جامع وبعدين فلس. حاول كل الطرق عشان يحصل على شوبة فلوس وما قدر. دخل في يوم من أيام الجمعة الجامع قبل الخطبة واعتلى المنبر قائلا بزعل شديد:
- (الجامع ده مين بناه؟)
- قالوا: (الله).
- قال: (كده خلونا من حكاية الله دي. البناه مين؟)
- قالوا: (أنت).
- قال: ( اسمعوا يا تشوفوا لينا حاجة ولا بقطع راسه وبعمله مطبخ). وازدادت قهقهات الطلبة والعمال والمتفرجين.
- البنت العاملة زي الولد دي مني؟
- في واحد برضو بربري..
- بايخه.
- مع الاعتذار الشديد جدا للبرابره. كان بيشرك (يصطاد السمك) في النيل. رمى سنارته وكانت كل مرة تطلع بفردة جزمة – بدون مؤاخذه. كان بجانبه أحد الجنوبيين بيشوف في البحصل ده. فلما ضاق الجنوبي ذرعا من كثرة الأحذية قال:
- ياخينا، أنت أصلو مشرك (تصطاد السمك) بورنيج (بورنيش)؟
وانصرفت الزميلة وسط قهقهات الزملاء وضحكاتهم عليها قبل ضحكاتهم على النكات.
وشارك أحد الزملاء من كلية الاقتصاد بنكتة عن طالبين جنوبيين من طلاب جامعة الخرطوم فهما كلمة (متمردين) خطأ.
قال أحدهم لزميلة وهما يستمعان للمذياع:
- شارلس! ماذا يعنون بالممرضين؟ (لكنه نطقها خطأ وكان يقصد المتمردين)
"Charles! What do they mean by Momarideen?"
أجاب لوكا قائلا:
- حسب علمي, الممرضين هم الذين يعملون في المستشفيات.
"As far as I know, Momarideen" nurses" (mistaken for Motamarideen "rebels") are the people who work in the hospitals."
في طريقنا إلى الجامعة ركبنا حافلة المرسيدس التي كانت تتهادى بنا في شارع الإسفلت. وفي مؤخرة الحافلة بدأت مجموعة من الزملاء السكارى والمنتشين طربا في الغناء الذي كانت تتخلله بعض الزغاريد الحلوة من الزميلات عندما يصيح الطلبة (الريشة يا بنات) – أي زغردن يا بنات.
كان ثقيل الدم قد اختار مقعده بجوار رباب. جلست أنا وصديقي الصومالي من خلفهما. بدأ ثقيل الدم في عزف مقطوعات (بهارمونيكا) ليلطف الجو على مليكتنا، ويتزلف إليها، وهذا نوع آخر من غزو القلوب الشابة لم نعهده فيما بيننا.
أبدت رباب سرورها لذلك. لأنه – على ما يبدو – أراحها من الحديث السمج المسيخ وكفاها شره، فاسترسل في العزف عندما أحس باستحسانها للمعزوفات الموسيقية حتى كاد أن يغمى علينا. ضج من بالحافلة، ولكن السمج لم يتعب ولم ينصب.
أخذ صديقي الصومالي الهارمونيكا عنوة من ثقيل الدم، وبدأ يعزف عليها بغير دراية.
- دي ياتا مقطوعة يا حسن؟
- دي السيمفونية رقم (12) بتاعت بتهوفن.
- ها..ها.. ها.. لا سيادتك دي السيمفونية رقم (9).
- ما كلهم بتشابهوا (وضحكنا).
- أوريك يعني شعر جميل جدا ( قالها صديقي الصومالي بلهجة عربية مازجتها اللكنة الصومالية العجمى).
- كدي ورينا يا حسن يالصومالي؟
- نوال ورباب جننوني. يا بنات الجامعة أرحموني (ضحكنا ضحكة أثارت تساؤل رباب). فسألتنا قائلة:
- حسن قال شنو؟
- لا ما قال حاجة. دي نكتة من نوع خاص.
إجابة ظهر عليها الارتباك. لأنها هي المعنية ببيت الشعر. وعندما لم يجد صديقي الصومالي طريقة أخرى قال أحسن أعمل شعر. لأن هذا الثقيل لن يتركها تجاذبنا أطراف الحديث.
دخلنا (سوبا) والشمس قد آذنت بالمغيب في الأفق البعيد. بدأت كتائب النهار في التقهقر السرمدي، وانجلت معركة الليل والنهار الأبدية بانتصار الليل ووحوش جحافله السود كمردة الجن. وارتفع نداء الآذان من المساجد يعلن الصلاة والسلام على الأرض عبر الدهر، وهسيس السيارات على الإسفلت في كل اتجاه.
وصلنا الجامعة، فنزلنا من الحافلة. نزلت رباب، وتنفست الصعداء بنزولها. من يراها في تلك الحالة يقسم جازما أنها لن تذهب إلى رحلة أبدا بعد اليوم.
نزلت معها لأحمل الاسطوانات الموسيقية الكثيرة التي تكومت على حجرها. كان غرضي من نزولي معها التعليق على الأحداث.
- أيه المعجبين ديل كلهم كده دفعة واحدة!!!
- الله يلعنهم. مسخوا على الرحلة.
وأشاحت بوجهها في برم ظاهر. لم تودع ثقيل الدم، وانصرفت إلى بيت الطالبات.
عدت سعيدا ومبتهجا. وجرى نهر صداقتنا في الربيع بعدما تجمد في الشتاء المقفر الكئيب، وزال الزبد والطفيليات التي كانت عليه، وانحدرت مياهه متلألئة إلى مصبه المغمور في الأفق البعيد.