رؤية إستراتيجية لمناهضة الفساد والإفساد من منظور سياسي

 


 

 




بسم الله الرحمن الرحيم
•      رؤية إستراتيجية لمناهضة الفساد والإفساد من منظور سياسي.
•      استشرى الفساد والإفساد يوم جردت السلطة ديوان الحسابات من بعض اختصاصاته وأصبحت المراجعة الداخلية تتبع ادارياً لرئيس الوحدة المعنية
البروفيسور / البخاري عبدالله الجعلي
ذكرنا في مقالنا الأول الموسوم بالعنوان الرئيس لهذا المقال أن الحكومات تمارس في التاريخ المعاصر مدى واسعاً من المسؤوليات والإختصاصات والواجبات فيما يتعلق بإدارة شؤون البلاد. وأن الديمقراطيات ، على خلاف الأنظمة الشمولية التي تقوم على ديكتاتورية الحزب الواحد المسيطر على مقاليد الأمور في كل أركان الدولة كالتي مارسها نظام الإنقاذ ويمارسها حرفياً طوال ربع القرن الأخير، تتميز ،أي الديمقراطيات، مؤسسياً بقيود على الفعل الحكومي من حيث أن الديمقراطية توفر اجراءات حمائية وتدابير وقائية للأفراد والجماعات. وأنه لكيما تكون الديمقراطية فاعلة لابد من توافر ليس فقط مؤسسات وضمانات بل لابد من توافر ارادات وقناعات وتوجهات. والأصل أن تتوفر هذه الإرادات والقناعات لدى سلطة سيادية عليا هي الحاكمة لوطن بأكمله وليس لحزب واحد وكذلك في أجهزة تمثيلية منتخبه انتخاباً نزيهاً ونظيفاً ومحايداً بحيث لا تكون مجرد لوحه براقة واسعة قائمة على الصورية والطاعة العمياء للحزب المسيطر على كل مقاليد الأمور، بل تدرك وتنفذ وظيفتيها الرقابية والتشريعية على النحو الذي يمكن أن يبرر أن يطلق عليها صفة السلطة التشريعية.
بناء على ما سلف يمكننا القول أن العدل والإنصاف ملازمان و(متأصلان) Inherent في الديمقراطية وأن الفساد والإفساد نتاج طبيعي للشمولية. ولما كان حكم انقلاب يونيو 1989، قد انقلب على نظام ديمقراطي، بالرغم مما كان يعتري ذلك النظام الديمقراطي من عوار، فقد كان الطابع الغالب لحصاد النظام الذي أرساه ذلك الإنقلاب هو الفساد والإفساد وتلاشى العدل والإنصاف. ولعل بداية الفساد والإفساد عندما قررت حكومة الإنقاذ منذ أيامها الأولى رفع رقابة ولاية وزارة المالية على المال العام والتي انعكست في تجريد ديوان الحسابات الذي هو جزء لا يتجزأ من وزارة المالية من الكثير من اختصاصاته لمصلحة وزارات نافذه أخرى. وتبع ذلك تبعية مكاتب المراجعة الداخلية بالوحدات ادارياً لرئيس الوحدة ومهنياً وفنياً للمدير العام فانتهت بذلك وعلى نحوٍ صريح استقلالية المراجع الداخلي.
ثم أخذت صور الفساد والإفساد تتالى في صور وأشكال شتى فكانت ظاهرة تجنيب الأموال العامة خارج ميزانية الدولة التي ساهمت في ترسيخ ظواهر الفساد والإفساد المتمثلة في الرشوة والمحسوبية وفي فرض رسوم وجبايات على المواطنين بما يتعارض تماماً مع القانون وقيم العدالة والإنصاف. وكان لغض البصر والبصيرة عن حرفية قانون المشتريات واللوائح الصادرة بموجبه، أن يكون الحصاد الطبيعي مشتروات مضروبة وعقود انشاءات انتهت بسقوط مبانٍ حتي في داخل (حوشٍ) الوزارة التي من أوجب واجباتها منع ارتكاب الجريمة وكشفها وتقديم المجرمين إلى ساحات العدالة!! ثم كان الفساد والإفساد الذي ساد الأجهزه المصرفية والذي اتخذ صوراً عديدة لا يسمح المجال لسردها بالتفصيل. ومن المسلم به أن الفساد والإفساد في المجالات الزراعية قد انتهى بنا إلى تدمير أهم المشاريع الزراعية المروية في العالم وهو مشروع الجزيرة وطال الفساد والإفساد المبيدات والبذور المحسنة. ثم أين نحن من  الفساد والإفساد في سودانير وما أدراكم ما سودانير وخط هيثرو وما أدراكم ما خط هيثرو؟. وأين نحن من مؤسسة الأقطان وما أدراكم ما كان يجري في تلك المؤسسة العريقة. من جانب آخر كان الفساد والإفساد في ادارة شأن التعليم في السودان ابتداءً من أول السلم حتى التعليم العالي من حيث المناهج والهياكل والادارات والبيئات والترقيات الجامعية حيث أصبح كل السودان فجأة ودون سابق إنذار دكاترة وبروفسيرات وخبراء استراتيجيين وسوف يأتي يوم تفصيل كل ذلك في مقال لاحق إن شاء الله.
وأخيراً وليس آخراً كانت الطعنة القاتلة التي وجهها حكم الإنقاذ للخدمة المدنية عن طريق سياسة التمكين التي ابتدعتها. وما كان لكل هذا الدمار الماثل الذي تمثل بالنسبة للمواطن طالب الخدمة العامة المشاركة مضطراً في الفساد والإفساد. وما كان لكل ذلك أن يحدث في أفضل خدمة مدنية تركها الإستعمار البريطاني في بلد مستعمر لولا سيطرة الحزب الواحد على كل مقاليد الأمور في ديوان الدولة وعلى نحو باطش. سيطرة لا مثيل ولا شبيه لها حيث جعلت للحزب الحاكم (ممثلاً دائماً) في كل الوزارات والمصالح والهيئات ليراقب ويحاسب ويرقى ويفصل بالرغم من أنه في درجة وظيفية متدنية. فهو (المفوض السامي) High Commissioner الذي لا يخشاه الموظفون فحسب بل يخشاه ويتملقه ويدللـه حتى الوزراء والوكلاء ومدراء المصالح والهيئات العامة. إنها بدعة لم أجد لها مثيلاً في كل الأنظمة الشمولية التي بحثتها إلا في الذي فعله (ستالين) من حيث سيطرة الحزب الواحد وما يقترب بنا لسيطرة (الرجل الواحد) One – man control حيث السلطة المركزية واشاعة الخوف والسيطرة البوليسية انتهاءً بالإقصاءات غير المسبوقة والتعيينات غير المعهودة في الخدمة المدنية التي هي أساس دولاب العمل في الدولة.
إن تاريخ السودان المعاصر سجّل أن سلطة الإنقاذ، من أجل تفعيل التمكين والتسييس في الخدمة المدنية، قد أحالت بجرة قلم أكثر من عشرة من وكلاء الوزارات وعشرات السفراء من ذوي الخبرات والدراية والتخصص وآلاف من الموظفين مثل مجزرة الإذاعة على سبيل المثال لا الحصر. ولعلنا نذكر هنا أن حكومة الإنقاذ الأولى قد استدعت (كاتب هذا المقال) الذي كان آنذاك معاراً لحكومة دولة الكويت الشقيقة ليعود فوراً بلغة مفعمة بالتهديد بالمحاسبة، استدعته لمواصلة عمله وكيلاً لوزارة الداخلية. بيد أنه عاد فعلاً للسودان ولكن (لا) ليواصل عمله وكيلاً لوزارة الداخلية وانما ليقدم طلباً رسمياً (لإحالة نفسه) للمعاش الإختياري. فكان والحمد لله أول وآخر وكيل وزارة يحيل نفسه للمعاش الإختياري في ظل حكم الإنقاذ.
إن كل ما حلّ بالسودان من حجم فساد وافساد في العشرين سنه الماضية ما كان له أن يحدث بالحجم والكيفية التي حدثت بهما لولا تلاشى حكم القانون وانعدام المجتمع الديمقراطي. وهذا ما يقودنا بالضرورة للوقوف عند مبدأ واحد ولكنه هام جداً من المبادئ الحاكمة والمنظمة للخدمة المدنية وهو مبدأ تكافؤ الفرص في المجال الوظيفي. ونقصد بمفهوم تكافؤ الفرص ،الذي ألغي تماماً بموجب سياسة التمكين والتسييس، أن تكون ثمة شروط عامة مجردة لشغل الوظائف تسري على الجميع على قدم المساواة دون تمييز في هذا بين طبقة وأخرى. ومن مقتضى إعمال هذا المفهوم ألا يقتصر اعماله بالنسبة لطبقة واعفاء طبقة أخرى منه إذ أن هذه المغايرة تقوض مبدأ تكافؤ الفرص بين المتقدمين لشغل الوظيفة العامة. ويترتب على مخالفة مبدأ تكافؤ الفرص أن يصبح القرار الصادر في هذا الشأن قراراً غير مشروع لأنه خالف أحكام القانون. وبالتالي وبناء على ذلك فإن مبدأ عدم المشروعية ينسحب على وجه الدقة على كل الذين أقصتهم سلطة الإنقاذ من وظائفهم بسبب تمكين من ينتمون لحزبها بصرف النظر عن مؤهلاتهم أو خبراتهم أو مهنيتهم. ومن المهم التذكير أن الكثير من دساتير العالم تضمنت صراحةً نصوصاً تقضي بتبني مبدأ تكافؤ الفرص، بل حتى دستور 2005 الإنتقالي، على ما انطوى عليه من عوار وعيوب، قد نص صراحةً في المادة (7) على أن "تكون المواطنة أساس الحقوق المتساوية والواجبات لكل السودانيين". ويظل السؤال الملح هو: هل الذين لا ينتمون للمؤتمر الوطني بل وحتى الذين يعارضونه صراحةً ليسوا مواطنين سودانيين بحيث يحرم عليهم تبوء الوظائف العامة؟.
نعلم ويعلم الكثيرون أن الإنقاذ رفعت من بين ما رفعته من شعارات "هي لله .... لا للسلطة..... ولا للجاه" وهو شعار من حيث المبنى والمعني شعار مقبول ومحمود ومطلوب. ولهذا السبب فإن كاتب هذا المقال يريد أن يحج نظام الإنقاذ بحجته وتأسيساً عليها. إن من المسلم به أن النظام الإسلامي يقوم على أسس ديمقراطية يخضع الحاكم فيه والمحكوم على حدٍ سواء لكافة القواعد القانونية التي نظمها الشارع ، فإذا ما خرج الحاكم عن هذه القواعد حق عليه الجزاء المقرر أسوة بالمحكومين. كما يترتب على خروجه عن هذه القواعد ابطال القرارات المتعلقة بها وعدم التزام المحكومين بها إعمالاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق". ولا تقتصر المخالفة في نظام "هي لله .... لا للسلطة..... ولا للجاه" على الخروج على صراحة النصوص القانونية بل المخالفة لكل معايير الكفاءة والخبرات والمؤهلات العلمية الراقية. بل يمتد مفهوم هذه المخالفة إلى صورة اساءة استعمال السلطة بحيث يلحق القرار الذي يصدر على هذه الصورة ما يلحق القرار المخالف لصراحة النصوص القانونية.
والحق إن الإنقاذ قد أساءت استعمال السلطة وفقاً لمفهومها القانوني الامر الذي يحتم البطلان الكامل لكل ما تم اجراءه باساءة استعمال السلطة. والقانون الوضعي يتطابق تماماً مع شعار"هي لله .... لا للسلطة..... ولا للجاه" إذ أن الإختيار في القانون الوضعي يجب أن يقوم على مبدأ اختيار أصلح من يقوم بأعباء الوظيفة والسؤال الذي يفرض نفسه: هل أتت الإنقاذ بالأصلح من الذين أحالتهم بحجة الصالح العام أم أتت بأولاد (المصارين البيض) الذين دمروا الخدمة المدنية المعروفة في السودان كما اعترفت بذلك أخيراً؟ وهاهي تبحث عن الذين أقصتهم لتعيدهم للخدمة كما هو ثابت في وزارة الخارجية على سبيل المثال لا الحصر بعد أن ثبت فشل كوادرها في الكثير من المواقع والمهمات. إن آلاف الخريجين هائمون على وجوههم والأحسن حظاً منهم يعمل سائقاً لـ (ركشة) أو يعمل (كمساري) في الحافلات إذ لا مجال له للعمل في الخدمة العامة أو شركات النفط وما شابهها من مؤسسات. فأين نحن من العدالة التي تؤمن بأن مبدأ تكافؤ الفرص من الأسس الجوهرية التي يقوم عليها نظام الإختيار لشغل الوظائف ولا ينظر في ذلك إلى اعتبارات حزبية أو طائفية أو انقاذية.
أوليس من الضروري أن نذكّر أنفسنا في هذا الصدد بقول الرسول صلى الله عليه وسلم : "من ولي من أمر المسلمين شيئاً فولى رجلاً وهو يجد من هو أصلح منه فقد خان الله ورسوله". ومن المسلم به أن الأفضلية تقاس بمعيار عادل مجرد فلا تقوم على أساس من محاباة أو علاقات شخصية أو حزبية أو "مصارين بيض". وانما تقوم على أساس الأكفأ والأكثر صلاحية. وهذا الإتجاه الرسالي يرتد أساساً إلى أصلين من الأصول العامة التي يقوم عليهما نظام الحكم الديمقراطي الذي يتطابق تماماً مع النظام الإسلامي، وهذان الأصلان هما مبدأ العدالة ومبدأ المساواة. فثمة آيات كثيرة من القرآن الكريم وأحاديث نبوية شريفة متعددة تدل علي (مبدأ العدالة) من ذلك ما جاء بالقرآن الكريم " إن الله يأمر بالعدل" . "وإذا قلتم فأعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذّكرون". وقوله: " يا ايها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا". وقوله: " يا أيها الذين آمنو كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرِمنّكم شنئان قوم على ألا تعدلوا إعدلوا هو أقرب للتقوى واتقو الله". ويقول النبي صلى الله عليه وسلم" إن أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأقربهم منه مجلساً إمام عادل وإن أبغض الناس إلى الله يوم القيامة وأشدهم عذاباً إمام جائر" فأين نحن من كل هذا وذاك؟.
إن ما يسعى له هذا المقال وكذا المقال الذي سبقه والذي قد يليه في فرصة لاحقة لطرحه إن شاء الله هو أن كل ما فعله نظام الإنقاذ بالخدمة المدنية في السودان تحديداً ما كان لله بل كان لتمكين سلطة واضحة وكان لحصول جاه بيّن لأنه جاء متعارضاً مع الدستور الذي أبرمته حكومة الإنقاذ ذاتها فضلاً عن أنه جاء لتخطي الأصلح وهذا ما عُدّ بنص الحديث الشريف خيانةٌ لله وللرسول. اللهم قد بلغت فاشهد.

teetman3@hotmail.com

 

آراء