سلسلة مقالات تعريفيَّة (2) .. محمد المكِّي إبراهيم: نُبذة تعريفيَّة عامَّة

 


 

 

يتَّسِمُ الشَّاعر السُّوداني مُحمَّد المكِّي إبراهيم، في جِمَاعِ شِعْرِهِ، بِنَفَسٍ غِنائيٍّ عالٍ مُستَمَدٌّ، فيما أحسبُ، من طيبَ فوحِ ريحانِ ريح بلدهِ الريفيِّ القديمَ الأصلِ وكنز حبِّ ناسه وأهله الذين لا تفتأ جذوةِ نار مجاذيبهم المُبارَكةَ، الخالقةَ، تتفتق فيه شعراً مُنتمياً بيقينٍ، كما يَتأسَّسُ ذاك الشِّعرِ على قاعدةِ أقنوسِ ثلاثيّة وعيٍّ وحٌلٌمٍ وغضبٍ إنسانيٍّ نبيلٍ مُتوقّدٍ بوهج حبِّ الوطن وبسطاء الأهلْ. ويَعتزٌّ ذاكَ الشِّعرُ، أيَّما اعتزازٍ، بسودانيِّتِهِ الأصيلة الصميميّة المُتجذّرِةِ، على الأخصِّ، في التَّاريخِ الحضاريِّ النُّوبيِّ الباذخ العريق، ثُمَّ المفعمة، رُغم سوداويّةِ الشّاعرِ الآنيَّةِ الآسيةِ البادية في بعض قصائدهِ الرومانسيّة التَّقدّميّةِ المُحلِّقَة، في جذرها وفي خاتمةِ مِسْكِها الغِنَائيِّ العابق، بتفاؤلٍ أصيلٍ ومؤسّس الحدس والرؤيا بمستقبل وطنه السودانيِّ الكبير وبإمكانِ إنجازه لقفزاتٍ جديدةٍ وأكيدَةٍ على سبيلِ تَقَدُّمُهِ ورُقيِّهِ الحضارِيْ.

لا شكَّ- نقُولُ- في أنَّ مثل ذاك الإيمان والتفاؤل الحدسيِّ والرؤيوي الجّذريِّ بالمستقبل هو أشدَّ ما يحتاجه الوطن السوداني الكبير في هذا الزّمانِ المِفْصَلِيِّ في تاريخه الحديثِ حيثُ يُواجُهُ بمزيدٍ من أوباء واوجاع ومخاطر التشرزُمِ والإنفصال وحروب الهويَّاتِ الضّرُوس التي ابتُلي بها، وما يزالُ، ذلك الوطنُ الجميلُ، المُعَزَّزَ بِجِمَاعِ أهله المُزيَّنينَ، دوماً، بقلائدِ السّلامِ والطيبة والمحبّة.

وُلدَ الشَّاعرُ السُّودانِيُّ محمَّد المَكِّي إبراهيم في مطلع العام 1939م بمدينة الأُبيِّضِ، عاصمة ولاية كُردفان بغرب السودان، وفي بيتٍ عزٍّ معرفيٍّ مؤثَّلٍ وراسخَ الأساس على جذور عائلةٍ انتمت، وما تزالُ، لإرثٍ دينيٍّ إسلاميِّ إسماعيليَّ صوفيَّ باذخَ السّماحِ والبَرَاحِ في تعامله الإنسانيِّ مع الآخر الاجتماعيِّ والثَّقافيِّ المُختلف. وقد كان محمد المكِّي إبراهيم، منذ ريعانِ صباه وشبابه الباكر، مُصْطَفَىً، بين أندادِهِ، بالتّمكُن الرّصينِ من اللغتين العربيّة والإنجليزيّة وبموهبتِهِ التخييليّة الفذّة التي مَيَّزتَهُ بغنائيِّةٍ شعريَّةٍ راقيةٍ ومُكثَّفةٍ بالرّمزِ المُمَازِجِ فيما بين الحبيبة والوطن وفيما بينَ الافتتان بسحر المرأة وأداءِ سجْدَةِ الوجدِ العاشق العميق عِنْدَ حَضْرَةِ جنابِ الوطنِ السوداني العربيِّ-الأفريقيِّ الكبير.

كان الشَّاعرُ السُّودانيُّ محمَّد المكِّي إبراهيم، وما يزالُ، حريصَاً، في جُلِّ كتاباته الشعريّةِ والنّثريَّة المتمثلة في دراساته ومقالاته العديدةِ عن الثقافة والسياسة السودانيّة كما والإنسان السّودانيِّ في جِماعِ خصاله وخصائصه الآفروعربيَّة الفريدة، على إرثِ القصيدةِ الكلاسيكيَّةِ العربيَّةِ الأصيلةِ ومُستلهِمَاً له، بانميازٍ وانتباهٍ مضيءٍ، في إغناءِ كتابتِهِ الشعريّةِ الإيحائيّةِ الحديثةِ. وقد تجسَّدَ ذلك عِنْدَهُ في إنشاءِ قصيدته الجديدة ذات القاموس الشّعريِّ الخاص الجّزل العذوبةِ والقائمة على نسجِ شعر التفعيلةِ الحداثيِّ البناء والتراكيب والأخيلة دُونَ أن تُفَاصِلَ، تَمَامَاً، بناء القصيدةِ العموديِّة المِحْفَلِيَّ النّبرةِ والنَّفَسِ والإيقاع، الشيءُ الذي يُصيِّرُهُ شاعراً عربيَّاً (وأفريقيَّاً) رائداً لحركةِ الحداثةِ الشعريّة العربيّة (والأفريقيَّة) الزَّاخرةَ العطاء والتّجدُّد الخلاق، شأنُهُ في ذلك شأن مُجَايِلَيْهِ الشاعرين العربيين الكبيرين صلاح عبد الصّبُور وأحمد عبد المُعطي حجازي.

ونُثبتُ للشاعر السُّوداني محمد المكِّي إبراهيم، في هذا المقام، أنّه كان من المؤسسيين الأساسيين للمدرسة الشعريّة السودانيّة التي اصطلح نُقّاد الأدب، فيما بعد، على وسمها باسم "مدرسة الغابة والصحراء" في الشعر السّودانيِّ وذلك لتوكيدها على مرموزات الامتزاج العربي الأفريقي في جماعِ الثقافة، بل الثقافات، السودانيّة المحتفية بالتعدُّدِ الآسر الخلاق. كما وللشاعر السُّوداني محمد المكّي إبراهيم، بجانبِ كونه شاعراً مبدعاً وشجيّاً، سهمٌ وافرٌ في مجال النقد الأدبيِّ المُتبصّر الحصيف الذي أثمر، في حديقة الإبداع الفكريِّ السودانيِّ الوارفة الظلال، فاكهةً عميمةً منها، على سبيل المثالِ، كتابه المُسمَّى "الفكر السّوداني: أصوله وتطوّره" والذي تلمّسَ فيه، بفكرٍ موضوعيٍّ وحسٍّ فنِّيٍّ ثاقبٍ وذكيٍّ، مواضع السّحر الفاتن والجمال، كما ومواضع الضّعف الفكريِّ والتخييليِّ والفنيّ في ذات الوقتِ، في مُجملِ النتاج الفكريّ والأدبيِّ السودانيِّ الحديث.

وللشاعرِ، والدبلوماسيٌّ، السُّودانيِّ محمَّد المكِّي إبراهيم حنينٌ وأسىً دفينٌ مُترعٌ بأشواقِ الأوبةِ إلى القريةِ والرّيف السودانيِّ الكردفانيِّ الذي شهد مراتع صباه وملاعب طفولته المُعطّرةَ سماواتُها بشذى المديحِ النبويِّ الشّفيفِ، بعذُوبةِ هواء وجُواءِ الأهل والبيتِ الأليفِ، كما وبـ"روائح الطعام والضيوف" و"الجارة التي يرفُّ بالشبابِ وجهها الصّبُوح". لكنَّ كُلَّ ذلك الحنينُ والأسى لا يرتكسُ بشاعرنا، أبداً، كما قد يُخشى، إلى التَّمجيدِ المُتعصّب والجّامد والأعمى لكّلِّ ما هو قديمٌ وبالٍ وتالد في الحياة الريفية العتيقة إذ هو يستمسكُ دوماً، في جوهرِ شعره وكتابته الجديدة، برؤيا المستقبل المشرق والتطلّع، في إيمانٍ راسخٍ مديدٍ، لبُشرياتِ الغدِ الواعدِ الفَتِيْ. وقد نَاثَرَ الشَّاعر محمَّد المكِّي إبراهيم كُلَّ ذلكَ الحبَّ الصميميَّ والفكرَ النبيل الصادحَ الوجدِ والغناء في أربع مجموعات شعريّة هي: أمّتِي (1968م)؛ بعضُ الرّحيقِ أنا والبُرتقالةُ أنتِ (1972م)؛ يختبئُ البُستانُ في الوردةِ (1984م) وفي خباءَ للعامريّة (1988م). ذلك بخلاف ما لم ينشر له من شعر على هيئة مجموعةٍ، أو مجموعات، شعريَّةْ.

إنَّ عالمَ شاعرنا الدبلوماسي محمد المكّي إبراهيم لعالمٌ شديد الوُسع والرحابةِ والتنَوُّعِ والغني يمتزجُ فيهُ الدّمُ بالفكرِ والوجدِ التخييليِّ البديع ولا يسعه، قطعاً، تقديمٌ نثريٌّ موجزٌ مثل هذا الذي سعيتُ الآنَ على سبيلهِ. لذا سأكتفي هُنَا بِخَتْمِ نُبذتِي البسيطةِ الصَّغيرِةِ هذه عنه بإيراد كامِلِ قصيدتِهِ المجيدةِ الشَّهيرة المُسمَّاة "بعض الرَّحيقُ أنا والبُرتُقالةُ أنتِ" التي تتجلَّى فيهما "نكهَةٌ" مُركَّزَةٌ، كما أحسبُ، من جِمَاعِ فَوحِ، وبَوحِ، أنفَاسِ شِعرِهِ:

بعض الرحيق أنا والبرتقالة أنت

محمَّد المَكِّي إبراهيم

الله يا خلاسيه
يا حانةٌ مفروشةٌ بالرمل
يا مكحولة العينين
يا مجدولة من شعر أغنية
يا وردة باللون مسقيّه
بعض الرحيق أنا
والبرتقالة أنت
يا مملوءة الساقين أطفالا خلاسيين
يا بعض زنجية
يا بعض عربيّه
وبعض أقوالي أمام الله

***

من اشتَرَاكِ اشترى فوح القرنفل
من أنفاس أمسية
أو السواحل من خصر الجزيرة
أو خصر الجزيرة
من موج المحيط
وأحضان الصباحية
من اشتراك اشترى
للجرح غمداً
وللأحزان مرثية
من اشتراك اشترى
منى ومنك
تواريخ البكاء
وأجيال العبودية
من اشتراك اشتراني يا خلاسيه
فهل أنا بائع وجهي
وأقوالي أمام الله

***

فليسألوا عنك أفواف النخيل رأت
رملاً كرملك
مغسولاً ومسقياً
وليسألوا عنك أحضان الخليج متى
ببعض حسنك
أغرى الحلم حوريه
وليسألوا عنك أفواج الغزاة رأت
نطحاً كنطحك والأيام مهديه

***

ليسألوا
فستروى كلُ قمريه
شيئاً من الشعر
عن نهديك في الأسحار
وليسألوا
فيقول السيفُ والأسفار.

***

يا برتقالة
قالوا يشربونك
حتى لا يعود بأحشاء الدنان رحيق
ويهتكون الحمى
حتى تقوم لأنواع الفواحش سوق
والآن راحوا
فظلّ الدن والإبريق
ظلت دواليك تعطى
والكؤوس تدار

***

هزي إليك بجذع النبع
واغتسلي
من حزن ماضيك
في الرؤيا وفي الإصرار
هزي إليك
فأبراج القلاع تفيق
النحل طاف المراعى
وأهداك السلام الرحيق
الشرق الأحمر
والنعمى عليك إزار
نجري ويمشون للخلف
حتى نكمل المشوار

***

طاف الكرى بعيون العاشقيك
فعادوا منك بالأحلام
ما للعراجين تطْواح
وليس لأطيار الخليج بغام
النبعُ أغفى وكلّ الكائنات نيام
إلا أنا
والشّذى
ورماح الحارسيك قيام.

***

متى تجاوزتهم
وثباً إليك أجئ
شعري بليل
وحضني بالورود ملئ
فلتتركي الباب مفتوحا
وحظي في الفراش دفئ
ولتلبسي لى غلالات الشذى
وغناء النبع والأشجار
فلي حديث طويل
مع نهديك في الأسحار
يا برتقاله
ساعات اللقاء قصار
تأمليني في الصباح أطلْ
البحر ساجٍ
وتحفافُ النخيل غزل
وبركة القصر بالنيلوفر ازدحمت
والنحل أشبع كاسات الزهور قبل
وانثنى الآن أزهى ما أكون
وأصبى من صباي
ومكسياً من النور الجديد إزار
تأمليني فإن الجزر أوشك
- إني ذاهب-
ومع المدّ الجديد سآتي
هل عرفتينى؟
في الريح والموج
في النوء القوى
وفي موتى وبعثي سآتي
فقولي قد عرفتينى
وقد نقشت تقاطيعي وتكويني
في الصخر والرمل ما بين النراجين
وإنني صرت في لوح الهوى تذكار

***

والآن
لا شابعاً من طيب لحمك
أو ريّان منسكب نهديك أمضى
عديني أن ستدعونى
إلى فراشك ليلا آخر
وتطيليه علىّ بشعرك
في زندي
ولونك في لوني وتكويني

***

فنيتُ فيك فضميني
إلى قبور الزهور الاستوائية
إلى البكاء
وأجيال العبودية
ضمي رفاتي
ولفيني بزندك
ما أحلى عبيرك
ما أقواك
عاريةً وزنجية
وبعض أقوالي أمام الله.

 

لندن، أغسطس 2011م
إبراهيم جعفر

khalifa618@yahoo.co.uk

 

آراء