سودانيون في (القارة المنسية)
عُدت أدراجي بعد زيارة امتدت زهاء الثلاثة أسابيع إلى أُستراليا أو (القارة المنسية) كما يطلق عليها البعض، نظراً لبُعدها الجُغرافي نسبياً من بقية قارات العالم. كانت تلك الزيارة بدعوة كريمة من (منظمة سوداناب الثقافية) والتي بدورها تواصلت مع ناشطين آخرين في مدن مختلفة على مستوى القارة، وذلك لكي يكون البرنامج شاملاً يستفيد منه أكبر عدد من الراغبين. وفي هذا الإطار تسنى لنا عقد ست ندوات، بدءاً بالعاصمة سيدني التي شهدت الندوة الأولى بعنوان (المُثقف والسلطة) كما شهدت سيدني نفسها الندوة الختامية، بينما توزعت الأربع ندوات الأخرى على مدن ملبورن وبرسبين وكانبيرا وبيرث، والأخيرة هذه تقع في أقصى الساحل الغربي. وكانت عناوين تلك الندوات قد تقاسمت الأزمة السياسية السودانية الراهنة والمستفحلة في ظل العُصبة ذوي البأس الحاكمة، وذلك بتناول جذورها وحاضرها ومآلاتها التي انعكست سلباً على الوطن ومواطنيه!
(2)
لقد لفت نظري في جميع الندوات الحضور النوعي للذين تقاطروا على الصالات التي استضافت الفعاليات. وهو حضور عكس بحق التنوع الثقافي السوداني المشهود في اتجاهاته الجغرافية المعروفة، بل فاجأني في بعض الندوات حضور عدد من الإخوة الجنوبيين، في بادرة تنم عن أن الانفصال الجغرافي لم يقف حائلاً في التواصل بين الشعبين، علماً بأن ذلك هو الأمر الطبيعي إلى أن تقضي الظروف أمراً كان مفعولاً. بل في ذات الصدد لعل الذي أثلج صدري حد الانتشاء، وجود الإخوة الأقباط أين ما حللت. وأنا على يقين بأن هذه اللوحة التي أحاول تجسيدها، سوف تهيج أشجان البعض، ممن عاشوا الزمن الجميل ونعموا برؤيتها عياناً بياناً في الفضاء السوداني المفعم بالعواطف الجياشة، ذلك كان واقع ينبئ بمستقبل باهر ينتظر البلد الأمين، ولكن بمثلما تفعل العواصف الهوجاء، هبط علينا الجراد الصحراوي بغتةً، وأحال طموحاتنا وأحلامنا لسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء!
(3)
صحيح أن أنظمة الطواغيت التي عاثت في السودان فساداً، عملت على تفريغ البلاد من أهلها، فيمم الناس وجوههم شطر دول العالم - غنيها وفقيرها - في هجرة جماعية لم يشهد السودان لها مثيلاً في تاريخه القديم والحديث. وفي خضم هذه التداعيات المفجعة، كان هناك أخوتنا الأقباط الذين تضاعفت محنتهم، ليس بسبب ضيق في العيش فهم ميسورون والحمد لله، ولا لأن أياديهم قصُرت عن الوطن وأصبحت مغلولة إلى أعناقهم، فهم معطاؤون بلا شك، ولكن بسبب قوانين سبتمبر سيئة الصيت التي استهدفتهم كأنهم حُمُر مُستنفِرة، ثم جاء (الدجاجلة الملتحين/ ذوي السحنة الزائفة) كما قال عالم عباس، ليواصلوا بعثرتهم في كل وادٍ، فهاجروا زرافات ووحداناً يلتمسون رزقاً في فجاج الأرض، ومن بين البلدان التي قصدوها كانت استراليا التي شهدت استقرار أعداد كبيرة منهم، فتوفرت الفرصة مرة أخرى لمواصلة ملحمة التنوع الثقافي أو السهل الممتنع الذي حُرمنا منه عُنوةً داخل أسوار الوطن!
(4)
لمست ذلك في الأحاديث المتناثرة عن ابتكار ما سُمي (يوم السودان) وهم الأكثر سهماً في تنظيمه، ذلك ليس بغريب فكل ما يمكن أن يجعل وطن الجدود ماثلاً في الفكر والخاطر هم يتبارون في إعلاء شأنه. فاليوم المشهود من الآلاف هو عبارة عن برامج ثقافية اجتماعية تحتوي على فقرات جاذبة حتى لغير السودانيين من الجاليات المختلفة الذين يقبلون عليه بأعداد غفيرة من الأسر متعددة الأجيال وكذا الأفراد، وبغير عكس التنوع الذي كان يُرجى أن يرفل السودانيون في عليائه، فلهذا اليوم (يوم السودان) مآرب أخر. بالقدر نفسه أسعدني أن الحوارات والنقاشات التي توالت في تلك الندوات كشفت عن وعي سياسي عميق بقضية الوطن، ينبئك أن الوجوه التي أرهقها الترحال، ظلت تحمل هذه القضية وهناً على وهن. منهم من طرح أسئلة كثيرة حائرة لا أنا ولا السائلين نملك من أمرها نصباً، ولعل أكثرها شحذاً للهمة وقدحاً للوجدان.. هل سيمضي على أجيالنا القادمة حين من الدهر في هذه (الديسابورا) اللئيمة، ونراهم يخلعون وطناً ويرتدون وطناً آخر؟ وهل سيتغير جدل الحاضر ليصبح البحث في أضابير (الهويات السودانية) أم سيصمد جدل (الهوية السودانوية) كفاحاً؟ من يدري يا سائلي وقد ارتسمت في الجبين علامة استفهام وانطوت في القلب حسرة!
(5)
ثمة آفة نشكو نحن السودانيين منها في دول المهجر، وهي ظاهرة الانشقاقات والانقسامات في إطار أي عمل تنظيمي. تلك لمستها ورأيتها في أي ولاية أمريكية زرتها، وكذلك في كندا ودول أوروبا، إذ لا يحلو للناشطين العمل إلا في جو مليء بالخلافات وهذه أصبحت ظاهرة سودانية جديرة بالتأمل، إما إن شئت الدخول في هذا المعترك لمعرفة الأسباب، فقد يذهل المرء حينما لا يجد أسباباً منطقية، وغالباً ما يكون الأمر محض شخصنة للقضايا تعجز من يحاول أن يداويها. ذلك أمر لم أجد له أثراً في كل المدن الأسترالية التي زرتها، بل حتى التي لم أصلها وقد سألت فلم ألمس لهذا الوباء موطناً عندهم. غير أن بعض المدن بدأت تتململ من تغول السفارة التي افتتحت حديثاً وبدأت تنشط أمنياً، والحقيقة أن ذلك قول لا يحتاج لتبيان إذ إن فتح سفارة في أستراليا هو تأكيد لهدر المال العام، فأستراليا ليست لها تمثيل دبلوماسي مع السودان، مما يؤكد أن طبيعة الوجود الأمني هي الصفة الغالبة!
(6)
من المفارقات أن التفسير الأمني أعلاه تماثل مع تأكيد لطالما ذكرته مراراً وتكراراً في كل الندوات، وهو أن الأزمة التي نعيشها في السودان منذ ثلاثة عقود زمنية، جراء أفعال النظام الشمولي الديكتاتوري، ليست أزمة سياسية أو اقتصادية كما يدَّعي سدنته، بل هي أزمة أخلاقية، وبالتالي ينبغي أن تكون المواجهة مع النظام مواجهة أمنية بذات الداء، وتلك حقيقة اعترف بها النظام ولا يداريها، ذلك في تأكيده تخصيص الجزء الأكبر من الميزانية والذي يبلغ نحو 70% للأمن والدفاع، وتلك سنة فاسدة درج عليها منذ العام 1989 أي عام وصوله لسدة السلطة، بل لقد زاد الأمور ضغثاً على إبّالة بعد تكوين ما سُمي (قوات الدعم السريع) لحماية شخص واحد يتربع على عرش السلطة بصورة فاحشة وبلا حياء. ذلك ما حدا بنا أن ننشط في مضمار خلخلة أجهزة الأمن بإصدارات الكتب الثلاثة الأخيرة (الخندق/ العنكبوت/ الطاعون) وكلٌ منها اسماً يطابق مسمى الأجهزة الأمنية التي اختص بفضحها!
(7)
بما أن الشيء بالشيء يذكر فقد أسعدتني لوحة أخرى تمثلت في تلاحم سوداني إريتري، ظهر ذلك مناصفة في حضور ندوة مدينة ملبورن. فرحت لرؤية وجوه أرهقها القتر من الأصدقاء القدامى، فهم كما العهد بهم تراهم ماضين نحو هدفهم، فلم ييأس السُواس ولا تعبت الخيول من طول السفر. فإريتريا بلد فارقته كما فراق الجفن للعين، ثمَّ وسدته قلبي. حاولت في الندوة أن أعرج على وجعها الأزلي لعلي واجد كلمات تضمد جراحها. قلنا دون توغل إن ما يجري في دول القرن الأفريقي حتماً سيكون له انعكاساته على السودان، وذلك بمنطق الجسد الواحد. وأمنَّا على أن التطورات التي حدثت بين أثيوبيا وإرتيريا وما صاحبها من تداعيات دراماتيكية سيكون لها انعكاساتها على كل دول القرن الأفريقي بذات المنطق. مع التأكيد على أن التطورات التي أنتجت تفعيل اتفاقية السلام بعد نحو عشرين عاماً من الجمود، لن تمضي إلى نهاياتها المنطقية ما لم تُسند بخطوات جادة في مصالحة وطنية في كلا البلدين. ذلك ما أقدمت عليه أثيوبيا بخطوات عملية، في حين أن إريتريا كما العهد بقيادتها تصُم أذنيها كأن الأمر لا يعينها في كبير شيء!
(8)
صفوة القول لماذا الندوات؟ إن الإجابة الحاضرة في ذهني باختصار هي أن الندوات تشعرني بالتواصل المباشر والحوار مع الآخر، ولهذا أجدها فرصة في استعراض الخطوط العريضة لإصداراتي من الكتب، حتى اتيقن من ردود الفعل. وتلك غالباً ما تكون محاولة لخلق علاقة حميمة ومباشرة مع القارئ. في حين أن المقالات التي ننشط فيها كذلك تبدو كمن تحاور شخصاً بينما بصره شاخص نحوك كأنه يراقبك وأنت لا تراه. من هذه الزاوية فأين ما رأيت وجوداً سودانياً ضربنا له أكباد الطائرات بلا منٍ أو أذىً، ويسعدني بكل فخر القول إن الظروف قيضت لي عقد أكثر من ستين ندوة خلال عقد ونصف، قدمتها في عدة مدن أمريكية وأوروبية وكندية بالإضافة للمدن الأسترالية، وبعض هذه المدن المذكورة شهدت ندوات مضاعفة، أي مثنى وثلاث ورباع، ولكن بلا تلك المقارنة البائسة التي ابتذلت العصبة فيها المرأة بهذه الأرقام!
(9)
ختاماً إن كان لهذه الندوات مردود شخصي فقد تمثل في تلك الوجوه التي التقيها. يسعد المرء وهو يرى وجوهاً غابت عنه في ظلام الغربة القسرية التي رزئنا بها ونحن نتوه من منفى إلى منفى، وتتضاعف سعادتي وأنا أرى وجوهاً نشأت بيننا علاقة إسفيرية حميمة اشتعلت حباً ووعداً وتمنى. ووجوه أخرى تراها للمرة الأولى وتشعر كأن ما بينكما تلال من المحبة تراكمت طبقاً عن طبق. تلك وجوه تنضح بشراً وفي سمائها تفاؤل بغدٍ مشرق لن يطول أمده. أفواههم تفتر دوماً عن ابتسامة وبعض كلام. وددت أن أذكر تلك الوجوه فرداً فرداً لولا أن المكان يتقاصر مساحةً والمقام يتضاءل تواضعاً، فلهم مني ما يعجز لساني عن ذكره، وعقلي عن تذكره. إذ إن بيننا وطناً عظيم، أعطانا ما نفخر به... هوية إن شُغلنا بالخُلد عنها، نازعتنا إليها في الخُلد نُفوسنا!
آخر الكلام: لابد من الديمقراطية ولو طال السفر!!
faldaw@hotmail.com