سيطول انتظار انهيار السُّودان (٢/٢)
الدكتور قندول إبراهيم قندول
5 December, 2022
5 December, 2022
jbldameek@gmail.com
انتهينا في المقال الأول بخلاصة أنَّ السُّودان فاشل. عنوان المقال في حد ذاته مستفز للذين يروِّجون أنَّ السُّودان مقدم على حرب أهليَّة وكأنَّ الدائر فيه الآن ليس بحرب أهليَّة. بيد أنَّه وردت تعريفات عدة للحرب الأهليَّة منها أنَّها: "نزاع شديد العنف ومنظَّم بين عدة أفراد أو جماعات داخل دولة واحدة، وغالباً ما تشارك في هذا الصراع القوات النظاميَّة فعليَّاً أو بغض الطرف عما يجري بين السكان، وكأنَّ الأمر لا يعنيها من قريب أو بعيد". نموذج مشاركة القوات النظاميَّة بالفعل تمت ولا تزال تجري في دارفور بواسطة قوات الدعم السريع التابعة للفريق محمد حمدان دقلو المعروف ب "حميدتي"، نائب رئيس مجلس السيادة. يا للأسف الشديد، تنشط قوات الدعم السريع والدفاع الشعبي هذه الأيام في جبال النُّوبة وفي إقليم الفونج الجديد (النيل الأزرق). وبأدق عبارة نشير إلى الأحداث التي وقعت في مدينة "الياواك" - المعرَّبة إلى "لقاوة". ففي المدينة عاث قوات الدعم السريع فساداً وتنكيلاً بالمواطنين وقوات الجيش النظامي في المدينة تتفرَّج مبرِّرة موقفها المتحيِّز السالب أنَّ أوامراً صدرت لها من قيادتها العليا في الخرطوم بعدم التدخُّل!
إنَّ عدم تدخُّل الجيش لحماية المواطنين من أفراد وجماعات منظَّمة تابعة لفئة معينة وبعتاد ثقيل ومتقدِّم يعتبر مشاركة منها في الحرب. ونحن نعلم تماماً أنَّ ضباطاً برتب رفيعة من أبناء المسيريَّة في الجيش السُّوداني تم استيعابهم برتب أعلى وأرفع بقوات الدعم السريع. هذه القوات بقيادة هؤلاء النظاميين قتلت المواطنين النُّوبة والداجو العزَّل، ونهبت ممتلكات الأبرياء في المدينة. نحسب أنَّ ذلك لم يكن ضد اللون "الأزرق" بل استهداف لعرق وعنصر محدَّد لأنَّ المعتدين أنفسهم "زُرُق وبعضهم أكثر زُرقة". جيش دولة بمثل هذه العقليَّة، غير جدير بالانتماء لقوات الشعب المسلحة وينبغي محاسبة قاداته ميدانيَّاً بتهمة خيانة الولاء للوطن والمواطنين. إذن، وبحسب التعريف أعلاه، فإنَّ الحرب الأهليَّة جارية على قدم وساق في السُّودان، ولم تهتم الحكومة لأنَّها بعيدة عنها، وعن العاصمة المثلثة، فهي ضد مواطنين من الدرجة الثانية! شهدنا ذلك قبل الاعتقال الصوري للبشير وكبار مساعديه وإيداعهم في مكانٍ آمن في الخرطوم بحري. ونعتقد ما كان سيتم القيام باعتقالهم لو لا أن رأى أصحاب البيوت الزجاجيَّة والسيارات الفارهة تعدي قوات الدعم السريع لأسرهم داخل بيوتهم، لما استنجد بهم البشير. لبساطة السُّودانيين طفقوا يهتفوا "حميدتي الضكران خوَّف الكيزان".
من المفارقات المضحكة والمبكية في الآن نفسه أنَّ عرب المسيريَّة مهمشين و"تعبانين" مثل الزُرقة"، بل أشد "زُرقة وأنَّ هذا الوصف للون البشر فيه خطأ فاضح! قال الدكتور الباقر العفيف في ورقة رصينة له بعنوان: "متاهة قومٌ سود ذوو ثقافة بيضاء"، إنَّ بالسُّودانيين عمى الألوان حيث يصفون أنفسهم "أزرق" و"أصفر" و"أخضر" و"قمحي"، وهذه أبعد ما تكون من ألوان جلد البشر المعهودة! وحتى الحديث الشريف ذكر لم يذكر إلا لونين فقط: الأسود والأبيض". فقد اعتمد مراكز البحوث خمسة ألوان للفتيات اللواتي يرغبن في شراء ملابس تتعلَّق بلون بشرتهن أو منتجات التجميل للعناية ببشرتهن. لم يكن بين تلك الألوان اللون الأزرق. والألوان هي: الأبيض الفاتح، الأبيض، والمتوسط، القمحي (البني) وأخيراً الداكن (الأسود). وإذن، ما زاد أمر المسيريَّة سوءاً تسميتهم هم لأنفسهم "المسيريَّة الزُرُق"، وما خُفيَ أعظم. إذ هم يتبعون البهائم أي أنَّها تسوقهم أينما يُوجد الكلأ والماء!
أذكر أنَّه جرى حديثٌ شفاف بيني وأحد زملاء الدراسة النابغين النابهين من المسيريَّة، طرحت فيه أو اقترحت فكرة وجوب ولزوم استقرار الرحل بدلاً من متابعة "البهائم" و"طلقها" في مزارع النُّوبة المستقرين، حتى يتم تبادل المنافع بينهم: المزارع يوفِّر العلف للماشية، والرعاة يوفِرون احتياجات بقية السكان من منتجات الماشية. كان المنطق الذي سقته له، هو أنَّني لم أرَ أحداً يرعى في أمريكا التي درست بها وعشت فيها لأكثر من ٣٥ سنة، وأنَّه هو لم يرَ راعياً راكباً ثوراً أو ماشياً على ساقيه وقدميه وراء البقر أو غيرها في بريطانيا التي نال من جامعاتها أعلى درجات العلم. ومع ذلك يحصل المواطن البريطاني والأمريكي على كل ما يحتاجه من منتجات الأنعام. قس على ذلك كل الدول المتقدِّمة ودول الخليج و"المتأخرة"، ولكن هيهات، لم يفض حوارنا إلى شيء، ولن يحدث تغيير إيجابي في حال الرعاة الرُحَّل ولا المزارعين المستقرين ما لم تتغير مثل هذه العقلية بالتعليم والتوعية، وليس بمدهم بالسلاح الناري ليفتكوا ببعضهم البعض نيابة عن المركز. وما يعيب على المسيريَّة "الزُرُق" أيضاً أنَّهم لم يتعلَّموا من استغلال الحكومات المركزيَّة لهم في استخدامهم للحرب بالإنابة عنها. ماذا يضيرهم إذا جنحوا إلى حياة الاستقرار بسلام لهم ولغيرهم؟ ودونهم الحرب القريبة التي لم تُطف أوارها بعد مع جنوب السُّودان إذ لا تزال منطقة "أبيي" محل صراع بينهم والدينكا. وبدلاً عن العيش بسلام مع النُوبة والاثنيات الأخرى، "ركبوا الرأس".
التقديم الطويل لهذا الجزء من المقال ضروري لربط الأحداث وليبيِّن كيف يعمل المركز لزعزعة الأمن والاستقرار بالأطراف حيث لم تقف آلته الدعائيَّة بالتهديد بالحرب "الأهليَّة" المفتري عليها، بل واصلت من وتيرة التخويف بأنَّ السُّودان سينهار وأنَّه آيل للتفكك والزوال بفعل التدخُّل الخارجي من ناحية، والعملاء من ناحية ثانية، وزعزعة أمنه بواسطة طرف ثالث مرة ثالثة. الحق يُقال، هؤلاء الحكام هم العملاء وهم الطرف الثالث، وهم سواعد التدخُّل الخارجي وإلا كيف عرفوا أنَّ هناك عملاء ولم يقبضوا عليهم وتقديمهم للمحاكمة بتهمة العمالة، وأنَّ هناك طرف ثالث مجهول لم يبيِّنوه للناس، وأنَّهم بتصرفاتهم الهوجاء السبب الرئيس في اقحام العالم الخارجي لإخراجهم من الورطة التي أدخلوا فيها أنفسهم. نقول لهم وللذين يصدقونهم أنَّهم يرون السُّودان بعيون عوراء إن لم تكن عمياء، ولا يبصرون إلا بأبصار غشواء (أي بها غشاوة)، وحق عليهم قوله تعالى: “فأغشيناهم فهم لا يُبصرون"!
لقد سمعنا التهديد بالانهيار منذ أكثر من خمسين سنة وباستمرار بعدما بدأنا نقرأ جرائد الخرطوم اليوميَّة خاصة جريدتي الصحافة والأيام. كنا نقرأها على الدوام حتي سئمنا من مفردات على شاكلة: "الفوضى"، و"الفساد في كل أجهزة ومرافق الدولة"، و"الأزمات السياسيَّة"، وفشل "الأحزاب التقليديَّة والطائفيَّة"؛ وعن "الشيوعية وإلحاد الشيوعيين"، وعن "المؤامرات من السفارات الأجنبيَّة"، وعن "الأزمة الاقتصاديَّة" وسوء الأحوال المعيشيَّة"؛ "الحرب في الجنوب"، وبأنَّ "البلاد تسير نحو "هوة سحيقة لا يعلمها إلا الله"، وهلمجرا. أمر مؤامرات السفارات عجيب! البرهان هو الذي يقابل السفراء ويعتمد أوراقهم رسميَّاً، فكيف يأتي ليتهم السفارات بالتآمر، إلا إذا كان يعني المباني الخرسانيَّة بدون بشر. ولكن حتى الآن لم ولن يحدث ما كانوا ولا يزالوا يحذِّرون منه ويشيعونه بين الناس بالخطر المحدق بالسُّودان. نعتقد جازمين أنَّ كل ذلك للتهديد وللتخويف فقط، لتجميع شتات الجبهة الداخليَّة وصرف نظرها عما يجري داخليَّاً ثم الانقضاض على أي نظام قائم. هنا نسوق الأمثال لتوضيح ما ذهبنا إليه.
في ١٧ نوفمبر ١٩٥٨م استولى الفريق إبراهيم عبود على السلطة المدنيَّة وفي ٢٥ مايو ١٩٦٩م انقلب العقيد جعفر محمد نميري على الحكومة المنتخبة؛ في ٦ أبريل ١٩٨٥م استولى الفريق محمد الحسن سوار الدهب، وزير الدفاع، على نميري بعد انتفاضة مشهودة. أما في ٣٠ يونيو ١٩٨٩م انقض العميد عمر حسن أحمد البشير على حكومة منتخبة أيضاً. وما ميَّز انقلاب البشير أنَّه جاء في مسرحية سمجَّة يمكن نعتها ب "برز ثعلب يوماً في ثياب الواعظين"، ودلالة ذلك أنَّه بُنيَّ على الكذب وخداع الشعب بمقولة الشيخ الترابي للبشير "أذهب إلى القصر رئيساً وسأذهب إلى السجن حبيساً". الكذب باطل، دون شك، وما بنيَّ على باطل فهو باطل! الباطل الذي دام قرابة الثلاثين عاماً رأى وذاق خلالها المر والمسغبة. ولكن انتفض الشعب وواجه القمع على مدى أكثر من أربعة شهور وانتصر بتولي الفريق عبد الرحمن ابنعوف السلطة تكتيكيَّاً من اللجنة الأمنيَّة للبشير في ١١ أبريل ٢٠١٩م؛ وخلال ٢٤ ساعة فقط بعد ضغط متواصل، تنازل ابنعوف وعيَّن الفريق عبد الفتاح البرهان في بيان هزيل في ١٢ أبريل ٢٠١٩م. لم يكن اختيار البرهان عبطاً من قبل ابنعوف، كما لم يكن قبول قادة الجيش به اعتباطاً، ولكن للرجلين تاريخ سيء، وكلهم شركاء في الجريمة. فكلاهما عملا بدارفور وارتكبا فيها فظائع، وقال البرهان قولته المشهورة في عام ٢٠٠٣م "أنا رب الفور". على كل حال، كل هؤلاء أرجعوا أسباب انقلاباتهم إلى ما ذكرناه في الفقرة أعلاه. وكلهم أجمعين أكتعين، بما فيهم الأحزاب السياسيَّة التي حكمت، لم يحلوا جذور المشكلة السودانيَّة.
مهما من الأمر، بعدما تمكَّن الفريق عبد الفتاح البرهان وجمع حوله مجموعة صغيرة سمَّت نفسها "حركات الكفاح المسلح" التي أمرها "أرضاً سلاح" في اتفاقية جوبا المعيبة، تواطأ معها وانقلب على الحكومة الانتقاليَّة برئاسة الدكتور عبد الله آدم حمدوك؛ بعدما تأكَّد أنَّها (قوات الكفاح المسلح) لن تستطيع العودة إلى الغابة بعدما حرَّرت شهادة وفاتها، وما قسمها أنَّها لن تعود إلى الغابة إلا لأنَّها دمَّرت جسور التواصل بينها والشعب وحرقت ورق لعبها. الشعب الذي ادعت بأنَّها حملت السلاح من أجله. بالطبع لن ينس أهل دارفور كلام حاكمهم السيد مني أركو مناوي أثناء مغادرته الفاشر يومها إذ قال: "أنا ماشي الخرطوم، محل الطيارة بتقوم والرئيس بنوم"، بعدما تشدَّق بالتبرع بصناديق صابون غسيل لبعض النساء. السيدان الدكتور الهادي إدريس وخالد حجر، عضوي مجلس السيادة، يحيران. الأخير لازم الفريق محمد حمدان دقلو، نائب رئيس مجلس السيادة، كالظل أثناء ذروة الاقتتال في ولاية غرب دارفور والذي قامت به ميليشيات الجنجويد دون أن ينطق بكلمة.
ندلف لمالك عقار إير، عضو مجلس السيادة، وحديثه عن أنَّ ما يجري في الشارع "فوضى وإرهاب ضد الدولة" متناسيَّاً أنَّ هؤلاء المحتجين هم سبب وجوده في مجلس السيادة. وكما أنَّ مخاطبته لمواطني محلية التضامن بمدينة الدمازين في مارس 2022م غير حصيف، مهما كان نُبل مقصده، إذ قال إنَّه يعترض على تنفيذ طريق الدمازين بوط وسيعمل جاهداً لتعطيله! من المفارقات، التي نسيها ملك عقار إير، أنَّ شرارة ثورة ديسمبر كما يسمونها بدأت في الدمازين – مدينته- بواسطة أطفال مرحلة الأساس في ١٣ ديسمبر ٢٠١٨م احتجاجاً على انعدام الخبز. وكالعادة عمل كتبة تاريخ السُّودان المزيَّف وموثقو الأحداث المستهبلين، تحايلوا عليهم وسموها ثورة ١٩ ديسمبر ٢٠١٩م. وفي شرق جبال النُّوبة وغربها وشمالها حاول "قواته المأجورة" خلق بلبلة مثلما فعلت تحرشاته من مصائب بين الهوسا والفونج بالنيل الأزرق!
حتماً لن ننس العياط الداوي من "التور هجم" الذي لم يملك جنديَّاً واحداً في الغابة، حيث برز يوماً بمنولوج يقول فيه: "الليلة ما بنرجع لمَّن البيان يطلع" في مسيرة واعتصام القصر أو "الموز" كما وصفه السُّودانيون. كانت مسيرة القوم وتجمهرهم أمام القصر دون أن تعترض سبيلهم قوات الشرطة بالغاز المسيل للدموع أو تفضهم بإطلاق الرصاص المطاطي أو الحي، عكس ما كانت تقابل به المحتجين السلميين، والتي تنتهي بحزن عميق في بعض الأسر نتيجة استشهاد فلذة كبدها. بيد أنَّه قد تتداول الأخبار أنَّ السيطرة الفعليَّة لمفاصل الدولة وتوجيه العنف يأتيان بإشارات من الرئيس المخلوع من مكان إقامته الآمن، لذا لم تقم الأجهزة الأمنيَّة بعمل مضاد لهم.
هذه المجموعة صوتها أعلى وصراخها للاستعطاف أقوى مما ألفت الإنقاذ عليه الناس من التهليل والتكبير. وكان الجدير بها تسمية نفسها باسم آخر غير الذي تلوكه ألسنتهم والناسُ ليلاً ونهاراً. بالطبع ليس هناك سبباً واحداً للرجوع إلى الأحراش بعدما ذاقت النعيم، وشربت الماء وجلست تحت الهواء البارد. ومهما يكن، كان العياط تشجيعاً من الفلول و"حركات الكفاح المسلح" للبرهان لقلب الحكومة الانتقاليَّة ف "حدث ما حدث"! ففي غفلة تاريخيَّة قام البرهان ولجنة الانقاذ الأمنيَّة في صبيحة ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١م بالانقلاب ليبرَّر للشعب خطوته غير المحسوبة جيداً بضرورة "تصحيح المسار" على غرار ما حدث في ٣٠ يونيو ١٩٨٩م (الكذب والخداع)، وتعهَّد بتكوين حكومة فاعلة خلال أسبوع، ولكن "راح له ولأصحابه الدرب في الموية"، كما يذهب المثل السُّوداني، إذ لم يتمكَّن من تكوين الحكومة لأكثر من ٤٠٠ يوماً، و"عدَّاد الأيام ماشي"! نعم، حنث البرهان ونكص على عقبيه ليرى ما عجز الآخرون من رؤيته، ولا يزال الرجل يحنث كلما ومتى ما نطق في أي مكان ذهب إليه وأمام أية مجموعة. ولسوف نرى تعهداته أمام العالم بخروج المؤسسة العسكريَّة من الحياة السياسيَّة. فقرائن الأحوال تشير إلى عكس ما يقوله البرهان إذ يشترط في أية مناسبة داخليَّة لزوم "التوافق الوطني" لخروجهم من السياسة، وفي ذات الوقت يلمح بعودة الجيش لممارسة السياسة إذا فشلت الحكومة المدنيَّة المزمعة. وكل هذه المناورات تدل على أنَّ العسكر لن يسلِّموا السلطة للمدنيين، وما تصريحاتهم بعدم حدوث أي انقلاب سياسي إلا أنَّهم هم الانقلابيون ولن يقلبهم أحد.
إصرار المؤسسة العسكريَّة على ممارسة السياسة ليس بجديد، وحرص البرهان على الحنث ليس بأجد، والله يقول: "وكانوا يُصِرُّون على الحنثِ العظيم" (سورة الواقعة/٤٠)، والحنث في لغة العرب هو "الإثم والذنب الكبير". وقال تعالى أيضاً: "إنَّ الشرك لظلمٌ عظيم" (سورة لُقمان/١٣). وقد فسَّر بعض المفسِّرين الشرك بتفاسير شتى بقولهم في أحد هذه التفسيرات: "إنَّ الشرك أعظم الإثم وأكبر الذنوب"، فهل يا ترى يتساوى الشرك والحنث بمنطوق الآيتين ورأي المفسرين؟ وما موقف رئيس مجلس السيادة منها؟ ف "هنا ووب، وهنا ووبين"، و"أكرب قاشك زين"، كما يقول السُّودانيون! إنَّ الارهاصات الحالية بين الرافضين والمؤيدين للتسوية السياسيَّة وبالضرورة الاتفاق الإطاري المزمع توقيعه يوم غدٍ الاثنين تبيِّن الشقة بين السُّودانيين. فالبرهان نكر مراراً وتكراراً أنَّه ليست هناك تسوية، ونائبه يقول أنَّه مع الشارع ومع التسوية، فأيهما صادق؟ سنرى وسننظر فإنَّ غداً لناظره قريب.
على أية حال، إذا راجعنا كل بيانات هؤلاء الانقلابيين المذكورين أعلاه، سنجدها مصوغة صياغة واحدة، مع اختلاف الزمن ووجوه اللاعبين الأساسيين فقط. أما المشجعون هم نفسهم: مجموعة في المقصورة الرئيسيَّة "على الأرائك ينظرون" والأخرى على المساطب المكشوفة يشاهدون، والفرق بين الفعلين شاسع كما هو الفرق بين القطط الشاحمة والفئران الهيفاء (الضعيفة). خلاصة القول إنَّ السُّودان دولة فاشلة منذ تكوينها وأنَّها لن تنهار حتى "يلج الجمل في سم الخياط"، لأنَّ أصحاب البيوت الزجاجيَّة لا يقبلون أو يتحمَّلون رميها بالحجارة. وها هم اليوم وغداً والأيام مقبلة يتشاكسون أيهم يكفل الآخر. الانهيار يحتاج إلى قوة تغيير جارفة لما هو موجود، ولكن من يحرسون مصالحهم التاريخيَّة لن يسمحوا بانهياره حتى لا تتبدَّد مصادر امتيازاتهم وسلطتهم. لذلك سيبقى التهديد أحد آليات إسكات أصوات التغيير الحقيقيَّة خوفاً من حدوث إزاحة كاملة في أرضية الواقع السياسي السُّوداني،.
///////////////////////////
انتهينا في المقال الأول بخلاصة أنَّ السُّودان فاشل. عنوان المقال في حد ذاته مستفز للذين يروِّجون أنَّ السُّودان مقدم على حرب أهليَّة وكأنَّ الدائر فيه الآن ليس بحرب أهليَّة. بيد أنَّه وردت تعريفات عدة للحرب الأهليَّة منها أنَّها: "نزاع شديد العنف ومنظَّم بين عدة أفراد أو جماعات داخل دولة واحدة، وغالباً ما تشارك في هذا الصراع القوات النظاميَّة فعليَّاً أو بغض الطرف عما يجري بين السكان، وكأنَّ الأمر لا يعنيها من قريب أو بعيد". نموذج مشاركة القوات النظاميَّة بالفعل تمت ولا تزال تجري في دارفور بواسطة قوات الدعم السريع التابعة للفريق محمد حمدان دقلو المعروف ب "حميدتي"، نائب رئيس مجلس السيادة. يا للأسف الشديد، تنشط قوات الدعم السريع والدفاع الشعبي هذه الأيام في جبال النُّوبة وفي إقليم الفونج الجديد (النيل الأزرق). وبأدق عبارة نشير إلى الأحداث التي وقعت في مدينة "الياواك" - المعرَّبة إلى "لقاوة". ففي المدينة عاث قوات الدعم السريع فساداً وتنكيلاً بالمواطنين وقوات الجيش النظامي في المدينة تتفرَّج مبرِّرة موقفها المتحيِّز السالب أنَّ أوامراً صدرت لها من قيادتها العليا في الخرطوم بعدم التدخُّل!
إنَّ عدم تدخُّل الجيش لحماية المواطنين من أفراد وجماعات منظَّمة تابعة لفئة معينة وبعتاد ثقيل ومتقدِّم يعتبر مشاركة منها في الحرب. ونحن نعلم تماماً أنَّ ضباطاً برتب رفيعة من أبناء المسيريَّة في الجيش السُّوداني تم استيعابهم برتب أعلى وأرفع بقوات الدعم السريع. هذه القوات بقيادة هؤلاء النظاميين قتلت المواطنين النُّوبة والداجو العزَّل، ونهبت ممتلكات الأبرياء في المدينة. نحسب أنَّ ذلك لم يكن ضد اللون "الأزرق" بل استهداف لعرق وعنصر محدَّد لأنَّ المعتدين أنفسهم "زُرُق وبعضهم أكثر زُرقة". جيش دولة بمثل هذه العقليَّة، غير جدير بالانتماء لقوات الشعب المسلحة وينبغي محاسبة قاداته ميدانيَّاً بتهمة خيانة الولاء للوطن والمواطنين. إذن، وبحسب التعريف أعلاه، فإنَّ الحرب الأهليَّة جارية على قدم وساق في السُّودان، ولم تهتم الحكومة لأنَّها بعيدة عنها، وعن العاصمة المثلثة، فهي ضد مواطنين من الدرجة الثانية! شهدنا ذلك قبل الاعتقال الصوري للبشير وكبار مساعديه وإيداعهم في مكانٍ آمن في الخرطوم بحري. ونعتقد ما كان سيتم القيام باعتقالهم لو لا أن رأى أصحاب البيوت الزجاجيَّة والسيارات الفارهة تعدي قوات الدعم السريع لأسرهم داخل بيوتهم، لما استنجد بهم البشير. لبساطة السُّودانيين طفقوا يهتفوا "حميدتي الضكران خوَّف الكيزان".
من المفارقات المضحكة والمبكية في الآن نفسه أنَّ عرب المسيريَّة مهمشين و"تعبانين" مثل الزُرقة"، بل أشد "زُرقة وأنَّ هذا الوصف للون البشر فيه خطأ فاضح! قال الدكتور الباقر العفيف في ورقة رصينة له بعنوان: "متاهة قومٌ سود ذوو ثقافة بيضاء"، إنَّ بالسُّودانيين عمى الألوان حيث يصفون أنفسهم "أزرق" و"أصفر" و"أخضر" و"قمحي"، وهذه أبعد ما تكون من ألوان جلد البشر المعهودة! وحتى الحديث الشريف ذكر لم يذكر إلا لونين فقط: الأسود والأبيض". فقد اعتمد مراكز البحوث خمسة ألوان للفتيات اللواتي يرغبن في شراء ملابس تتعلَّق بلون بشرتهن أو منتجات التجميل للعناية ببشرتهن. لم يكن بين تلك الألوان اللون الأزرق. والألوان هي: الأبيض الفاتح، الأبيض، والمتوسط، القمحي (البني) وأخيراً الداكن (الأسود). وإذن، ما زاد أمر المسيريَّة سوءاً تسميتهم هم لأنفسهم "المسيريَّة الزُرُق"، وما خُفيَ أعظم. إذ هم يتبعون البهائم أي أنَّها تسوقهم أينما يُوجد الكلأ والماء!
أذكر أنَّه جرى حديثٌ شفاف بيني وأحد زملاء الدراسة النابغين النابهين من المسيريَّة، طرحت فيه أو اقترحت فكرة وجوب ولزوم استقرار الرحل بدلاً من متابعة "البهائم" و"طلقها" في مزارع النُّوبة المستقرين، حتى يتم تبادل المنافع بينهم: المزارع يوفِّر العلف للماشية، والرعاة يوفِرون احتياجات بقية السكان من منتجات الماشية. كان المنطق الذي سقته له، هو أنَّني لم أرَ أحداً يرعى في أمريكا التي درست بها وعشت فيها لأكثر من ٣٥ سنة، وأنَّه هو لم يرَ راعياً راكباً ثوراً أو ماشياً على ساقيه وقدميه وراء البقر أو غيرها في بريطانيا التي نال من جامعاتها أعلى درجات العلم. ومع ذلك يحصل المواطن البريطاني والأمريكي على كل ما يحتاجه من منتجات الأنعام. قس على ذلك كل الدول المتقدِّمة ودول الخليج و"المتأخرة"، ولكن هيهات، لم يفض حوارنا إلى شيء، ولن يحدث تغيير إيجابي في حال الرعاة الرُحَّل ولا المزارعين المستقرين ما لم تتغير مثل هذه العقلية بالتعليم والتوعية، وليس بمدهم بالسلاح الناري ليفتكوا ببعضهم البعض نيابة عن المركز. وما يعيب على المسيريَّة "الزُرُق" أيضاً أنَّهم لم يتعلَّموا من استغلال الحكومات المركزيَّة لهم في استخدامهم للحرب بالإنابة عنها. ماذا يضيرهم إذا جنحوا إلى حياة الاستقرار بسلام لهم ولغيرهم؟ ودونهم الحرب القريبة التي لم تُطف أوارها بعد مع جنوب السُّودان إذ لا تزال منطقة "أبيي" محل صراع بينهم والدينكا. وبدلاً عن العيش بسلام مع النُوبة والاثنيات الأخرى، "ركبوا الرأس".
التقديم الطويل لهذا الجزء من المقال ضروري لربط الأحداث وليبيِّن كيف يعمل المركز لزعزعة الأمن والاستقرار بالأطراف حيث لم تقف آلته الدعائيَّة بالتهديد بالحرب "الأهليَّة" المفتري عليها، بل واصلت من وتيرة التخويف بأنَّ السُّودان سينهار وأنَّه آيل للتفكك والزوال بفعل التدخُّل الخارجي من ناحية، والعملاء من ناحية ثانية، وزعزعة أمنه بواسطة طرف ثالث مرة ثالثة. الحق يُقال، هؤلاء الحكام هم العملاء وهم الطرف الثالث، وهم سواعد التدخُّل الخارجي وإلا كيف عرفوا أنَّ هناك عملاء ولم يقبضوا عليهم وتقديمهم للمحاكمة بتهمة العمالة، وأنَّ هناك طرف ثالث مجهول لم يبيِّنوه للناس، وأنَّهم بتصرفاتهم الهوجاء السبب الرئيس في اقحام العالم الخارجي لإخراجهم من الورطة التي أدخلوا فيها أنفسهم. نقول لهم وللذين يصدقونهم أنَّهم يرون السُّودان بعيون عوراء إن لم تكن عمياء، ولا يبصرون إلا بأبصار غشواء (أي بها غشاوة)، وحق عليهم قوله تعالى: “فأغشيناهم فهم لا يُبصرون"!
لقد سمعنا التهديد بالانهيار منذ أكثر من خمسين سنة وباستمرار بعدما بدأنا نقرأ جرائد الخرطوم اليوميَّة خاصة جريدتي الصحافة والأيام. كنا نقرأها على الدوام حتي سئمنا من مفردات على شاكلة: "الفوضى"، و"الفساد في كل أجهزة ومرافق الدولة"، و"الأزمات السياسيَّة"، وفشل "الأحزاب التقليديَّة والطائفيَّة"؛ وعن "الشيوعية وإلحاد الشيوعيين"، وعن "المؤامرات من السفارات الأجنبيَّة"، وعن "الأزمة الاقتصاديَّة" وسوء الأحوال المعيشيَّة"؛ "الحرب في الجنوب"، وبأنَّ "البلاد تسير نحو "هوة سحيقة لا يعلمها إلا الله"، وهلمجرا. أمر مؤامرات السفارات عجيب! البرهان هو الذي يقابل السفراء ويعتمد أوراقهم رسميَّاً، فكيف يأتي ليتهم السفارات بالتآمر، إلا إذا كان يعني المباني الخرسانيَّة بدون بشر. ولكن حتى الآن لم ولن يحدث ما كانوا ولا يزالوا يحذِّرون منه ويشيعونه بين الناس بالخطر المحدق بالسُّودان. نعتقد جازمين أنَّ كل ذلك للتهديد وللتخويف فقط، لتجميع شتات الجبهة الداخليَّة وصرف نظرها عما يجري داخليَّاً ثم الانقضاض على أي نظام قائم. هنا نسوق الأمثال لتوضيح ما ذهبنا إليه.
في ١٧ نوفمبر ١٩٥٨م استولى الفريق إبراهيم عبود على السلطة المدنيَّة وفي ٢٥ مايو ١٩٦٩م انقلب العقيد جعفر محمد نميري على الحكومة المنتخبة؛ في ٦ أبريل ١٩٨٥م استولى الفريق محمد الحسن سوار الدهب، وزير الدفاع، على نميري بعد انتفاضة مشهودة. أما في ٣٠ يونيو ١٩٨٩م انقض العميد عمر حسن أحمد البشير على حكومة منتخبة أيضاً. وما ميَّز انقلاب البشير أنَّه جاء في مسرحية سمجَّة يمكن نعتها ب "برز ثعلب يوماً في ثياب الواعظين"، ودلالة ذلك أنَّه بُنيَّ على الكذب وخداع الشعب بمقولة الشيخ الترابي للبشير "أذهب إلى القصر رئيساً وسأذهب إلى السجن حبيساً". الكذب باطل، دون شك، وما بنيَّ على باطل فهو باطل! الباطل الذي دام قرابة الثلاثين عاماً رأى وذاق خلالها المر والمسغبة. ولكن انتفض الشعب وواجه القمع على مدى أكثر من أربعة شهور وانتصر بتولي الفريق عبد الرحمن ابنعوف السلطة تكتيكيَّاً من اللجنة الأمنيَّة للبشير في ١١ أبريل ٢٠١٩م؛ وخلال ٢٤ ساعة فقط بعد ضغط متواصل، تنازل ابنعوف وعيَّن الفريق عبد الفتاح البرهان في بيان هزيل في ١٢ أبريل ٢٠١٩م. لم يكن اختيار البرهان عبطاً من قبل ابنعوف، كما لم يكن قبول قادة الجيش به اعتباطاً، ولكن للرجلين تاريخ سيء، وكلهم شركاء في الجريمة. فكلاهما عملا بدارفور وارتكبا فيها فظائع، وقال البرهان قولته المشهورة في عام ٢٠٠٣م "أنا رب الفور". على كل حال، كل هؤلاء أرجعوا أسباب انقلاباتهم إلى ما ذكرناه في الفقرة أعلاه. وكلهم أجمعين أكتعين، بما فيهم الأحزاب السياسيَّة التي حكمت، لم يحلوا جذور المشكلة السودانيَّة.
مهما من الأمر، بعدما تمكَّن الفريق عبد الفتاح البرهان وجمع حوله مجموعة صغيرة سمَّت نفسها "حركات الكفاح المسلح" التي أمرها "أرضاً سلاح" في اتفاقية جوبا المعيبة، تواطأ معها وانقلب على الحكومة الانتقاليَّة برئاسة الدكتور عبد الله آدم حمدوك؛ بعدما تأكَّد أنَّها (قوات الكفاح المسلح) لن تستطيع العودة إلى الغابة بعدما حرَّرت شهادة وفاتها، وما قسمها أنَّها لن تعود إلى الغابة إلا لأنَّها دمَّرت جسور التواصل بينها والشعب وحرقت ورق لعبها. الشعب الذي ادعت بأنَّها حملت السلاح من أجله. بالطبع لن ينس أهل دارفور كلام حاكمهم السيد مني أركو مناوي أثناء مغادرته الفاشر يومها إذ قال: "أنا ماشي الخرطوم، محل الطيارة بتقوم والرئيس بنوم"، بعدما تشدَّق بالتبرع بصناديق صابون غسيل لبعض النساء. السيدان الدكتور الهادي إدريس وخالد حجر، عضوي مجلس السيادة، يحيران. الأخير لازم الفريق محمد حمدان دقلو، نائب رئيس مجلس السيادة، كالظل أثناء ذروة الاقتتال في ولاية غرب دارفور والذي قامت به ميليشيات الجنجويد دون أن ينطق بكلمة.
ندلف لمالك عقار إير، عضو مجلس السيادة، وحديثه عن أنَّ ما يجري في الشارع "فوضى وإرهاب ضد الدولة" متناسيَّاً أنَّ هؤلاء المحتجين هم سبب وجوده في مجلس السيادة. وكما أنَّ مخاطبته لمواطني محلية التضامن بمدينة الدمازين في مارس 2022م غير حصيف، مهما كان نُبل مقصده، إذ قال إنَّه يعترض على تنفيذ طريق الدمازين بوط وسيعمل جاهداً لتعطيله! من المفارقات، التي نسيها ملك عقار إير، أنَّ شرارة ثورة ديسمبر كما يسمونها بدأت في الدمازين – مدينته- بواسطة أطفال مرحلة الأساس في ١٣ ديسمبر ٢٠١٨م احتجاجاً على انعدام الخبز. وكالعادة عمل كتبة تاريخ السُّودان المزيَّف وموثقو الأحداث المستهبلين، تحايلوا عليهم وسموها ثورة ١٩ ديسمبر ٢٠١٩م. وفي شرق جبال النُّوبة وغربها وشمالها حاول "قواته المأجورة" خلق بلبلة مثلما فعلت تحرشاته من مصائب بين الهوسا والفونج بالنيل الأزرق!
حتماً لن ننس العياط الداوي من "التور هجم" الذي لم يملك جنديَّاً واحداً في الغابة، حيث برز يوماً بمنولوج يقول فيه: "الليلة ما بنرجع لمَّن البيان يطلع" في مسيرة واعتصام القصر أو "الموز" كما وصفه السُّودانيون. كانت مسيرة القوم وتجمهرهم أمام القصر دون أن تعترض سبيلهم قوات الشرطة بالغاز المسيل للدموع أو تفضهم بإطلاق الرصاص المطاطي أو الحي، عكس ما كانت تقابل به المحتجين السلميين، والتي تنتهي بحزن عميق في بعض الأسر نتيجة استشهاد فلذة كبدها. بيد أنَّه قد تتداول الأخبار أنَّ السيطرة الفعليَّة لمفاصل الدولة وتوجيه العنف يأتيان بإشارات من الرئيس المخلوع من مكان إقامته الآمن، لذا لم تقم الأجهزة الأمنيَّة بعمل مضاد لهم.
هذه المجموعة صوتها أعلى وصراخها للاستعطاف أقوى مما ألفت الإنقاذ عليه الناس من التهليل والتكبير. وكان الجدير بها تسمية نفسها باسم آخر غير الذي تلوكه ألسنتهم والناسُ ليلاً ونهاراً. بالطبع ليس هناك سبباً واحداً للرجوع إلى الأحراش بعدما ذاقت النعيم، وشربت الماء وجلست تحت الهواء البارد. ومهما يكن، كان العياط تشجيعاً من الفلول و"حركات الكفاح المسلح" للبرهان لقلب الحكومة الانتقاليَّة ف "حدث ما حدث"! ففي غفلة تاريخيَّة قام البرهان ولجنة الانقاذ الأمنيَّة في صبيحة ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١م بالانقلاب ليبرَّر للشعب خطوته غير المحسوبة جيداً بضرورة "تصحيح المسار" على غرار ما حدث في ٣٠ يونيو ١٩٨٩م (الكذب والخداع)، وتعهَّد بتكوين حكومة فاعلة خلال أسبوع، ولكن "راح له ولأصحابه الدرب في الموية"، كما يذهب المثل السُّوداني، إذ لم يتمكَّن من تكوين الحكومة لأكثر من ٤٠٠ يوماً، و"عدَّاد الأيام ماشي"! نعم، حنث البرهان ونكص على عقبيه ليرى ما عجز الآخرون من رؤيته، ولا يزال الرجل يحنث كلما ومتى ما نطق في أي مكان ذهب إليه وأمام أية مجموعة. ولسوف نرى تعهداته أمام العالم بخروج المؤسسة العسكريَّة من الحياة السياسيَّة. فقرائن الأحوال تشير إلى عكس ما يقوله البرهان إذ يشترط في أية مناسبة داخليَّة لزوم "التوافق الوطني" لخروجهم من السياسة، وفي ذات الوقت يلمح بعودة الجيش لممارسة السياسة إذا فشلت الحكومة المدنيَّة المزمعة. وكل هذه المناورات تدل على أنَّ العسكر لن يسلِّموا السلطة للمدنيين، وما تصريحاتهم بعدم حدوث أي انقلاب سياسي إلا أنَّهم هم الانقلابيون ولن يقلبهم أحد.
إصرار المؤسسة العسكريَّة على ممارسة السياسة ليس بجديد، وحرص البرهان على الحنث ليس بأجد، والله يقول: "وكانوا يُصِرُّون على الحنثِ العظيم" (سورة الواقعة/٤٠)، والحنث في لغة العرب هو "الإثم والذنب الكبير". وقال تعالى أيضاً: "إنَّ الشرك لظلمٌ عظيم" (سورة لُقمان/١٣). وقد فسَّر بعض المفسِّرين الشرك بتفاسير شتى بقولهم في أحد هذه التفسيرات: "إنَّ الشرك أعظم الإثم وأكبر الذنوب"، فهل يا ترى يتساوى الشرك والحنث بمنطوق الآيتين ورأي المفسرين؟ وما موقف رئيس مجلس السيادة منها؟ ف "هنا ووب، وهنا ووبين"، و"أكرب قاشك زين"، كما يقول السُّودانيون! إنَّ الارهاصات الحالية بين الرافضين والمؤيدين للتسوية السياسيَّة وبالضرورة الاتفاق الإطاري المزمع توقيعه يوم غدٍ الاثنين تبيِّن الشقة بين السُّودانيين. فالبرهان نكر مراراً وتكراراً أنَّه ليست هناك تسوية، ونائبه يقول أنَّه مع الشارع ومع التسوية، فأيهما صادق؟ سنرى وسننظر فإنَّ غداً لناظره قريب.
على أية حال، إذا راجعنا كل بيانات هؤلاء الانقلابيين المذكورين أعلاه، سنجدها مصوغة صياغة واحدة، مع اختلاف الزمن ووجوه اللاعبين الأساسيين فقط. أما المشجعون هم نفسهم: مجموعة في المقصورة الرئيسيَّة "على الأرائك ينظرون" والأخرى على المساطب المكشوفة يشاهدون، والفرق بين الفعلين شاسع كما هو الفرق بين القطط الشاحمة والفئران الهيفاء (الضعيفة). خلاصة القول إنَّ السُّودان دولة فاشلة منذ تكوينها وأنَّها لن تنهار حتى "يلج الجمل في سم الخياط"، لأنَّ أصحاب البيوت الزجاجيَّة لا يقبلون أو يتحمَّلون رميها بالحجارة. وها هم اليوم وغداً والأيام مقبلة يتشاكسون أيهم يكفل الآخر. الانهيار يحتاج إلى قوة تغيير جارفة لما هو موجود، ولكن من يحرسون مصالحهم التاريخيَّة لن يسمحوا بانهياره حتى لا تتبدَّد مصادر امتيازاتهم وسلطتهم. لذلك سيبقى التهديد أحد آليات إسكات أصوات التغيير الحقيقيَّة خوفاً من حدوث إزاحة كاملة في أرضية الواقع السياسي السُّوداني،.
///////////////////////////