شائعات الحـُمر بين إيلا والخـِضر

 


 

 




اقتربت الطائرة من اختراق جبال ضخمة في فضاء الخرطوم، أمسية الخميس، فوجمت نفسي لحظة تفكر في جبال الغمام هذه، وتذكرت شهداء تلودي، حتى اخترقنا جبال الغمام، واصطدمت به الطائرة ولم يحدث شئ !! سوى اهتزازات خفيفة، ثم الخروج بعدها وكأن شيئا لم يكن...
فانتقلت الذاكرة مباشرة من صخور جبل النار بسلسلة جبال تلودي وشهدائها، إلى صخور الراكوبة والفيسبوك والواتسب بسلسلة جبال الشائعات وضحاياها، ولم يقطع التفكر بين ضحايا السلسلتين ودماء الذاكرة الحمراء سوى الإنتباه للهبوط بالخرطوم مع منظر المبنى الأخضر الهادئ الساكن على ضفاف شارع المطار الوديع.

نزلت طائرتي المقبلة من بورتسودان في مطار الخرطوم بعد أذان المغرب بقليل، فاتجهت بعد الخروج مباشرة صوب المركز العام ذي اللون الأخضر الوديع، لأستفسر عن أوضاع أمنية متدهورة ونفسية متأزمة للمواطنين بالعاصمة، وصلني خبرها نقلا عن الرأي العام في الإنترنت، والذي يفوق عدد قراء مقالاته وصحفه الإلكترونية، عدد الصحف اليومية والقنوات الفضائية بآلاف المرات ! بل إن المعلومة في الوسائط الإلكترونية باقية وقابلة للإستدعاء في أي لحظة، بعكس خبر الصحف والشاشات التي ينتهي فيها العزاء بانتهاء مراسم الدفن، ورمي الصحيفة لشراء الجديدة!

قمت بسؤال الموجودين عن تأهب قوات الدعم السريع (قدس) لانتهاك حرمة العاصمة وأنها جاءت للمساعدة في انقلاب عسكري أو جاءت لإطفاء انقلاب وشيك من (رافضي الحوار الوطني داخل الحزب الحاكم)، أو معلومة أخرى أنها تريد تصفية بعض القيادات بولاية الخرطوم كما أشاع خبثاء المعارضة !! فعلمت أن كل ما رسخ لدي من انطباع عنها وعن أهداف مرورها بولاية الخرطوم، إنما هي أوهام زرعتها أفواه وأيادي المعارضة الظالمة، التي لا تراعي خـُلقا ولا خالقا في أسلوب معارضتها، ولا تتقي الله فيما تقول وما تكتب وما تنشر وسط المواطنين..

ثم سألت الإخوان عن صحة الرئيس وأن العملية في الركبة كانت في مكان العملية السابقة، وترددت عند سؤالهم إن كان حيا يرزق، فقالوا لي إن الرئيس سخر بالأمس من شائعات الواتسب وكوادر الفيسبوك !

ثم سألت عن تسميم المجرم المتحلل ماليا في إحدى الورديات، وعن هروبه أو تهريبه من السجن بعد فتح البلاغ الثاني فيه، وأن أحدهم أقسم بالله مغلظا أنه رآه في مطار الخرطوم متجها إلى دولة ما، وأنه أخبر ضباط أمن المطار والشرطة التي شكرته على يقظته، وقصة طويلة موجودة في الواتسب بتفاصيلها وبالقسم المغلظ بالله على صحتها وصدق راويها وشهوده ، فضحك أحدهم وسألني إن كنت أريد زيارة مجرمي مكتب الوالي في السجن لو كان ذلك مسموحا !
ولم أسألهم عن شائعة إعفاء والي الخرطوم البرئ كبراءة الذئب من دم يوسف، لأني أعلم أنه ليس من حق الرئيس أن يعفي واليا منتخبا، إلا في حالة إعلان الطوارئ بالولاية، وهو ما لا يستطيع الرئيس إعلانه بحسب الدستور دون موافقة نائبه الأول!

ثم سألت عن قصة انفعال الفريق أول بكري لهروب المجرم وتأنيب نائب الرئيس لأستاذ عبدالرحمن الخضر لدرجة الوصول إلى الاشتباك بالأيدي مع الوالي !! وأن بكري اتهم الخضر بأنه شريك في الأرباح مع الأولاد المجرمين !! ضحكوا علي و(أثبتوا) لي أن الواقع شئ، وتمنيات المعارضة شئ آخر !

فعلمت أنني في عالم وهمي إسفيري ، أقحمتني فيه (نفسيا) كوادر المعارضة التي لا تراعي شيئا في حربها ضد حكومة السودان، من أجل أن تثير الشعب على الحكومة بأي وسيلة شرعية أو غير شرعية أو غير أخلاقية حتى تزيد فرص فوزها بأصوات في الإنتخابات القادمة بأبريل 2015..

التزمت الصمت من هول مفاجأة أن كل تلك كانت شائعات وحربا نفسية من المعارضة ضد كل من الحكومة والشعب سويا !

حتى فتح القوم النار علي، وانقلبوا علي منتقدين مقابلتي في بورتسودان مع والي البحر الأحمر دكتور محمد طاهر إيلا، ذاكرين أنه مرفوض من سكان الولاية وقبائلها !! وأن هناك كتابات ظهرت عن أن السبب الظاهر لزيارتي معروف، ولكن السبب الباطن للزيارة هو التمهيد لتحالف بين قبيلة الكنوز والبجا .. فضحكت وقلت فعلا الشاطر من يضحك أخيرا ! حيث جاءتني الفرصة على طبق من ذهب !

فبداية ارتبط لدى مستنتجي هذه النقطة أن محلية حلايب تقع في ولاية البحرالأحمر برئاسة إيلا داخل حدود السودان، وأن الإحتلال العسكري والغزو الإعلامي لدولة شمال الوادي لأجزاء منها هو الرابط بين الكنوز شمالا والبجا شرقا، لوجود قبيلة الكنوز النوبية العريقة ما بين جنوب دولة شمال الوادي مرورا بمنطقة الشلالات توغلا عميقا إلى أعماق السودان.. والرد المبسط هو أنني عموما مع كل تحالف بين قبائل السودان (لأجل الوطن)، اعتصاما بحبل الله، فهذا أفضل من عراك القبائل مع بعضها لمصالحها الشخصية أو القبلية الضيقة، وإن قبيلة الكنوز بامتداداتها النوبية بين الدولتين الشقيقتين هي مع سودانية حلايب، ومع وطن موحد، تتلاشى فيه العصبيات القبلية وتنصهر لصالح الولاء الوطني.. بل لا تمانع القبيلة في وحدة أو كونفدرالية بين شمال وجنوب الوادي في ظروف مناسبة ومحترمة للشعبين الشقيقين، تلغي الفوارق الإستعمارية المرسومة بين الدولتين.

فسألوني عن مظاهرات يوم الحشد الرادع في الإستاد ضد خفافيش الظلام، والإشتباكات المزعومة بين المناوئين والمعارضين، فأخبرتهم أن من قدر الله أن تكون السيارة التي أركبها ذاك اليوم هي التي يخرج أمامها 12 من سكان ذاك الديم ليحرقوا 3 إطارات كبيرة ويرقصون حولها ليجمعوا الناس، فما اجتمع لهم أحد حتى جاءت قوات مكافحة الشغب من 12 جنديا كذلك ! وانتهى الأمر بذاك الدخان في ثماني دقائق حسبناها حسابا ! وأخبرت مرافقي وقتها أنه سيكتب الصحفيون والمفسبكون و (المتوسبطون) أن هناك اشتباكات عنيفة في بورتسودان وأن المدينة قد اشتعلت ! و صدق تنبؤي وكذب الصحفيون الذين أتمنى أن تفتح فيهم الولاية البلاغات المناسبة لهذا الكذب لإثارة الرأي العام و( زيادة مبيعات الصحف) ! ولا أريد أن أورد أسماء الصحف التي كذب مراسلوها.

وسألوني عن مخاطبة محلية هيا وأن المواطنين هتفوا ضد الوالي حتى أنه لم يقرأ خطابه، فاستغربت لأن الوالي خطب في حشد كبير وتم إعادة البرنامج في قناة البحر الأحمر الفضائية ! ولكن الناس تنتبه للخبر من المصدر الأول فقط، ولا تتابعه لاحقا لتعلم صدقه أو كذبه، فما يهم هو الإثارة ! ومعارضة السودان تنشئ هذه الأيام هوليوود السياسة لتمارس البروباقاندا كهواية أو حرفة ممتعة، بل صارت بوليوود الهندية.

وأخبروني أن ولاية البحر الأحمر قد ضربت بفيروس كورونا القادم من السعودية، وأن الأوضاع الصحية سيئة، وغيرها من الشائعات التي تم نفيها لاحقا، والتي شهدنا من متابعتنا هناك أن البعض يريد لبلدوزر الشائعات أن يكتسح كل الحقائق الماثلة والواضحة للعيان لمن يزور بورتسودان.

وانتقدوا (مثلما سمعوا) بيع خمس مدارس من أجل المال، وعلمت هناك أن الوالي لا يحتاج مال خمس مدارس فهو يقوم ببناء وتأهيل 126 مدرسة! وأن خمس المدارس المذكورة يتم نقلها من وسط السوق لدواعي أمنية متعلقة بحفظ أمن الطلاب إلى مواقع قريبة من سكنهم.

ثم قالوا لي كيف تستطيع أن تتعامل مع واليها المتكبر، فأخبرتهم أني ما رأيته فيه ذرة كبر، وإنما تواضع المؤمن صاحب الرؤية والرؤيا مخلوطا بعزة نفس المؤمن، وحق له أن يعتز بنفسه وبما أنجز وبما يرى أنه سينجز، وأن د.إيلا يسعى لتوسيع دائرة مشورته سعيا واضحا ويستأنس برأي الآخرين، وحينها انتبهت لإحدى أكبر وأعظم مشاكل ولاة ولايات السودان، وهي (البطانة)، وربما كانت المشكلة الأساسية فيها لعدم وجود المعايير أو عدم مطابقة المعايير للمتطلبات، ثم لعدم وجود من تنطبق عليهم المعايير، ثم للحكم الرباني الأزلي في حديث النبي الشريف بثبوت وجود بطانتي الخير والشر مع كل وال وحاكم إلى يوم الدين.

وأخيرا قام إخواني بالمركزالعام بمحاولة هجومية أخيرة، بالتعليق على رفض قبائل الولاية لواليها ! وهنا بدأت بالبوح لهم عن استنطاقي للرأي العام في بورتسودان عن والي ولاية البحر الأحمر في كل مكان وتجمع وشارع ذهبت إليه، ووالله وجدت ثناءا على الوالي يغبطه عليه غيره من الولاة، فحتى الفقير في الموطنين هناك يعدل في حكمه ورأيه في الوالي، ويقول: والله إيلا دا اشتغل وأنجز. وكثيرون مررت عليهم يقولون نحن إيلاويون ! ومحل ما يشوت إيلا نحنا شايتين ! والبعض الآخر يتمنى لو تم تغيير النظام الأساسي للمؤتمر الوطني ليسمح للشخص بتولي المنصب لأكثر من دورتين، ضاربا مثالا باثنين من أصحاب الإنجاز الواضح للعيان وهما الرئيس البشير والوالي إيلا، ولكن هي سنة الحياة...

ومثلما سيترك بعض الولاة إرثا ثقيلا من الديون والإخفاق على ظهر من سيخلفهم، فهناك ولاة مثل إيلا سيتركون إرثا ثقيلا من الإنجازات التي يجب البناء عليها، وعدم الرجوع بالولاية خطوة للوراء بعدهم... فمثل هؤلاء المسؤولين يضعون معايير الجودة والإحسان في العمل، ويتركون نموذجا صعبا للمقارنة المعيارية benchmarking فيتردد من يخلفهم ألف مرة قبل قبول التكليف.. وهكذا نريد لمسؤولي هذه البلاد في كل المواقع.
إن لم يترك المسؤول من يبكي عليه ويحزن بعد ذهابه، فليعلم أنه لم يجتهد كما ينبغي، ولم يتذكر ويضع نصب عينيه أن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه.. فيتم بنسيانه هذا نزع البركة عن عمله مهما كثر.

ويشهد الله أنه لولا زيارتي لهذه الولاية ومعايشتي للأمور عن قرب، وبعد أن قرأت في وسائط الإعلام بما فيها الصحف اليومية كذبا منقولا عن مراسلي الصحف، وتابعت عشرات الأخبار المسيئة للوالي ولأدائه، والله كنت أنوي أن أوجع والي هذه الولاية الجميلة الكريمة المعطاءة بسلسلة مقالات مثل سلسلة جبال تلودي، وليس بمثل سلسلة جبال الغمام حول الخرطوم، بما لا يطيقه هو ولا كل كوادره الإعلامية من وزيره إلى أصغر عضو بإعلامه، فهو وال يعمل عن صمت كبير فيظلمه إعلامه قبل أن تظلمه شائعات المعارضة وإعلام الإنترنت الأحمر.
ولكن كعادتي تريثت وتبينت وتفحصت، ولم أصبح مثل الذين قال عنهم الله سبحانه وتعالى (إذ تلقونه بألسنتكم) ومن قال عنهم (فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) ، فرأيت عن كثب الفارق الأسطوري بين ما هو منقوش على ألسنة الحاسدين ومكتوب في سطور الصحف، وبين ما هو مكتوب في الواقع، ويشهد عليه مواطن الولاية.

إن ما يحدث الآن باستغلال العولمة الإعلامية والتكنولوجيا هذه، إنما هو إسفاف، ومواصلة لسوء استخدام الموارد، وهو ممارسة سيئة لحرية التعبير اللاأخلاقي، وهو قلة أدب سياسي مغلفة بغلاف شعارات حرية الرأي، وبئس المبعوث الأمريكي الجديد هذا الذي يتحدث عن حرية الرأي، ونقول له: انتظر منا فضحا لما يسمى بحرية الرأي والتعبير في أمريكا، سنبدؤه بتساؤل عن سبب احتلال أمريكا للمركز (التاسع عشر) مشتركة مع الأوروجواي في مؤشر الشفافية، فما الذي يهبط بترتيب أمريكا الحرية لمركز غير الأول أو الثاني في العالم في مؤشر الشفافية ؟ وهي المسيطرة على منظمات مثل Transparency International التي تنتج هذه القائمة..

ونعود من أمريكا الداعمة لحرية التعبير إن وافق مصالحها، نعود لمن يهرولون لسفارتها بالخرطوم بتقارير استدرار العطف !! ونعود لمن يلجؤون لأمريكا بحجة انعدام حرية التعبير، رغم أنهم يقولون ما يشاؤون صدقا أو كذبا أو تلفيقا في صحفنا ووسائطنا الإعلامية كل يوم وكل ليلة، ولن أسأل وأقول متى تتوقف كوادر المعارضة عن شائعاتها واستفزازاتها وإساءاتها ، وذلك لأن أفقها (الحالي) أضيق من أن تخرج عن هذه الحلقة، حتى صارت هذه هي مهنتها اليومية في السودان !!
ولكن السؤال هو متى نتوقف نحن عن تصديق ما يروجونه في المجالس، ونتوقف عن أن نتلقى أخبارهم المثيرة بألسنتنا !! فنعيد إرسالها حاملين وزرها ووزرهم ووزر من قرأها أو نشرها بعدنا !
ولمن لا ينتبه لتفسير قول الله تعالى: (إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم) ، نقول إن التلقي هو بالأذنين وليس باللسان إلا إن كانت لهم آذان لا يسمعون بها ولا يفقهون، وأنتم تنشرون ما ليس لكم به علم، فكفوا عن تلويث أجواء البلاد، وإن كان جهاز الأمن لا يريد قطع تجاوزات الأقلام المسيئة (زورا وبهتانا)، فلينم هنيئا، فأقلامنا كفيلة بأن تبدأ مثل حملة النظافة هذه، (دون أي تدخل) من أجهزة حفظ أمن المواطنين المتضررين من أمثال هؤلاء.

وعلى ذكرى حملات النظافة بالولايات، أتذكر الآن قبل مغادرتي مقعدي راجلا لا راكبا، أن حذائي لعشرة أيام لم يصادف ذرة تراب يمشي عليها في بورتسودان كي أمسحها عنه، فاستنتجت أن مهنة (ورنشة الجزم) غير مربحة في تلك المدينة التي نظمها ونظفها الوالي إيلا بمساعدة أهلها، والذين دون نظافتهم وعونهم للحاكم لما صارت ولايتهم كما رأينا..
ولنا عودة مرة أخرى للحديث عن بورتسودان وإدارة الشأن العام فيها.

أخيرا، يبدو أن الــســودان يواجه (سلسلة جديدة) من العمل المعارض، وباقة منوعات جديدة في أسلوب العمل السياسي المعارض، تستهدف الولاة في هذه المرحلة منها وأهلهم وأبناءهم وبناتهم، وستنتهي بعد ملء الساحة بالأكاذيب المخلوطة بنذر يسير من الحقيقة للتشويش على المواطنين وتضليلهم، مستغلين ضعف قدرة المواطن على التأكد من المعلومات، ومستغلين جهل الكثيرين بالقوانين وبالمعلومات الصحيحة، ثم ستنتقل حملة شائعاتهم لتضرب في مكان آخر، بطريقة أخرى، فتابعوا بأنفسكم، لتروا نهجهم غير الراشد وغير الأخلاقي في استغلال منابر الإعلام المفتوحة في البلاد ورقيا وسمعيا وبصريا والكترونيا، دون أي ضوابط شرعية أو أخلاقية أو (إنسانية على أقل تقدير).


Obay1975@gmail.com


 

آراء