شارع النيل، احتضار بيئي وحضاري!
بسم الله الرحمن الرحيم
من مدارات الحياة
علي يس الكنزي
alkanzali@gmail.com
شحيحة أو قل معدومة في وسائطنا الإعلامية التطرق لشئون البيئة وارتباطها بالحضارة الإنسانية ورقي الأمم وازدهارها، ناسين أننا أمة جاء في قرأنها كثير من الآيات التي تتحدث عن البيئة والحضارة، والخضرة والنبات والماء والجمال. كما يصادف نشر المقال اليوم العالمي للبيئة المحتفى به في 5 يونيو من كل عام.
عندما أنشئت الفلل الرئاسية لاستضافة رؤوسا الدول الأفريقية، انفك عقال أقلام كتابنا وامتلاءت صفحات صُحفنا مدحاً وقدحاً لهذه القصور التي أنشئت على عجل ودون مراعاة لأولويات الوطن. ولكن يوم أن تحول شارع النيل والذي يمكن وصفه دون وجل أو تردد بأنه من أجمل شوارع العواصم في العالم قاطبة، إن لم يكن أجملها وأروعها على الإطلاق لخصائص قل أن تجدها في غيره. تعرض هذا الشارع المتفرد منذ أيام محافظ الخرطوم الأسبق قلندر (عليه من الله رحمة) وإلى يومنا هذا للتشويه والاستلاب لمصلحة جهات محدودة، فَرُفِعتْ الأقلام وجَفَتِ الصحف، وأصابت أقلام كتابنا صم وبكم. ربما يرجع ذلك لأن صحافتنا تميل لهوى قارئها، وتجاريه في إشباع رغباته وهواه. حدثني يوماً رئيس تحرير أحد الصحف السودانية بأن القارئ السوداني: "يعشق السياسة والرياضة والفنون، أما ما دون ذلك فعلى الصحافة أن تطرقه في خِفًة وخُفْية وحياء". حجته عندي كحجة مستورد البضائع الفاسدة التي ملأت أسواقنا ومتاجرنا مبرراً فعلته: "أن المستهلك السوداني فقير لا يقوى على دفع ثمن السلع عالية المواصفات".
شذَّ عن هؤلاء الدكتور محمد بدوي مصطفى، فنشر مقالاً بجريدة الأحداث ليوم السبت الموافق 19 مايو 2012، نعى فيه شارع النيل، ونبهنا للجريمة التي تحاك ضده، وأن هناك حائط برليني يجري إنشاءه على ضفاف النيل الأزرق. وبما أننا من جمهور المستخدمين لهذا الشارع الذي أنشد بجمال نيله شعراء كُثرُ، منهم الصوفي المعذب التيجاني يوسف بشير، في قصيدة تغنى بها عثمان حسين، "نيل الفراديس".
أَنتَ يا نَيل يا سَليل الفَراديس
نَبيل مُوَفق في مَسابك
ملء اوفاضك الجَلال فَمَرحى
بِالجَلال المَفيض مِن أَنسابك
كما شدا بجماله وجلاله العطبراوي برائعة الشاعر محمد علي طه لمحبوبته المسيحية قائلاً:
متى يتم لقاءنا في شاطئ النيل الفسيح
والموج والصفصاف والقمر المطل على السفوح
وأنين ساقية تدور وصوت مزمار يصيح
هناك ينبعث السرور على النفوس فتستريح
أما شاعرنا إدريس جماع فرأى في النيل ما لم يره منفذ حائط المبكى حين قال:
كل الحياة ربيع مشرق نضر
في جانبيه وكل العمر ريعان
تمشي الأصائل في جنبيه حالمةً
يَحُفها موكب بالعطر ريان
وللطبيعة شدو في جوانبه
له صدى في رحاب النفس رنان
وبه وله تغنى وأنشد في غربته البروفيسور عبدالله الطيب قائلاً:
رأيتُ النيلَ يلمعُ في خيالي تــرفُّ عليه أزهارُ النجومِ
بلندنَ إذ نديفُ الثلجِ حولي وللـنكباءِ لذعٌ في أديمــي
أما في مصر فلا حصر للشعراء الذين أنشدوا بكلمات رقيقات فيهن حبٌ وعُشقٌ ووله صوفي، مجدوا النيل والحضارات التي قامت على ضفافه، فهو روح مصر وقلبها.
شارع يقع على نيل كهذا فرضٌ علينا حمايته. لذا نطلب من والي ولاية الخرطوم أن يوقف هذه الجريمة البيئة البشعة التي أعِدُها الأكثر بشاعة مما لحق بالعاصمة المثلثة من تشويه وخراب واستلاب. دونكم محطة السكة حديد، وميادين العاصمة وحدائقها، فقد تحولت بقرارات إدارية سحرية عاجلة إلي مؤسسات خاصة، أو سكن مميز. وهناك جريمة بيئة قادمة "وقانا الله شر وقوعها" وهي إجلاء غابة السنط ليكون مصيرها مصير الحزام الأخضر. كلنا أمل أن يستمع السيد الوالي لهذا النداء ويوقف العمل في حائط الحزن والمبكى هذا، ويسارع بإزالة ما تم بناؤه. فإن فعل ذلك نزولاً لرغبة من جُعل عليهم والياً، فله منا الشكر والاحترام، وإلا فيحقُ لنا أن نعمل على هدم هذا الحائط بكل السبل المشروعة ليكون مصيره مصير حائط برلين.
(2)
قيام هذا الحائط القميء يقودنا لحديث أخر، فإن أنت ألقيتَ بصرك على أي مسئول تنفيذي من حكومة الإنقاذ منذ توليها زمام السلطة في عهديها القديم والجديد، أياً كان درجة ذلك المسئول، إتحادي كان أم ولائي، صغُرَ مقامه أم كبُرَ، فيمكنك أن تصفه دون أن يرمش لك جُفن بأنه: "هو الدولة والدولة هو ". فالقوانين واللوائح التي تحكم وتنظم دولايب العمل ومواعين الحكم في إدارة الدولة، لا يلتزم ولا يتقيد ولا يسترشد أو يستأنس بها عند اتخاذ قراراته، حتى ولو كانت سلطته ليوم أو بعض يوم. لأن المسئول الإنقاذي "أضاء الله بصيرتك قارئ العزيز" هو قوة الله في أرضه، نعم قوة الله في أرضه، فهو لا يسأل عن ما يفعل. أي والله، لا يسأل عن ما يفعل. وإلا فدلني يا رعاك الله على مسئول تنفيذيٌ إنقاذي واحد تمت محاسبته أو مسألته ولو حياءً ليس عن بقرة تعثرت بالكدرو أو شارع النيل، بل عن وطن تم التنازل عن ثلثه بقية أن يَعُمَ السلام ربوع شطريه، فكانت النتيجة أن حصدنا حروباً أكثر شراسة مما كانت عليه من قبل؟! فهل حُوسب واحد ممن أغترف غرفة بيده من هذه الاتفاقية التي أضاعت وطناً بأكمله؟!!!
(3)
التعديات التي قام بها تنفيذيو حكومة الإنقاذ لا يمكن حصرها وعدها لأنها أكثر من نجوم السماء. لهذا سنضرب مثلاً ببعضها، وعلى صدرها تأتي الميادين والحدائق العامة التي أُخذت منا قوة وجسارة " رجالة كدا"، وذهبت دون رجعة. قلتُ يوماً لوزير إتحادي إنني لم أجد فارقاً بين طفل الحتانة وطفل المنشية، فكلاهما لا يجد ساحات ولا أقول حدائق تقع بالقرب من سكنه ليلعب ويلهو فيها مع رفاقه ليَصح بدنه، ويبني شخصيته، ويكسب صداقات في طفولته، ويحرق الطاقات الكامنة في جسده. فاللعب عند الطفل شيء أساسي، إن لم ينله سيفرق ما بداخله في البيت أو الشقة، وقد يحولها لجحيم لا يطاق، فيحدث الزجر، والغضب، والشجار، وينفلت اللسان وتنطلق الأيدي. مثل هذا الطفل لا يجدُ بدٌ لممارسة هوايته إلا بين السيارات والمارة وأحراش الشوارع غير آبه للخطر المحدق به.
أما المثال الثاني فهو حائطنا الخرصاني هذا، الذي أخشى أن يكون بناءه تم دون علم الوالي ورئيس الجمهورية، مع أن مكتبيها يقعان على رمية حجر منه. أما نحن أصحاب الوجعة الحقيقيون، جمهور المستخدمين والمنتفعين من شارع النيل فلم يستأنس برأينا أحدٌ من المسئولين، أنسيتم قولي: " أن المسئول الإنقاذي هو قوة الله في أرضه؟!!!" بل الأدهى وأمر، أننا لا نعلم إلى يومنا هذا ما يجري على شارع النيل؟ فلا أحدٌ يعبأ بنا ليُعْلِمنا ولو بلافتة حديدية ونبذة مختصرة تحدثنا عن المشروع وتكلفته ومتى ابتداء ومتى ينتهي العمل فيه؟ فما نحن إلا بَهَمٌُ تُساق، عليها الانتظار لترى ما سيسفر عنه الحائط. ألم أقل لكم أن إعلامنا غائب عن أمر البيئة!!!
(4)
شفافية طرحنا هذه لا تقدح ولا تحجب رؤيتنا عن الجهد المبذول من ولاية الخرطوم لتوسعة شارع النيل من كبري المنشية شرقاً، وحتى كبري الحتانة شمالاً، في مسافة تصل لثلاثين كليو متراً. هذا جهد مقدر ستظهر نتائجه وثماره البيئية والأمنية والسياحية والاقتصادية في المستقبل القريب إذا ما صاحبته رؤية تجعل من كل المساحات الواقعة بين شارع النيل والنيل والممتدة طولاً من كبري المنشية إلى كبري الحتانة ملكاً للجمهور. لذا يتوجب على الولاية أن تسارع في إزالة كل الأبنية والاسورة التي تحجب رؤية النيل وتعيق سير المارة على امتداد الطريق، بداية بالآيات القرآنية المعلقة عند مدخل كبري النيل الأبيض فوضعها على هذا النحو فيه استهزأ بكتاب الله أكثر من الاعتزاز به. وليت كتاب الله ينتقل من آيات تزين الجدران، إلى آيات تزين القلوب التي في الصدور. لا اعتراض على استمرار المقاهي والمطاعم القائمة الآن بشرط أن تزال كل الحواجز التي تحجبُ رؤيا النيل وتلك التي تعيق الجمهور في مواصلة سيره على الشاطئ. ولنا في حديقة القصر الجمهوري أسوة حسنة، فعندما أزيل عنها الحائط كشفت للعابر عن ساقيها وصرحها الممرد بالخضرة والجمال لنرى حدائق ذات بهجة.
لا أريد التحدث عن الأبعاد الجمالية في الطبيعة والخضرة، وأثرها على النفس البشرية، ولكن أعيد ما قلتُ في صدر مقالي: " أن البيئة مرتبطة بالحضارة الإنسانية، ورقي الأمم وازدهارها. وفوق ذلك أننا ننتمي لأمة جاء قرأنها مليء بالآيات التي تتحدث عن البيئة والخضرة والجمال والنبات والماء، حتى أن رب العزة، شبه نوره بالكوكب الدري الذي يوقد من "شجرة" مباركة.
///////////////