يتفق جميع الفرقاء في الساحة السياسية السودانية, بدرجات متفاوتة من الجدية والحس بالمسؤولية الوطنية والاستعداد لفعل موجب, على أن البلاد تواجه أوضاعاً استثنائية مأزومة سياسياً واقتصادياً وأمنياً على نحو غير مسبوق يتهدد مصير ومستقبل البلاد, ويتفق الجميع على الحاجة لحوار جامع وإن اختلفت التصورات حول السبل والوسائل التي تقود إلى حوار منتج ناجع. وليس هناك أي طرق يتخذ موقفاً رافضاً للحوار سواء من المعارضة المدنية بالداخل أو حتى المعارضة المسلحة في الخارج.
وفي خضم تلك الأجواء جاء إعلان الرئيس عمر البشير عن مبادرته لحوار غير مكتمل الملامح والغايات, يقول المؤتمر الوطني الحاكم أن ذلك مقصود لذاته حتى لا يُتهم ب"طبخ نتائج الحوار", تجاوب معه من تجاوب وتحفظ عليه من تحفظ واشترط عليه من اشترط ولكل مبرراته ومنطقه, والآن بعد أن مضى أكثر من شهرين على مبادرة "الوثبة" الرئاسية كيف يمكن قراءة التطورات والتحركات المزدحمة في المشهد السياسي, وأين نقف تحديداً هل نحن أقرب إلى الدخول في مسارات تسوية تاريخية تجنّب البلاد والعباد مصيراً مجهولاً, أم لا نزال نصطرع داخل ذلك النفق المظلم بلا هدى ولا تحسب للتبعات والعواقب؟.
مما لا شك فيه أن الساحة السياسية تشهد حراكاً كثيفاً تشارك فيه الأطراف كافة, وتُطلق فيه المواقف في إتجاهات مختلفة, وتتواتر اللقاءات والاجتماعات وتنفض, ولكل مع كل هذا النشاط السياسي الذي يجري والزخم الكثيف الذي يلف الساحة لا شئ على الإطلاق يدل على أن هناك جملة مفيدة حقاً تتشكل لتقدم إجابة وافية يمكن أن تلخص على نحو موضوعي أجندة اليوم التالي الوطنية.
وطبيعة الأشياء تفترض أن يكون هذا الانشغال السياسي المحموم بمسألة الحوار باعثاً على الأمل والثقة في عودة الوعي إلى الطبقة السياسية وقدرتها على تحمل مسؤوليتها واستعدادها لدفع للتضحيات والاستحقاقات الواجبة حتى تتجاوز بالبلاد عقبات الأزمة الوطنية الراهنة بكل تحدياتها, لكن الواقع يشير إلى عكس ذلك تماماً فبدلاً من شيوع روح التفاؤل تسود حالة حيرة أعظم مما سبق دعاوى الحوار, وخوف من المجهول تكاد تنتاب المجتمع السودان بأكمله, وسؤال واحد يسيطر على العقول إلى أين نحن مساقون؟.
في الواقع لم تنشأ هذه الحالة من الحيرة والخوف على المستقبل في أوساط الرأي العام من فراغ, بل هي ترجمة فعلية تؤشر لمدى الفشل الذي تُدار به مجمل عملية الحوار الوطني المنشود, فما نشهده في الحقيقة ليس سوى سوق كبير للمناورات والمزايدات الحزبية يشارك فيه الجميع بلا استثناء, وربما لم يكن الأمر ليثير كل هذا الزهد الشعبي في رشد الطبقة السياسية لو أن التكتيكات السياسية قصيرة النظر التي تسود في الساحة مما يرقبه الناس يجري أمامهم بكل حسرة تجري في ظل ظروف طبيعية أو حتى في ظل تحديات عادية تجابه البلاد, ولكن تأتي في ظروف استثنائية والسودان يواجه أخطر مرحلة في تاريخه الحديث بكل محمول تحديات اللحظات المصيرية في تاريخ الأمم يكون الخيار حاسماً بين أن تكون أولا تكون, وإن أفلتت فستفلت معها آخر بارقة أمل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
والسؤال من الذي يتحمل مسؤولية وصول الأمور إلى هذه الحالة الحرجة من الصراع على حافة الهاوية بذهنية تقدم التكتيكي على الاستراتيجي, وتعلي من شأن المكاسب الحزبية الضيقة على الاعتبارات الوطنية, والأجندة الذاتية على المصلحة العامة, بالطبع لا أحد من القوى السياسية في الحكم أو المعارضة سيتبرع للاعتراف على نفسه فالجميع يزعم أن الانشغال بالمصالح العامة هو دافعه الوحيد, وعلى أية حالة لا بأس في ذلك ولكنه يقتضي فحص المواقف الحقيقية للأطراف المختلفة, فالحاجة للإصلاح والتغيير ليس حكراً على طرف واضح, فالجميع بدرجة من الدرجات مطلوب منهم إصلاح شأنهم الداخلي قبل أن يزعموا لأنفسهم النهوض بواجب إصلاح الآخرين.
والمؤكد أن المسؤولية تتفاوت بين الأطراف المختلفة, ولكن ما من شك أن حزب المؤتمر الوطني الحاكم الذي لبث في السلطة لربع قرن يتحمل القسط الأكبر من اللوم فيما آلت إليه أحوال البلاد, لسنا هنا بصدد إعادة السرد أو لفت الإنتباه لما هو معلوم عند الكافة من الواقع المعاش للتردي السياسي والاقتصادي والمخاطر الأمنية التي أحالت أجزاء من السودان إلى مناطق خارج سلطة الدولة, ولندع ذلك كله جانباً ولنفحص دور الحزب الحاكم في حالة الهرج والمرج السياسية الراهنة التي دخلتها للبلاد وللمفارقة بعد إعلان الحزب خطواته في مشروع عريض لإصلاح الحزب والدولة ومن ضمن ذلك الإصلاح السياسي التي يأتي الحوار الوطني في قلبه, لا يحتاج الأمر إلى عبقرية ليسأل أي صاحب شأن في المؤتمر الوطني نفسه إن كان مقتنعاً بأن هذا "العك أو الدافوري السياسي بلغة العامة" هو عين ما يقصده فعلاً بذلك الإدعاء العريض ل"وثبة" التي لم تغادر محطة البحث عن تفسير أو تفسير لتفسير التفسير عما يمكن أن تقصده, والمأزق الراهن أن مشكلة المؤتمر الوطني الحقيقية ليست هي ما يثيره خصومه المشككين في نياته أو في جديته, بل في تعامله هو نفسه مع مبادرته هذه.
وينتاب المرء أحياناً انطباع بأن المؤتمر الوطني نفسه حزب مغلوب على أمره, وأنه ليس أحسن حالاً على الرغم من كل الظنون الحسنة التي يتخيل البعض أنه يتمتع بها, فالحيرة والخوف من المجهول التي تلف الرأي العام ألمت به أيضاً, فكثير مما يُظن أنهم من أصحاب الشأن فيه ليسوا أقل حيرة من غيرهم, لقد تحول الحزب هو الآخر إلى آلة لإعادة تدوير الوعود بحوار يتضح كل يوم أنه لا يستند على رؤية استراتيجية فعلية وبرنامج مستقبلي ولا يعدو أن يكون أداة لاستهلاك الزمن وشغل الساحة السياسية بشعارات تسمع جعجعتها ولا ترى طحينها, ويذكّرك ذلك كله بسخرية الكاتب المسرحي الإيرلندي صموئيل بيكيت ممن سأله عمن يكون "غودو"في مسرحيته الشهيرة "في إنتظار غودو" الذي يصطف الجميع في محطة القطار ينتظرونه معلقين آمالهم على مجيئه ولا يأتي, يرد بكيت لسائله"لو كنت أعلم من هو لكتبت ذلك في المسرحية". وأخشى ألا يكون المسؤولون في الحزب الحاكم أحسن حالاً .
لم تكن مسألة الحوار الوطني هذه لو توفرت لها الجدية اللازمة والرؤية الخلاّقة والإرادة السياسية والبعد القيادي لتشهد كل هذا التعثر أو بالأحرى الغرق في لجة اللجاجة السياسية وهي لا تزال في أول الطريق, فمشاكل البلاد المستعصية الآخذة في المزيد من التعقيد لا تحتمل ترف هذه المطاولات غير المبررة, اللهم إلا إذا كانت مقصودة لذاتها بقصد شراء الوقت وإلهاء الساحة السياسية بشئ تنشغل فيه لحين تمرير أجندة ما. وجرد حساب مجمل الحراك الذي تم باسم الحوار طوال الأسابيع الماضية لم يكن مقنعاً بأي حال بأنه أحدث اختراقاً فعلياً في إتجاه الانتقال إلى مربع جديد.
لقد بدا لافتاً أن السلطة الحاكمة التي تتحدث عن حوار جامع دعت له الجميع, هي نفسها التي لا تبدو في عجلة من شأن مبادرتها هذه في وقت تمضي فيه عجلى للانخراط في محادثات ثنائية لتسوية قضايا جانبية تحت لافتات ووساطات أجنبية,لقد وضح لكل ذي بصيرة أنه ليس هناك حل لما يُسمى مشكلة دارفور بمعزل عن معالجة جذور الأزمة السياسية وإدارة الحكم التي أنتجت هذا الواقع المؤلم في دارفور بل كل تفاصيله المعلومة, وما يحدث هناك هو في حقيقة الأمر مجرد تجلي لأزمة الحكم في الخرطوم وعجزه عن إدارة شؤونه بما يمنع إنزلاق الأوضاع في الإقليم إلى هذه الحالة المأساوية, والأمر كذلك ينطبق على ما يُسمى التفوض لحل قضية المنطقتين في جنوب كردفان والنيل الأزرق.
إنه لأمر غاية في الغرابة أن نشهد الحكومة تتعجّل المفاوضات والملتقيات الخارجية وتبذل في سبيل قيامها كل وسعها, ثم تراها تتنكب الطريق عندما يأتي الأمر إلى حوار الداخل تتعلل فيه بالأسباب الواهية, وكانت الهجرة الجماعية لأم جرس التشادية فيض من غيض, والأعجب أنه بدلاً من أن تتركز الجهود على التفاوض على إنجاز تسوية سياسية شاملة, ها هي الحكومة تعوّل عبثاً على المصالحات القبلية بدلاً من التزامها بواجب المسؤولية في تعزيز الحلول الوطنية, والمفارقة أنها تفعل ذلك في الوقت الذي تشكو فيه لطوب الأرض من استشراء القبلية.
لا شك أن ذلك كله مرده الاستمرار في رهن قضية البلاد ومصيرها لتكتيكات قصيرة النظر, وعندما تكون السلطة الحاكمة الداعية للإصلاح والمنادية بالحوار لا ترى بأساً في الإصرار على إدارة الشأن العام بذهنية المناورات المحدودة في ظروف مصيرية كهذه التي تواجه البلاد سيكون من باب التنطع لوم القوى السياسية الأخرى إن هي استخدمت أسلوب المناورات ذاته لتحقيق مكاسب حزبية, ما ينقص السودان في مخاضه المؤلم هذا: شئ من القيادة.
tigani60@hotmail.com