صحافة المُعارضة: قراءة في الدور, والوظيفة ,والنتيجة

 


 

صديق محيسي
6 October, 2016

 

من كتاب الصحافة السودانية والأنظمة الشمولية

1-3

صحافة المُعارضَة، هذا العنوان سيحمل في داخله عدة مراحل نحاول تناولها وفق ظرفها التاريخي بشروطه السياسيّة والاجتماعيّة مراعين طبيعة كل مرحلة علي حدة والمراحل التي نحن بصدد تناولها تُعنى بنماذج من صحافة ثلاثة حقب من القرن الماضي عندما كانت البلاد خاضعة للاستعمارالبريطاني، ثمَّ ما بعد الاستقلال وهي سنوات الحكم الوطني بتجاربه الديمقراطيّة المختلفة، ثمَّ سنوات الحكم العسكري التي أعقبت ذلك. وفي كل هذه المراحل لعبت صحافه المُعارضَة إما دوراً تنويرياً ايجابياً أفاد الحركة الوطنية في شقيها السياسي والاجتماعي كما هوالحال في مرحلة التحرر من الحكم الأجنبي، أو دوراً سلبياً تخريبياً ساعد على اضطراب الحياة الديمقراطيّة، مما مهد الطريق دائماً أمام العسكريين للاستيلاء على السلطة وإجهاض المشروع الديمقراطي قبل اكتماله، كما هو في مرحلة ما بعد معركة التحرر الوطني. وعندما نتحدث عن صحافة المُعارضَة سلباً، فإننا نعني الحزبي منها بالذات، وفي الحزبي منها، نخص صحافة الحزبين الكبيرين الأمّة والاتحادي الديمقراطي، ثمَّ تتسع الصورة لتشمل في جانب آخر الصحف التي كانت على استعداد لأنْ تبيع صفحاتها للذي يدفع أكثر، وتلك ظاهرة سيئة طالما عانت منها العملية الديمقرطية في السودان في مختلف مراحلها .
تاريخياً، يمكن القول: إنّ أول صحافة للمُعارَضة الوطنية في شكلها الجنيني ارتبطت بتكوين أول تنظيم سري عام 1920 هو تنظيم (جمعية الاتحاد السوداني) الَّذي يُعد بداية للحركة الوطنية السودانيّة، وقد أسس ذلك التنظيم كل من عبيد حاج الأمين، وتوفيق صالح جبريل، ومحي الدين جمال أبوسيف، وإبراهيم بدري، وسليمان كشة، والأخير احترف مهنة الصحافة فيما بعد وأصدر صحيفة خاصة به.
زاوجت هذه الجمعية بين العمل السياسي والأدبي، وكانت تصدر منشورات سرّية بخط اليد ضد الوجود الاستعماري البريطاني في البلاد، وكذلك ضد الزعماء الطائفيين، ولجنة علماء السودان التي كونها الإنجليز، وكبار التجار، وشيوخ القبائل. وكان من أهم تلك المنشورات الصحفية ذلك الَّذي كتبه عبيد حاج الأمين يتهم فيه زعماء الطوائف الثلاثة (الختمية، والمهدية، والهندية)* بعبادة الملك جورج الَّذي جعلوا منه (إلهاً)، في وقت جعلوا فيه حاكم عام السودان(سير لي ستاك) (نبياً). وقد حكم على علي عبد اللطيف بالسجن لنشره مقالة في الصحف المصرية طالب فيها الحكم الأجنبي بتوسيع فرص التعليم لأبناء الشعب، ووجوب تخلي الحكومة عن احتكار السُكّر، كما انتقد مشروع الجزيرة الَّذي تسيطرعليه الشركة الزراعية البريطانية، وبالرغم من أنّ علي عبد اللطيف لا يعتبر صحفياً محترفاً، إلا أنّه كان أحد الكُتّاب الوطنيين في ذلك الوقت، وأبرز قيادات (ثورة الرابع والعشرين) ضد الإنجليز
شنّت منشورات جمعية الاتحاد هجوماً عنيفاً على صحيفة حضارة السودان بوصفها بوقاً للمستعمرين تدافع عن سياساتهم وتقف ضد الحركة الوطنية، والمعروف أنّ (حضارة السودان) التي وقف وراء صدورها الإنجليز عام 1919 كانت بملكية اسمية بين الثالوث الطائفي، السيد عبد الرحمن المهدي، السيد علي الميرغني، الشريف يوسف الهندي، كما يذكر عبد الله رجب في كتابه مذكات اغبش , وقد رأس تحريرها حسين شريف الشيخ، وخَلَفه محمّد عثمان القاضي الَّذي اشتهر بتأييدة للإدارة البريطانية. كما كان أعضاء هذه الجمعية يبعثون برسائل سِرّية إلى الصحافة المصرية يطلبون منها الاهتمام بقضية السودان انطلاقا من وحدة المصير المشترك بين الشعبين السوداني والمصري، ومن أشهر تلك الرسائل السِرّية الرسالة التي بعث بها عبيد حاج الأمين إلى الأمير عمر طومسون يطلب منه فيها الاهتمام بقضية السودان من خلال توحيد موقف البلدين الشقيقين ضد الاستعمار البريطاني. كان ذلك هو الأسلوب الوحيد أمام تلك الطلائع لمواجهة صحيفة حضارة السودان الموالية للإنجليز
بعد جمعية الاتحاد السوداني، كانت المنشورات السِريّة التي تصدرها جمعية اللواء الأبيض 924 1هي امتداد لصحافة المُعارضَة ضد الوجود البريطاني، فقد جرى تداول تلك المنشورات على نطاق محدود بين عضوية الجمعية والمتعاطفين معها تشرح أهداف الجمعية، وتطالب بإبقاء قضية السودان حيّة دائماً في نفوس المواطنين، وهذا مايفسر إرسال تلك المنشورات إلى الصحف المصرية لتنشرها هناك أحياناً بدون ذكر المصدر، وأحياناً أخرى بأسماء سِرّية، مثل"وطني حادب"، و"ابن النيل"، و"مؤيد للاتحاد مع مصر" وقد أخذ هذا النسق من المُعارضَة أشكالاً أخرى، كان الشعر الَّذي يقال في المناسبات الدينية والاجتماعيّة أكثرها تعبيراً، فهاجم كل من عبد الرحمن البنا، ومدثر البوشي، وتوفيق صالح جبريل الزعماء الدينيين المؤيدين للإنجليز، وطالبوهم بالوقوف إلى جانب الشعب، وتطورت صحافة المُعارضَة بعد قيام الأحزاب السياسيّة الوطنية في مرحلتي ما قبل وما بعد الاستقلال وكانت أكثر جرأة ووضوحاً، خصوصاً بعد أنْ وافقت بريطانيا على إعطاء مستعمراتها في إفريقيا والشرق الأوسط الاستقلال. فعارضت صحيفتا (الأمّة والنيل) التابعتان لحزب الأمّة اتحاد السودان مع مصر تحت التاج المصري، وكانت تلك تمثل خطوة واعية في سبيل الاستقلال التام، بينما وقفت الصحف الاتحادية "صوت السودان والنداء والأشقاء" بجانب اتحاد مصر والسودان تحت شعار وحدة وادي النيل، وهذا مما أدّي لاحقاً إلى اشتعال العدواة بين الاتحاديين والاستقلاليين، فانعكس ذلك على أداء صحف الاثنين ليصبح مهاترات و سباباً وصل أحيانا إلى التجريح الشخصي.
يتعّين علينا القول: إنّ إشكال المُعارضَة التي نتحدث عنها، إنّها لم تكن ذات موقف واحد تجاه قضية الاستقلال الوطني، ولكنها أخذت تتمظهر في عدة أصوات، صوت الحزب السياسي الَّذي يمثل أيديولوجية سياسية معيّنة يبشر بها ويتصادم في ذلك مع أيديولوجيات سياسية أخرى لاتتفق معه، وأصوات كُتّاب مستقلون لاينتمون إلى أحزاب سياسية، وكان هؤلاء الأكثر تقديراً بين القراء، لأنّ كتاباتهم كانت تخدم فكرة الوطن قبل فكرة الحزب.

لم تكن المُعارضَة الصحفية إبّان مرحلة معركة التحرر الوطني بعيدة عن موقف الحزب السياسي، ولاعن فكر الكاتب المستقل، فهي كلها كانت تنزع نحو استقلال البلاد وإنْ اختلفت الرؤي والأساليب من أجل إنجاز هذا الهدف، وقد كان الصراع بين الاستقلاليين والاتحاديين أحد أبرز مظاهر الخلاف الَّذي انعكس على الصحافة الحزبيّة والمستقلة تجاه مصير السودان، في كيف يتخلص من الحكم الأجنبي (فقدعارضت صحيفة النيل - لسان حال حزب الأمّة - بشدة قرارمؤتمر الخريجين الَّذي سيّطرعليه الاتحاديون في يوليو 1943 والخاص بتقريرمصير السودان على أساس الاتحاد مع مصر تحت التاج المصري، وهو قرار رهن مستقبل السودان السياسي بالتبعية إلى بلد أجنبي آخر حتي لو كان جاراً عربياً مثل مصر، ودعت النيل إلى معالجة الموقف بالوصول إلى اتفاق عام بشأن مصير السودان، ولاسيما بعد أنْ انعقد العزم على قيام حكومة وطنية سودانية ورفض فكرة الاندماج في مصر، وانحصر الخلاف في شكل الحكومة فقط)،*(وعند صدور قانون المجلس التنفيذي والجمعية التشريعة عام 1948عبّر الرأي العام- كصحيفة مستقلة عن رأيها في الخلافات الحادة التي تفجرت بين الأحزاب الاتحادية بشأن هذا القانون الَّذي رحّب به البعض ودافع عنه ورفضه البعض الآخر، باعتباره استمراراً للوصايّة البريطانية، ورأت الرأي العام أنّ الأحزاب الاتحادية وهي تكوِّن جبهة المُعارضَة مطالبة بالمسارعة إلى تكوين موقف موحّد تجاه هذه القضية الخطيرة، وقد كان لرأي - الرأي العام - أثره الفاعل حيث قبلت الأحزاب الاتحادية بفكرة الصحيفة التي كانت تطالب الجبهة بقبول الوساطة التي يقوم بها نفر من الشخصيات الوطنية لجمع المتصارعين على رأي واحد، وكان أنْ تمّ الاتفاق على رفض ومقاومة المجلس التنفيذي والجمعية الاستشارية ومقاومة مشاريع السودنة البريطانية، وفي الموضوع نفسه، نشرت صحيفة صوت السودان- لسان حال الختمية - في أول أغسطس 1948 رأيا بشأن القضية المثارة نُسب إلى بعض أقطاب الختمية والمستقلين، وقد قال هؤلاء: إنّ قيام المجلس والجمعية التشريعية - وإنْ لم يحقق آمال السواد الأعظم من السودانيين- إلا أنّه كان من الممكن اعتباره خطوة إلى الأمام في سبيل تأهيل السودانيين لتولي شؤون بلادهم، ولكن الأوضاع التي اختطت لهذه الجمعية وهذا المجلس لاتجعلهما ممثلين تمثيلاً صحيحاً حراً لآراء الشعب وإرادته، وقد اقترح الختميون إدخال تعديلات على القانونَين، وذلك بإعطاء صلاحيات حكم أثر للجمعية والمجلس، ثمَّ إجراء انتخابات حرة ومباشرة في المدن والقري والقبائل)،* إلى ذلك فإنّ الصحافة السودانيّة بشقيها الحزبي والمستقّل، كان لها أعظم الأثر في تكوين الرأي العام في المعركة ضد الوجود البريطاني، وكانت هي المنبر الوحيد الَّذي يطالع الناس من خلاله مايجري من أحداث في البلاد، فأخذ الوعي السياسي ينتشر في أنحاء البلاد بفضل ماكانت تنشره الصحف من أخبار المفأوضات بين القوى السياسيّة السودانيّة، وإدارة الحكم الثنائي في كل من القاهرة ولندن.

S.meheasi@hotmail.com

 

آراء