صمت المثقفين: في الذكرى الثلاثين لمذبحة الضعين

 


 

 

 


ushari@outlook.com

(نسخة مصححة)


في هذه الذكرى الثلاثين لمذبحة الضعين – الرق في السودان، أَنشغِلُ بسؤال وحيد، وهو سؤال قديم يظل محيرا دون إجابة شافية: كيف يَتَخَلَّقُ وجودياً هذا المثقفُ الناطقُ الصامتُ --وأمام ناظريه وبين يديه، في الأوراق، هذه المُفْظِعات الجماعية في السودان، مثل جريمة الإبادة الجماعية، والجريمة ضد الإنسانية، وجرائم الحرب، والتطهير العرقي، وعنف الدولة وإرهابها وفسادها؟ وهي المفظعات تاريخيةٌ وحاضرةٌ ومستمرةٌ في المستقبل؟
"كيف يتخلق ...؟"، بمعنى ما الكيفية التي بها يُركب هذا المثقف الصامت ذاتيتَه وهويتَه، مما كله يدور في سياق السودان في ظل الدولة الإسلامية الإجرامية الفاسدة؟


...
(1)
في إهدار القدرة على التفكير
فلْيَنسَ شبابُ الرزيقات وغيرُهم من الشباب في الجامعات وفي المدارس، من الذين وُلدوا بعد مذبحة الضعين 1987، فلينسوا أمر د. الوليد آدم موسى مادبو، أستاذ العلوم السياسية الذي لم يتجاوز إسهامه بشأن مذبحة الضعين عبارةً من كلمتين بدون معنى: "مذبحة الضعين يجب التحقيق فيها"، دفَنَهما الوليدُ في نص إحدى مقالاته الطويلة قبل أعوام، مسجلا على استحياءٍ اختلافيتَه عن الجيل القديم من المثقفين المُنكِرين ومعلنا الثورةَ الفكرية في دار الرزيقات. وتَجنبَ الوليد ملاقاة موضوع الرق في دار الرزيقات.
مرت ثلاثة أعوام نسي خلالها د. الوليد تلك عبارته وتلك ثورته. أذكرُه هنا لأنه مثقف كاتب في الشأن العام، وهو من "القبيلة"، هذه المُتَخَيَّلة ذات الخرافات عن حاكورتها وعن تاريخها وثقافتها وفرسانها وميلشياتها ومناجمها للذهب وحكمها الوراثي، القبيلة التي تكاد تكون دولة ذات سيادة داخل الدولة بخرافاتها هي الأخرى.
...
وللوليد قدراتٌ تؤهله، إن أراد، للإسهام في دفع القبيلة استحقاقات مذبحة الضعين والرق، حتى بعد مضي ثلاثين عاما، وهو مسؤولٌ وعلى عِلم، وقد درس للدكتوراه في أمريكا فَتعرَّف، كمثقف، بصورة مباشرة على تراث مثقفين أمريكيين، وأوربيين أيضا، تراثهم الغني في الانشغال بتاريخ مفظعاتهم ضد السكان الوطنيين، وتعرَّف على انشغال مجال "العلوم السياسية" بقضايا العدالة والسلطة وحكم القانون والحداثة، وكلها قضايا مُجَسدَنةٌ في هذي وضعية مذبحة الضعين وفي هذي تاريخية مؤسسة الرق في "دار الرزيقات".
أخصُّ د. الوليد بالذكر لأني أحمل له احتراما وتقديرا، ولأن له تجربة شخصية أعرف كيف تكون وكيف تُنتِج مواقفَها السياسية، وهو كتب عنها، تجربة في جسده مع إجرام القوة/السلطة وعدوانها الوحشي المباشر، عليه هو، في جسده. القوة/السلطة هنا ما يسميه الوليد "الكهنوت" وأبنائه، لكنها هي ذاتها القوة/السلطة بدون معرفةٍ في دار الرزيقات، وفي السودان الحاضر.


...
(2)
ولتنسوا المثقفين في سن الأربعين وما بعدها
وكذا فلْتنسوا أنتم شباب الرزيقات في عزلتكم أمرَ جميع المثقفين الرزيقات في سن الأربعين وما بعد الأربعين، الذين كانوا حاضرين بالوعي ومعاصرين بالتجربة حدث مذبحة الضعين، وغزوات قنص الرقيق بواسطة "فرسان" الرزيقات، واستغلال الأسر الرزيقية الرقيق الدينكا في البيوت بمدينة الضعين وفي كامل أرجاء "دار الرزيقات"، هذه المنطقة الجغرافية المتوهم صفاؤها العرقي وفيها أكثر من سبعين مجموعة عرقية من بقاع السودان المختلفة.
...
(3)
ابحثوا في مشاركة بعض المثقفين في المذبحة وممارسة الرق
ولتعرفوا أن من بين هؤلاء المثقفين الرزيقات في الأربعين وبعدها من كان شارك شخصيا في تنفيذ مذبحة الضعين، فثابت أن عددا مقدرا من الأطفال الصِّبية الرزيقات بمدينة الضعين في العام 1987 نفَّذوا التقتيل المباشر حرقا لأجساد الأطفال والنساء الدينكا في حوش البوليس بمحطة السكة الحديد، في سياق ذلك الهجوم واسع النطاق والمنتظم.
وأَقرأُ في أوراقي عن شباب من الرزيقات في المدرسة الثانوية بالمدينة في ذلك الوقت في منتصف الثمانينات وكانوا يتركون مدرستهم للمشاركة في غزوات النهب وقنص الرقيق، دائما من دار الدينكا.


...
(4)
انظروا في دور تجارة الرق في دفع تكاليف تعليم المثقفين الصامتين
ولتعرفوا أن عددا مقدرا من هؤلاء المثقفين الرزيقات ما كانوا ليتلقَّوْن أيَّ تعليم في المدرسة الابتدائية، بَلهَ في الجامعة وما بعدها، ما لم يكن آباؤهم وأمهاتهم أفادوا من ريع تجارة الرقيق، ومن نهب ممتلكات الدينكا في الفترة بين 1986 ونهاية القرن الماضي.
فمن بين هؤلاء الآباء من كان عدة مرات ركب جوادا أو حمارا أو جملا أو هو كان راجلا وانضم إلى المليشيا الرزيقية الصغيرة أو الكبيرة المجهزة لقنص الرقيق والنهب في دار الدينكا جنوب نهر كيير-بحر العرب، في شمال بحر الغزال، وهم هؤلاء الآباء عادوا من تلك غزواتهم يَجُرُّون وراءهم الأطفال والفتيات والنساء الدينكا رقيقا، وعادوا مُحمَّلين بالممتلكات المنهوبة من الأسر والقرى ومن مراحات البقر في دار الدينكا. عدة مرات في العام، بصورة دورية خلال فترة يناير مارس وبعدها، عاما بعد عام. تعود المجموعة الإجرامية من غزوتها، وما هي إلا يوم أو يومان حتى تعود المجموعة إلى دار الدينكا في غزوة جديدة. ومن الآباء من شارك في تمويل الغزوات دون أن يشارك شخصيا في النهب المباشر أو التقتيل أو الخطف. لكنه كان يستلم نصيبه بعد عودة المليشيات من غزواتها.
ومن ثم تمكن هؤلاء الآباء، بعائد تجارة الرقيق، وباستغلال الأرقاء في الأعمال الاقتصادية كالرعي والزراعة وحفر الآبار، وبالممتلكات المنهوبة، تمكنوا من إرسال أبنائهم أولئك المثقفين اليوم الناطقين الصامتين إلى المدارس والجامعات. وأتحدث عن فترة قريبة تماما، فترة ثلاثين عاما فقط. والذاكرة حية.


...
(5)
ادرسوا دور المرأة الرزيقية في إنتاج المفظعات الجماعية
وكذا كان الحال حال الأمهات لعدد مقدر من هؤلاء مثقفي الرزيقات في الأربعين وما بعدها، هؤلاء النساء كن يَستفِدن بصورة مباشرة من اقتصاديات الرق، من حيث حصولهن على الخدمة المجانية لغسل الملابس والطحن والطبخ ونظافة البيوت والرعي والزراعة، وكلها كانت من مهام المرأة الرزيقية المُرْهَقة. وكانت الأم الرزيقية تفيد مباشرة من ممتلكات الدينكا المنهوبة، بما في ذلك الملابس المستعملة وأدوات الطهي، وحتى أكواب الماء.
...
قال لي محرر الرقيق مانجوك جييل مانجوك، من قرية قوق مشار، إن أهله الرزيقات، وهكذا كان يشير إليهم، "أهلنا دا"، فقد كانت أخت مانجوك الدينكاوية متزوجة من تاجر الرقيق الزريقي المعروف والمشهور آنذاك، عمدة أبو مطارق، فضل النبي سالم أبو كلام، قال لي إن أهله الرزيقات في عدوانهم على الدينكا بهذه الغزوات الإجرامية كانوا ينهبون كل شيء، حتى ملابس النساء، بما في ذلك "الجَبون" المعروف، وإنهم اختطفوا آلاف الأولاد والفتيات، "بت الرَّبَّاي، والنساء من "الجنوب":
...
"أهَلنا دا لَمَّن قام شهر اتنين، جا بْشيل سُكر، بَشيل لِباس بِتاع نُسوان، جَبونة، خَلَق بتاعو كويس، شنو بتاعو كويس، ... مَرتَبة زي دا، كُلُّو بَشيلو. أنا بَراعِي في عيوني، أنا ما بَكدِب بقول ليهو سِمع في أداني، الشَّالا أنا بَراعِيْ.
"بشيل لحدي جَمْسِيَّة بتاعي، شالوا أي حاجة في بلدنا هناك ما خلوه، شالوا بِتاع الموية البَشرَب بي دا، كُلو هم شالوه. .... مشوا هناك جابوا ناس، أنا بسمع في، قالوا جابوا سبعة آلاف مَرَة وولد، لي بِتْ الرَّبَّايْ، دي جابوا في [من] الجنوب".

ولنتذكر المجاعة التي أحدثتها هذه الغزوات الإجرامية المدعومة من قبل حكومة الصادق المهدي في العام 1988 حين اضطر الدينكا إلى النزوح إلى دار الرزيقات المعذبتهم ذاتها واستغل حالتهم رجالُ الرزيقات وضامنوهم الذين استولوا على أطفال الدينكا الجوعى بصكوك مكاتبات خداعية لقاء قليل المال والغذاء للآباء مما أفضى إلى وضعيات للرق جديدة.
وكذا وفرت مذبحة الضعين معينا لحصول المرأة الرزيقية بالضعين وخارجها على خدمات إضافية مجانية بواسطة الفتيات والأطفال الذين تم اختطاف عدد مقدر منهم في سياق دوران المذبحة.


...
(6)
تفكروا في تورط المرأة الرزيقية في تنفيذ المذبحة وفي الرق
كانت المرأة الرزيقية، كامرأة، متورطةً في المشاركة المباشرة في تنفيذ الجرائم ضد المدنيين الدينكا في مدينة الضعين، وفي دار الرزيقات، وكذا بالامتداد في منطقة شمال بحر الغزال. فقد كانت هذه المرأة الأكثر استفادة من جرائم استرقاق الأطفال والفتيات والنساء الدينكا، وكانت الأكثر قربا من تثبيت علاقات الرق في المجتمع الرزيقي، بمعلاق تخليصها، كامرأة، من مشقة الحمل بأطفال إضافيين، ومن مشقة تربية الأطفال، ومن مشاق الأعمال المنزلية المتكثرة التي كانت المرأة الرزيقية مكلفة بها في سياق علاقات الجندرة السائدة.
...
وكذا خَلَّص الرقُّ المرأةَ الرزيقية من كثير الاعتداء الجنسي والاستغلال الجنسي وقد تمت إحالته نسبيا إلى الفتيات والنساء المسترَقَّات من قبيلة الدينكا. وسهَّلت بعض النساء الرزيقيات لأزواجهن اغتصاب فتيات الدينكا اليافعات المسترَقات أو المتروكات في عهدتهن في أوضاع السودان المعقدة.
...
وشاركت النساء الرزيقيات في مذبحة الضعين بتحريضهن الرجال وتشجيعهم على تقتيل الدينكا المحاصرين في عربات السكة الحديد وفي حوش البوليس بالمحطة، وكذا كن شاركن بفعالية في حرق مساكن الدينكا في حلة فوق يوم الجمعة 27 مارس 1987، ثم منعن عربات الحريق من إطفاء النيران، وكن مستفيدات من توسعة بيوتهن بالبناء فوق الأرض المتروكة بعد طرد الدينكا منها. وهن شاركن مباشرة في مطاردة الدينكا وضربهم بالعكاكيز في تلك حلة فوق، وفي منع الجرحى الدينكا من دخول المستشفى يوم السبت، وفي التقتيل المباشر والحرق والنهب واختطاف الأطفال في محكة السكة الحديد.


...
(7)
فهاتان امرأتان: زهرة بت العمدة وتيجوك دوت أنيي
فللتمثيل لمشاركة المرأة الرزيقية في المذبحة، أعود إلى السيدة الرزيقية زهرة بت العمدة، أيقونة مذبحة الضعين. حين كانت زهرة متحزِّمةً ومرابِطة أمام العربات الحديدية المتوقِّفة على القضيب الثاني في محطة السكة الحديد، لتعتدي بسكينها على أفراد الدينكا الذين كانوا يضطرون إلى النزول من العربات الموقدة بالنيران يريدون الفرار، وكانت زهرة تنتظرهم بسكينها، للطعن وللنهب.
نعرف أن هذه السيدة الرزيقية المرابطة اعتدت على الدينكاوية تيجوك دوت أنيي بمجرد نزول تيجوك من العربة الموقدة بالنيران، فطعنت زهرة تيجوك في جنبها ورأسها، وفرفَصَتْ من تحت فستان تيجوك المقاوِمة ومن قبضتِها محفظتَها، ونهبت منها مبلغ الألف جنيها في المحفظة. ثم خمشت زهرة من بين يدي تيجوك طفلتها الرضيعة، أدوانج وهربت بها خارج الضعين إلى قريتها كريو. مستغِلَّةً حالة الاستضعاف والرهق لدى تيجوك التي كان الرزيقات المسلحون المعتدون على الدينكا داخل العربة الحديدية الموقدة بالنيران قتلوا للتو زوجها دينق لوال.
...
فلنتوقف عند هذه الواقعة لتكييف الوضعية القانونية والموضوعية للمرأة الرزيقية كجانية مقترِفة للجريمة ضد الإنسانية. فهذه أفعال الرزيقية زهرة بت العمدة لم تكن من نوع الجريمة العادية، بل يتم تكييفها في القانون الجنائي الدولي على أنها من "الجريمة ضد الإنسانية"، تحديدا بسبب وقوع هذه الأفعال ذات الشناعة الممتهنة لكرامة الإنسان كإنسان، وقوعها في سياق "هجوم واسع النطاق أو منتظم " ضد مدنيين، هنا مجموعة الدينكا في محطة السكة الحديد، وفي المدينة.
فواضح من كل واحد من الأفعال الفظيعة المحددة التي أتتها زهرة بت العمدة، أن زهرة، كرزيقية، كانت جاءت بسكينها إلى محطة السكة الحديد وهي على علم سبقي بهذا "الهجوم واسع النطاق أو المنتظم"، وبطبيعته، والمدنيين المستهدَفين به، وبمقاصده.
وثابت القصد الجنائي في إتيان زهرة بكل واحد من تلك الأفعال الشنيعة التي اقترفتها وسببت بها الضرر لتيجوك دوت آني التي عاشت بعدها حياة قاسية ليس فقط بسبب العذاب النفسي في البحث عن تلك طفلتها المخموشة التي استعادتها تيجوك بعد شهور عديدة من زهرة في قرية كريو، والبحث عن أطفالها الأربعة الآخرين المخطوفين أيضا، وإنما كذلك بسبب الأوجاع والأمراض الجسدية المستمرة المتأتية من تلك الطعنات في الكِلية والرأس بسكين زهرة بت العمدة، وماتت تيجوك دوت أنيي في العام 2010 في مستشفى بأم درمان، وهي في الخمسين تقريبا، بسبب ذات تلك الجراح التي لم تندمل، من ذات تلك اليد الشريرة يد زهرة بت العمدة الرزيقية صاحبة السكين.


...
(8)
لاحظوا التماثل بين مذبحة الضعين ومذبحة بابنوسة
وينطبق كامل أعلاه على قبيلة المسيرية في علاقتها بالدينكا نقوك، وبالدينكا في شمال بحر الغزال. فبالإضافة إلى مشاركة المسيرية مع الرزيقات في غزوات مشتركة ضد الدينكا في شمال بحر الغزال، في بداية العام 1986، وإلى المفظعات الجماعية في دعم مليشيات المسيرية قطار الجيش بابنوسة - واو لقاء تسهيل الحكومة للمسيرية قنص الرقيق ونهب الأبقار، هنالك "مذبحة بابنوسة" و"مذبحة المجلد"، قبل عشرين عاما تقريبا من مذبحة الضعين.. ويظل الجناة الأحياء الذين خططوا لتلك العمليات الوحشية في "دار المسيرية" ونفذوها وتستروا عليهما مفلتين من العقوبة حتى هذا اليوم.
...
كتب الدكتور عبد الباسط سعيد عن "مذبحة بابنوسة" فصلا في رسالته لشهادة الدكتوراه في علوم الأنثروبولوجيا بجامعة كنيتيكت الأمريكية في العام 1982. هذه الرسالة من أكثر الدراسات تميزا، وهي تعتمد المنهج الماركسي لتحليل الصراع بين المسيرية والدينكا نجوك في سياق التغييرات الاقتصادية الاجتماعية في المنطقة آنذاك.
فيما يلي نقرأ ما كتبه د. عبد الباسط في تقديمه للظروف التي وقع فيها حدث مذبحة بابنوسة بتاريخ في نهاية فبراير 1965:
...
"في ذلك السياق المتوتر، أصبح الناس من الجنوب في هذه المدن [بابنوسة، الفولة، لقاوة، المجلد] أهدافا متاحة للاعتداء، والنهب، والقتل، والتخويف بواسطة الأغلبية الشمالية المقيمة بالمدينة (223-224).
"هرع الجنوبيون المفزوعون إلى الشرطة والسلطات المحلية طلبا للحماية. وطالبوا بأن يتم ترحيلهم من تلك المدن (بابنوسة، المجلد، الفولة، لقاوة) إلى الجنوب، وأن يكون الترحيل تحت حماية الشرطة.
"حاجج الجنوبيون بالقول إن حماية الشرطة لهم وترحيلهم إلى الجنوب كانتا الضمانة الوحيدة لسلامتهم من الهجوم بواسطة المسيرية في المدن ذاتها أو في الطريق إلى الجنوب.
"بينت الأحداث اللاحقة أن الجنوبيين لم يتلقوا أية حماية حتى حين كانوا في مراكز الشرطة، لكن السلطات المحلية انصاعت وبدأت في ترحيل جميع أولئك الذين كانوا تجمعوا في محطات الشرطة في الفولة والمجلد وبابنوسة، ترحيلهم إلى أبيي (224)".
....
ذلك كان ما جاء في رسالة د. عبد الباسط، كالمقدمات لوقوع "مذبحة بابنوسة". فبعد إيراد هذه المقدمات أعلاه، ترجم د. عبد الباسط "تقرير الشرطة" عن مذبحة بابنوسة، من أصله بالعربية، ولأنه لم يرفق صورة من الأصل العربي في رسالته، أُترجِمُ هنا إلى العربية ترجمته الإنجليزية:


...
(9)
ابحثوا عن تقرير الشرطة باللغة العربية عن مذبحة بابنوسة
...
"كان الوضع في بابنوسة أكثر خطورة وقابلية للانفجار. فقد اقتحمت جموع غفيرة من النساء والأطفال [المسيرية] مركز الشرطة الذي كان تجمع فيه الجنوبيون طلبا لحماية الحكومة. وكان هؤلاء الجنوبيون تحصلوا من الشرطة على وضعية كفلت حمايتهم داخل الغرف المتاحة في مركز الشرطة.
"كانت النسوة والأطفال مسلحين بالكيروسين والكبريت. وهم صبوا الكيروسين فوق الجنوبيين العزل وأشعلوا فيهم النيران.
"عندما وصل محافظ المديرية، وهو موظف الحكومة المحلية إلى المكان، في الساعة الثانية والنصف بعد الظهر، كان كل شيء قد انتهى. وكانت النار مشتعلة في الجثث داخل الغرف.
"وجد محافظُ المديرية كبيرَ رجال الشرطة رئيس المركز في معية ناظر المسيرية، وكانا جالسين تحت الشجرة أمام مركز الشرطة.
"حينئذ، كان المهاجمون عادوا إلى بيوتهم، فيما عدا قليلين منهم ظلوا واقفين بعيدا يتفرجون.
"رفض جميع سكان بابنوسة تقديم المساعدة في إطفاء النيران.
"ورفضوا أيضا تقديم المساعدة لحفر مقابر لدفن الضحايا. ولم يكن من سبيل إلا ترك النار تنتهي من مهمتها.
"اثنان وسبعون شخصا تم حرقهم حتى الموت. تم إنقاذ ستة أشخاص فقط منهم: منهم طفل كان أخفاه أحد العمال، وامرأتان وثلاثة رجال أنقذتهم الشرطة.
"كانت الشرطة مجهزة بسبعة عشرة رجلا مدرَّبا وكانوا مسلحين بالبنادق، وكان لدى رجال الشرطة أربعة قنابل مسلة للدموع. فتثور عدة أسئلة لكون رجال الشرطة لم يستخدموا القنابل المسيلة للدموع ضد المهاجمين".
...
هنا انتهت ترجمة "تقرير الشرطة" عن الجريمة المركبة في "مذبحة بابنوسة".


...
(10)
أهمية تقرير الشرطة في تبيين أن المذبحتين في بابنوسة والضعين متشابهتان جزئيا
تكمن أهمية تقرير الشرطة الذي أورد ترجمته د. عبد الباسط في أن بنية الحدث في التقرير عن مذبحة بابنوسة هي ذاتها بنية حدث مذبحة الضعين بعد عشرين عاما. فبالرغم من أن كل مذبحة تختلف عن أخرى، إلا أن التباين محدود، بعلة كونية البنية الدماغية التي تولد ذات هذه المفظعات الجماعية في سياقات محددة بمكوناتها، مثلما هو كان موجودا في مذبحة بابنوسة ومذبحة الضعين.
...
فهذه بعض أوجه التماثل العميق بين المذبحتين اللتين تفرق بينهما خصائص كذلك مهمة. ولعلنا نتعلم من ذلك كيف يمكن منع بعض المذابح في سياقات اجتماعية محددة.
أولا،
تماثل السياقين، في دوران كل مذبحة من المذبحتين في سياقِ ذاتِ العلاقات العنصرية الفظيعة، والحرب، وإجرام النظام الحاكم، والترتيبات السياسية الشائهة، والثقافة المحلية، والتاريخ. وقد أشار د. عبد الباسط في رسالته إلى البعد المتعلق بالأيديولوجية الإسلامية ونفاقها. وتندرج القبيلتان تحت إطار جماعات البقارة التي نزحت من غرب أفريقيا واحتلت أرض الحزام في المنطقة شمال نهر كيير الذي يسميه العرب البقارة "بحر العرب".
ونعرف من كتب التاريخ والرحالة أن لكل واحدة من القبيلتين تاريخا عميقا ذا جذور في ممارسة الرق، وفي النهب، وأن زعماء القبيلتين اندرجوا في تجارة الرقيق منذ القرن الثامن عشر وقبله وحتى بدايات القرن العشرين، وفيما بعد أيام حكومة الصادق المهدي، وخلال نظام الإنقاذ نفَّذت كل قبيلة لوحدها أو بالمشاركة مع الأخرى غزوات متتابعة لقنص الرقيق من مجتمعات قبيلة الدينكا في منطقة شمال بحر الغزال.
وشاركت القبيلتان في المجهود الحربي مع جيش الحكومة، وهو كان جيش احتلال، شاركتا في محاربة قوات التحرير، فغضت حكومة الصادق المهدي وحكومة الإنقاذ الطرف عن عمليات الاسترقاق وتنفيذ المفظعات الجماعية ضد الدينكا.
وقد قدم د. عبد الباسط في متن رسالته أمثلة لعمليات النهب والتقتيل والعدوان بواسطة قبيلة المسيرية، وكذا تحدث عن تاريخ المسيرية وزعمائهم في تجارة الرقيق ضد أهل جنوب السودان وضد الفرتيت في جنوب غرب دارفور.
ولا يغير من شناعة ذلك أن العصابات الإجرامية الفاسدة من الحركة الشعبية في جمهورية جنوب السودان نفذت في السنتين الماضيتين مفظعات جماعية شبيهة بل أشد هولا، بما فيها الاسترقاق والاغتصاب والنهب وتدمير المنازل والتقتيل والتمثيل بالجثث والتطهير العرقي.
ثانيا،
مشاركة المرأة والأطفال من الرزيقات والمسيرية في تنفيذ المذبحتين. فقد ركز د. عبد الباسط على ما رآه غرابةَ مشاركةِ المرأة والأطفال من قبيلة المسيرية في تنفيذ المذبحة في بابنوسة ضد الدينكا نجوك. حتى انه كتب في رسالته "من يُسَمّون بالنساء والأطفال"، في إشارته إلى أن الجناة في مذبحة بابنوسة كانوا حصرا من النساء والأطفال، بينما نعرف أن التخطيط لابد كان ذكوريا.


...
(11)
لا تنسوا مشاركة قبيلة المعاليا في تجارة الرقيق
وينطبق الأمر ذاته على قبيلة المعاليا التي يتحدث مثقفوها عن "الإبادة" بواسطة قبيلة الرزيقات ضدهم، وتتصنع قبيلة المعاليا البراءةَ بينما لها تاريخ موثَّق في أوراق منظمة اليونيسف عن دورها في تجارة الرق، ولنسم الأشياء بأسمائها، ففي زمان الفالصو لابد من الإفصاح عن المعاني المقصودة دون اكتراث لحساسية مصطنعة.
تريد قبيلة المعاليا المبالِغة عبر خطاب مثقفيها في تصوير نفسها كالضحية دائما، تريد طمسَ ماضيها ومنه ما هو حاضر في مشاركتها في تجارة الرق مما بينته في وجود الأطفال والنساء الأرقاء في بيوت أسر المعاليا في عديلة وأبو كارينكا وكليكيل السلام.
في العام 1999 كان المعاليا يحتفظون بألف وسبعمائة من الأطفال والفتيات والنساء الدينكا في وضعية الرق، من بين 3700 من الرقيق في منطقتهم، فقد كان يشاركهم في تجارة الرق الرزيقات الرعاة المترحلون موسميا عبر منطقتهم أو المستقرون فيها.
وافقت قبيلة المعاليا على مضض، بعد أن فرضت اليونيسف عليها مشروع تحرير الأرقاء بواسطة هيئة سيواك الحكومية، وأذكر من التقارير أثناء إدارتي برنامج حماية الأطفال في اليونيسف خلال تلك الفترة في نهاية التسعينات من القرن الماضي أن المعتمد الإسلامي في عديلة حينئذ رفض تحرير فتاة من الدينكا وادعي باحتيال الإسلاميين المعروف أن البنت "أسلمت" فلا يمكن أخذها إلى دار الدينكا!
وذلك كاف لتبيين أسباب تعثر المشروع، فلم يتم تحرير جميع الأرقاء بسبب وضع الحكومة والقبيلة معوقات أمام التنفيذ.
...
فعليكم أن تضيفوا معكم إلى المشروع شبابَ المعاليا في الجامعات السودانية.
وكذا ينبغي الحذر إزاء التذاكي بالقول الساري إن "تجارة الرقيق" لا يمكن أن تكون كانت موجودة هنا، بحجة أن "التجارة" هي فقط ما نجده في "السوق العلني بيعا وشراء"، فأين "السوق"؟ فكم تم تجريب هذه الخدعة الخائبة.
يكفي أن نذكر هنا أن "اتفاقية الرق"، وبعد أن عرَّفت الرق في المادة الأولى بأنه "حالة أو وضع أي شخص تُمارس عليه السلطات الناجمة عن حق الملكية، كلها أو بعضها"، التفتت في المادة الثانية إلى تعريف "تجارة الرقيق" بأنها "تشمل جميع الأفعال التي ينطوي عليها أسْرُ شخص ما أو احتيازه أو التخلي عنه للغير على قصد تحويله إلى رقيق، وجميع الأفعال التي ينطوي عليها احتياز رقيق ما بغية بيعه أو مبادلته وجميع أفعال التخلي، بيعا أو مبادلة عن رقيق تم احتيازه على قصد بيعه أو مبادلته، وكذلك، عموما، أي اتجار بالأرقاء أو نقل لهم".
...
وجاء في موجهات بيلاجيو للتعريف القانوني للرق بأن الرق ينطوي على "التحكم في شخص بالطريقة التي ستحرم هذا الشخص، بدرجة مقدرة، من حريته الشخصية، قصد استغلال هذا الشخص من خلال استعماله [استخدامه] وإدارته والربح منه وتنقيله أو التخلص منه. وتكون هذه الممارسة متحصلا عليها، في العادة، عبر وسائل القوة العنيفة والخداع و/أو القهر".
بالإضافة إلى تحديد موجهات بيلاجيو أن "حق الملكية" بشأن شيء، هنا الشخص المتحكم فيه، يعني "الاستحواذ" على هذا الشخص الشيء، ويصبح "الاستحواذ" أمرا تأصيليا لفهم الرق وتعريفه "حتى حين لا تدعم الدولة حقا في الملكية بشأن الأشخاص".


...
(12)
إليكم خطورة الموضوع
فهذا موضوع خطير يتعلق اليوم بلزوم تجلية الشباب حقيقةَ تاريخ المذابح والرق والمفظعات الجماعية في مجموعاتهم العرقية، وفي ذلك مدخل إلى القضايا الاجتماعية الاقتصادية والسياسية الأخرى، بما فيها قضية السودان الكلية.
فهذه الموضوعات عن الرق والمفظعات الجماعية، بطبيعتها وتعقيداتها في مناطقكم الأولية وبعلاقاتها بما يسمى "المركز"، قد تستفزكم، وقد تشعركم بخجل قبيلي أمام العالم حولكم، لكنها تدرِّبُكم على التفكير الحر، وعلى الانتقاد، بل فيها انعتاقكم من قيود القبيلة، كالمقدمة لمقاومة الترتيبات الراهنة المصبوغة بالعنف، ولمقاومة "اللغة الفاشلة" عن تاريخ القبيلة وفرسانها وفرادتها وثقافتها وحساسية موقفها، بينما كله إن تمعنتم فيه تجدونه خرافات ومحض كذب وخدْعاً للذات.
فما "الفرسان" إلا مجرمون تافهون، وما تاريخ القبيلة إلا هو تاريخها في تجارة الرق والعنف والنهب والعنصرية، إلا إذا أردتم إلغاء التاريخ فيما يتعلق بهذا الموضوع المحدد محل المحادثة، والتاريخ هنا هو تاريخ المفظعات الجماعية وتاريخ العنصرية.


...
(13)
في زمان الدولة الإسلامية
فها قد مرت ثلاثون عاما على الجريمة العالمية ضد الإنسانية في مدينة الضعين وفي منطقة الرزيقات، وهي الجريمة التي تتطابق هنا مع جريمة الإبادة الجماعية، فتصبح جريمةً مركَّبةً لا تُنسى، ولا تَنتهي بتقادم، ولا يُسقطها قيدٌ قانوني من أي نوع، مدى الحياة، وبعد الحياة بعلة تعددية المشاركين فيها، أي إن الجناة الأحياء يظلون موضوعا وقانونا مفلتين من العقوبة وفارين من العدالة. وهم:
(1)
القيادات القبيلية الرزيقية التي شاركت في التخطيط لمذبحة الضعين ثم تغيبت هذه القيادات من المدينة أثناء التنفيذ، وهي كانت أيضا متورطة في الإتجار في الرق وفي الاحتفاظ بأرقاء في بيوتها، على نهج القيادات الرزيقية السابقة، وهي التي تسترت على الجناة الآخرين ودلست على حقائق المذبحة والرق؛ أيضا لا يغير منه أن أحد هذه القيادات عيسى محمود موسى مادبو ساعد في تحرير السيدة أبوك مشام من رجل المليشيا الرزيقي آدم عبد الرحمن في قرية سوق بَيِّن.
(2)
الأجهزة القبيلية الحرابية مثل المليشيات ذات الكينونة المعروفة بفرسانها، ومثل روابط شباب الرزيقات المكلَّفة بمهام "النظافة والكنس"، ومثل الحَكَّامات المحرِّضات على الكراهية والعنف وبث المشاعر العنصرية، وهي الأجهزة القبيلية التي شاركت بتلك هيئاتها وبمواردها الخطابية والعضلية في تنفيذ المذبحة.
(3)
أعضاء القبيلة المحددون بأسمائهم الذين نفذوا بأيديهم أفعال حرق الأجساد الدينكاوية حية، مثل إسماعيل نيوبي الكموسنجي المعروف في سوق الضعين، وقد علمت في العام 2015 أن إسماعيل كان حيا يرزق حرا طليقا بمدينة الضعين، بينما هو مسؤول جنائيا مع آخرين من بينهم صبية عن حرق أكثر من سبعمائة طفلا وامرأة وبعض الرجال في حوش البوليس بمحطة السكة الحديد بتاريخ 28 مارس 1987.
بالإضافة إلى الجناة أعضاء المليشيات الذين شاركوا في الغزوات المسلحة لقنص الرقيق ونهب الأبقار والممتلكات من الدينكا، وسأذكر في مقال مخصص أسماءهم الموجودة في أوراقي علها تعين الشباب في البحث عنهم والتعرف عليهم ودراسة ماضيهم في الإجرام، وكذا دراسة الذين أصابهم تأنيب ضمير فتركوا مجال الإجرام، مثل إسماعيل رائيل/راعيل الذي عاش في أبو مطارق وكان من "فرسان" الرزيقات المشهورين منذ العام 1975 في حرب الدينكا والرزيقات، لكنه في العام 1986 باع مدفعه وفرسه وهجر دار الرزيقات إلى منفاه الاختياري في مدينة راجا.
(4) قبيلة الرزيقات، كقبيلة لها عقل شرير ويد شريرة حين تحركت بتلك قياداتها وأجهزتها الحرابية وبأفرادها المعتمدين، لتنفيذ مذبحة الضعين ولممارسة الرق والنهب.
(5) حكومة الصادق المهدي، أكثر الجناة شطنا، كذلك بقيادتها ومؤسساتها الإجرامية المركزية والمحلية، وبأفرادها المعتمدين، وأفعالها وسلوكياتها في التستر على الجناة، وفي نشر الأكاذيب عن المذبحة والرق، بالإضافة إلى رفضها مجرد التحقيق في المذبحة، وهو إجرام البرلمانيين وعنصريتهم المسجلة للتاريخ حين أسقطوا بالتصويت مقترح إجراء تحقيق في المذبحة التي قتل فيها أعوانهم الرزيقات أكثر من ألفين وخمسمائة شخصا من الدينكا، 90% منهم كانوا من الأطفال والنساء، في يوم واحد.
...
جميع هذه الكيانات أفلتت من المحاسبة على الجرائم العالمية الموضوعها مذبحة الضعين والرق. وتظل هذه الكيانات المؤسسية والفردية حتى يومنا هذا بعد ثلاثين عاما مفلتة من المحاسبة والعقوبة، تحديدا بسبب أنا نعيش على مدى ما يقارب الثلاثين عاما في زمان الدولة الإسلامية الإجرامية الفاسدة، الإنقاذ، التي كذلك أنتجت هي الأخرى مفظعاتها الجماعية الخاصة، بمذابحها وبإبادتها الجماعية وبجرائمها ضد الإنسانية، وبالتطهير العرقي، وكذا اعتمدت ذات سياسة تسهيل الرق وتنقيل الأطفال الدينكا ومن قبائل غير الدينكا، بواسطة الضباط والعساكر والمليشيات، إلى المجتمعات العنصرية في شمال السودان، واعتمدت الاحتيال سياسة تتظاهر بها أمام المجتمع الدولي حين سهلت تحرير عدد قليل من الأرقاء بواسطة برنامج سيواك، وما أن استقل جنوب السودان غلقت البرنامج وطوت صفحته بينما ظل آلاف الأرقاء في قبضة ملاكهم في دارفور وكردفان.
...
إن الإسلاميين قادة هذا الدولة الإسلامية غير قادرين على تقديم الجناة إلى المحاكمة أو رد الحقوق لأهلها، وهم غير راغبين في ذلك، ولذر الرماد على العيون أدخلوا في العام 2010(؟) تعديلا احتياليا في القانون الجنائي السوداني 1991 لذر الرماد على العيون وأدرجوا بالتعديل في نص القانون مواد جريمة الإبادة الجماعية والجريمة ضد الإنسانية وجرائم الحرب.
غير قادرين ولا راغبين، كذلك بسبب أن خمسين منهم متهمون لدى المحكمة الجنائية الدولية بشأن جرائم مشابهة لمذبحة الضعين ولجريمة الرق، وكذا مطلوب القبض على رئيسهم عمر البشير ووزيره للدفاع عبد الرحيم محمد حسين المتهمين بجريمة الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب في دارفور.
...
وفوق ذلك كله نجد بين الجناة (6) فئة المثقفين، أولئك الذين انتفضوا بالهمة لتغييب حقيقة المذبحة وحقيقة الرق، فروجوا الخرافات وأشكال التلهية من كل نوع، ومنهم من سكت يحسب أن صمته كفيل بطمس حقيقة المذبحة وحقيقة الرق وبإسكات الضحايا ومسح ذكراهم من التاريخ.


...
(14)
هكذا أرى مسؤولية الشباب إزاء المفظعات الجماعية
أما أنتم شباب الرزيقات، وشباب المسيرية، وشباب المعاليا، وهي التسمية بالقبيلة في طريقها إلى التلاشي خلال أعوام قليلة، فلا مسؤولية جنائية عليكم بشأن المذبحة أو الرق مما اقترفه آباؤكم وأمهاتكم وقيادات القبيلة وعدد من مثقفيكم قبل أن تولدوا في واحدة من أسوأ دول العالم ليولد فيها طفل، الدولة الإسلامية الإجرامية الفاسدة في السودان.
لكن، وقد تم بمحض الصدفة البيولوجية القذف بكم في هذه الحياة القبيلية المحددة مكانا وزمانا وتاريخا وثقافة، في سياق كارثة الإنقاذ، وفيها هذه الحياة القبيلية هذا الميراث الثقيل بمذابحه ورقه وخرافاته وبقية مآسيه، تظل مسؤوليتكم الأخلاقية ذات البعد المعرفي باقيةً لا يمكنكم التنصل عنها. وهي مسؤولية متمددة تطال جميع الشباب المثقفين في السودان وجنوب السودان.
...
ومن هنا لزوم بدئكم الإمساك بهذه القضية، قبل فوات الأوان، فهي قضية ذات محلية قبيلية بالدرجة الأولى، بعد أن فشل أولئك المثقفون في الأربعين وما بعدها في ملامستها بغير الإنكار الضعيف أو الصمت المدوي، ومن هنا أيضا لزوم الانتقال بالتفكير لديكم إلى آفاق جديدة تستشرفونها، بما في ذلك إلى آفاق المقاومة المعرفية، بأن تطالبوا بإدراج قضية "المفظعات الجماعية في السودان"، مثل هذه المذبحة ومثل هذا الرق، في مناهج الفلسفة والتاريخ والعلوم الإنسانية والاجتماعية، والاقتصاد، في الجامعات. وأن تندرجوا في دراسات اثنوجرافية تاريخية انتقادية في مجتمعاتكم المحلية.
...
فليست قضية مذبحة الضعين وقضية الرق مهمتين لذاتهما فحسب، ولكنهما مهمتان لأن في مقاربتهما من قِبل الشباب إمكاناتُ تحرير الفكر الشبابي واعتماد الأخلاقية في مقاربة القضايا الجوهرية الراهنة، وهي قضايا تتلخص تجريبيا في حاضر إجرام الدولة الإسلامية وإرهابها وفسادها وعنصريتها.
ولولا حظ السودان التعيس بهذي قسمة الحركة الإسلامية والحركيين الإسلاميين، وهو الحظ التعيس له مادية تاريخية، لكانت القضيتان تم الفصل النهائي فيهما منذ زمن، ولكانت هذه الذكرى الثلاثون مثار فخر واعتزاز بين الشباب السودانيين أنهم يلاقون العالم بدون هذي قيود المفظعات الجماعية المحفورة في الدماغ.
...
فلتنظروا بمبصار مذبحة الضعين ومبصار الرق لتشريح أقوى دولة إسلامية في تاريخ الدولة الإسلامية، هذي مسخ الإنقاذ نتاج فكر الحركة الإسلامية السودانية وعدم قدرة الحركيين الإسلاميين السودانيين على التفكير.
أقوى دولة إسلامية من حيث القوة المادية والسيطرة الكاملة على مفاصل الدولة. ومن حيث الموارد المالية والأصول والمعارف والتقنيات التي توفرت لها دون معقب عليها من الشعب. وقوتها كذلك في نذالة المثقفين الإسلاميين ووحشيتهم.
ومع ذلك كله من القوة بالحديد والنار وبالتعذيب، عاشت هذه الدولة الإسلامية القوية عمرَها ثمانية وعشرين عاما محكوما عليها بالفشل منذ ميلادها، وهي اليوم تقارب الثلاثين لكنها ليست سوى جثة متحركة، تحديدا بسبب إسلاميتها، هذه العقيدة السياسية المحتلة مكانها مع الستالينية والنازية والفاشية مخلَّطةً بوحشية الليبرالية الجديدة، وهي العقيدة السياسية إدراجُ الدين في الدولة لا تأت إلا ومعها هذي مفظعاتها الجماعية واحتيالها وفسادها.
...
هكذا تثير الذكرى الثلاثون لمذبحة الضعين الهمَّ بجميع مفظعات السودان التاريخية والراهنة. وفي هذا الهم، دائما من قبل الشباب السودانيين جميعهم، الإجابة عن التسآل الذي بدأتُ به هذا المقال، عن كيف يتخلق المثقفُ الناطقُ الصامتُ؟
والإجابة الشبابية إنما تكون بإلغاء السؤال ذاته. فإن الشابة المثقفة الناطقة لا تعرف الصمت إزاء هذه المفظعات الجماعية، وإنها مع الشاب المثقف غير مكترثين لذلك المثقف فوق سن الأربعين وهو صامت، أو هو الناطق يتحدث بلسانين مقطوعين.
فمحور المقاومة الشبابية قائم في جدلية الأمل في التغيير. وهو الأمل الذي يتم تركيبه في سياق دوران المغالبة الشبابية مع كارثة السودان الحاضرة ومع حضورها في المستقبل. تركيب الأمل بإعمال الفكر المُحرَّر من الخرافات والغيبيات لتحليل المفظعات الجماعية مثل مذبحة الضعين والرق، ولفهمها وتفسيرها، واتخاذ موقف أخلاقي إزاءها يكون منسوجاً بالغضب الساطع.


.
عشاري أحمد محمود خليل
ushari@outlook.com
31 مارس 2017

 

آراء