- من أي زمان قدمت علينا؟. روائحك تحلّق من حولنا منذ سنوات !.
أشعث أغبر أنتَ، تمشي كمن ينحط من صبب . أقدمت أنت من هناك؟ لمن تركت قرابة النبي موسى ، أهم بخير؟ أمتّه ، كيف حالها؟ . كنت رفيق أحلامنا منذ زمان، يا لسعدنا بك اليوم. أشهدك الآن أمامي عياناً بياناً!. زمان مضى قبل طلَّتك البهية بيننا. من يستطع معك صبراً حتى يتبعك ؟. أقدمت وحدك إلينا؟ . أي نعيم أطل علينا هذا اليوم ! بين الدهشة وتعب المَسير ، يأخذ عبد الرحيم نَفَساً عميقاً : - ............. - تعال إلينا فقد حان بمقدمك موعد الغيث وسينتهي عام ( الرَّمادة ) عندنا. تذوَّق معنا فاكهة الصحراء . تُفاحنا جاف نسميه ( الدوم )، العنب عندنا جاف أيضاً و نسميه ( النبق )، التمر أنت تعرفه. الذبائح تنتظرك لتكبر عندها. نحن أبناء كرام بمقدمك، لا يحزننا نقص الأنفس والثمرات فهو امتحان لصبرنا. اليوم فرحنا العظيم، إنك نصير خليفة المهدي هنا. يراك هو في أحلامه وحَضَراته. قويَّت شوكتنا بك، اليوم أيتها الفرنجة حلّ يوم قتالكم والنصر قادم بإذن الله. صدق المهدي إذ أخبر الخليفة بأنك قادم إلينا، لتنصرنا على أعدائنا وأعداء الإسلام . تخيَّر عبدالرحيم الخيار الجَسور فقال : - أنا اعتدت السفر مشياً، بلغت أرضكم صدفة و إنني اليوم صائم . وقع رده وقوع الصاعقة. تهللت الأسارير، فقد صدقت فراسة أحد أهل الحلَّ والعقد في مجلس الخليفة . تبسم قائلاً : - رزقنا المولى بك. تلك بلادنا كما ترى، نُعرّفك بها. أنت ضيفنا اليوم وكل يوم. الأرض تُزهر بوجودك بيننا. وقت صلاة العصر قد أزف ،لنتوضأ. تعال يا ( دفع الله)، فعندنا وليٌَ من أولياء الله. جهزوا له غرفة الضيافة . ساعة زمان، ثم انتظم الجميع خلف إمامة عبدالرحيم لصلاة العصر . - احضروا ( محمد ) الطفل الرضيع. سوف يؤذِّن ( الخَضِر ) في أذنه، ليباركه لنا. (2) ريح سموم، تحركت بين العصر وقبيل مغرب الشمس. اعتدل الطقس بعدها. تناول ( عبد الرحيم ) إفطاره عند الغروب مع بعض الصائمين من علية القوم، وقد تحلَّقوا من حوله يتبرَّكون . يتحين الضيف الغريب محادثة رجل يقف هادئاً قرب باب المضيَفة بزيه المُرقَّع مُمسِكاً رُمحاً . ابتعد عبد الرحيم قليلاً عن مُضيفيه في الزحام وتخير لحظة مناسبة، وأسرَّ إلى الرجل - سيدي إنني تائه، قدمت من سفر بعيد. إنني لست نبي الله ( الخَضِر ). إن اسمي ( عبد الرحيم ) وقدمت من ( المتَّمة ). تعجب الرجل ونظره ملياً، و ردَّ عليه بما يشبه الهمس : - لا تقل شيئا، ولا تذكر أنك من ( المتَّمة ). أنت قدمت من أرض بيننا وبين أهلها ود مفقود. الجهاد صديق الموت، والروح الصاعدة الى الملكوت لا ترجع ثانية إلى هذه الفانية . تذرّع بالصبر ، ولا تذكر اسم موطِنك ، فانه يجلب المتاعب عليك وعلينا جميعاً . - أرجوك دلني ، من هذا الرجل الذي كان يُرحب بي ؟ - إنه من خاصة الخليفة، رؤوف و مُحب . لسانه يقطر عطراً، وروحه نـزَّاعة للخير المُطلق . - الآن كيف الخلاص؟. لدي أقرباء يسكنون ( حِلة الشيخ حمد )، كيف الوصول إليهم؟ . - أنت لا تشبه أهلنا هنا، وصورتك أقرب الى ما وصفوه لنا من الحكاية عن ( الخَضِر ) عليه السلام. من أنت ومن قومك؟. - أنا "عبدالرحيم إبراهيم الغطاس". يقولون أهلنا خليط من الأشراف والجعليين والمَحس والعركيين. - لا أعرف كيف تصاهروا، نحن من أحباب الله . - الا تؤمن بالمهدي وخليفته؟ . - لا أعرف كثير شيء عن المهدية غير بعض الأخبار، معظمها عن الحرب والقتال . - يبدو لي مما أرى إنك من المتصوفة . - نعم، إنني من أحبابهم . - المحبة وحدها لا تكفي. إنني أحفظ أحد منشورات الخليفة عن ظهر قلب. اسمع الآن مقطعاً من أحداها فهي تهمك، فعينك مُبصِرة وسمعك جلي وقلبك يعرف: { ... وخليفة الإمام المهدي عليه السلام المثابة لأنه وارث مقامه الأعلى ، فهو أخبره بذلك فلا تسوغ مخالفته ، كيف وهو باب الحقيقة ومركز دائرة الطريقة!. فكل الأولياء من الإنس والجن أحياء وأمواتاً تحت حكمه. وفضلاً عن ( التيجاني ) فان الشيخ (عبد القادر الجيلاني ) الذي هو سلطان الأولياء سابقاً، ما هو إلا كالعوام في جنب أصحاب الإمام عليه السلام ، فأين له أن يتبع بعد هذا ! } توقف حديثه قليلاً ونظر ليرى أثر ما قرأ في وجه عبدالرحيم، ثم تابع: - أقرأ لك مقطعاً آخر : { …وقد نص صلى الله عليه وسلم بأن الإسلام بدء غريباً وأنه سيعود كما بدأ و إن الله تعالى يختم هذا الدين بمن يؤيده من أهل بيته صلى الله عليه وسلم وعنيَّ بذلك المهدي. وكما هو نائبه صريحاً في غير ما خبر وأخبر إن من كذبه أو شكّ في مهديته فقد كفر وماله غنيمة للمسلمين ودمه هدار } - لا اله إلا الله محمداً رسول الله !. - المهدية والخلافة أمر لا يشك فيهما أحد هُنا! . - القلب وما يهوى، اللهم اغفر لي ويسِّر أمري . - نعم للقلب أن يهوى، لكن مقامك هنا لا أراه يطول . - إنني الآن قد عرفت ما يجري هنا فما المخرج؟ . - حيرتني يا بُنيَّ، ...إنني قد أحببتك لوجه الله، فوجهك وجه سَكينة وصلاح، وليس بمقدوري غير نُصحَك . - ما الذي تراه؟. إنني أسترجي نقاء سريرتك وعزة الدِّين في ظاهرك. أرجوك ابحث لي عن مخرج .
- إن عرفوا حقيقتك هُنا فمصيرك مصير ( من غَشَّنا ليس منا ). - أترى الموت ينتظرني؟. يقول أصدق القائلين صلى المولى عليه وسلَّم : ( كل المُسلِم على المُسلم حرام ) . - صدق خير خلق الله وصدق خبرك عنه. إني قلق عليك، فلدينا هُنا بدعة جديدة في تنفيذ عقوبة الموت، أستجلبها بعض القادمين إلينا من مملكة بعيدة في السودان الغربي، إنها ( التَطويب ). - وما ( التَطويب )؟ - يتم تقييد اليدين والرجلين. ويبنون حول المحكوم عليه ( بالطين ). يستكملون البناء قُبةً حتى تكتمل قمتها وتغلق عليه. ( يختنق المحكوم ) ويصبرون عليه ثلاثة أيام بلياليها، ثم يكسرون قبة( الطين ) ويخرجونه ميتاً للدفن .
- يا إلهي!. ما ادعيت لأحد إني عبد من عباد الله الصالحين، ولم أقل إني قد أوتيت عِلماً ! - الأعمار بيد الله فهو صاحب الزمان والمكان، لكني سوف أنظر في نجدتك ما تيسر لي . - إن مصيري بين يديك، وما يُقدّره المولى فإني أرضاه حامداً شاكراً. (3) تفكر الرجل ملياً ثم ربَّتَ على كتِف عبدالرحيم وقال : - ستكون ضيف الخليفة اليوم ولن تُفارقه. مجلسه هو مكانك هذا المساء والجميع قد عرفوك بنبي الله ( الخَضِر ). نصيحتي لكَ: انصت قدر الإمكان، واقتضب عند الإجابة. أسأل قدر ما تستطيع عن عادات أهل البلد، فمن يسأل يُشغِل مُحدثيه بالإجابة ولا ينتبهوا. خير طريق إلى دار أقربائك هو أن تتعذر بقيام الليل مع الذكر. قراءة الأوراد مع المسير ليلاً من بعد صلاة العِشاء رياضة للبدن والروح، كما هي سُنة من سُنن ( الشيخ فَرح ) طيب الله ثراه. عند شاطئ النيل الغربي قُرب الأحراش، ليس المسير ببعيد. ارفع صوتك بالذِكر، ستسمع صوتاً يُردد ( يا باسط يا كريم ). اقترب منه فستجدني معك إن شاء الله. لديَّ قارب صغير يرسو دوماً على الشاطئ، سنعبر به إلى جزيرة توتي، ثم نتخطاها سيراً على الأقدام من غربها الى شرقها ثم أودِّعكَ. يوجد هناك رافد ضحل من النيل، تخوضه مخاضة لتدخل أنت غابة ( الصُنُط) . تعبُر بعد ذلك أرضاً وعرة بها من الهوام ما يعترضك فكُن ذاكراً بحق، فان للأذكار حصانتها للمرء. ستصل ( حلة الشيخ حَمد ) وتلقى أهلك بإذن الله . تبسم عبدالرحيم وانتعشت روحه : - ( شيخنا )، نعمت بمعرفتك و ما عرفت اسمك؟ - أنا عمَّك ( الأصم ) - أسال مولاي أن يمدك بالصحة و العافية ويجزيك من نعمه الموعودة . - تمسك بذكر الله فموكب خليفة المهدي في الطريق. تُسمَع أصوت من بعيد : - الله أكبر ولله الحَمد .. الله أكبر ولله الحَمد .. (5) دنا موكب خليفة المهدي وسط التكبير والتهليل وترجَّل الخليفة عن فرسه. تم استقبال عبدالرحيم استقبال الفاتحين. تفرَّس الخليفة في ملامحه كثيراً ثم أخذه بالأحضان. تحرك الموكب سيراً على الأقدام إلى مجلس الخليفة وسط الزحام و التهليل والتكبير. انتظم المجلس وأُجلِس عبدالرحيم إلى يمين الخليفة وعينا سيد القوم لا تُفارقه. إلى اليسار جلس الأمير يعقوب...
مضى المساء بطيئاً قبل صلاة العِشاء. أمَّ عبدالرحيم الصلاة في مسجد الخليفة . امتلأت الساحة عن آخرها وسط التكبير والتهليل. من بعد الصلاة التزم عبدالرحيم بتعليمات الشيخ ( الأصم ) ينفذها بحذافيرها. تخيَّر الزمان المُناسب واستأذن لخَلوة الذِكر . التقى الشيخ ( الأصم ) بعبدالرحيم من بعد صلاة العشاء. وعند الضفة الغربية لنهر النيل، بدأت الرحلة بالقارب. خلال الإسراء لم تنقطع الأدعية : (لا اله الا الله وسبحان الله والحمد لله )، حتى وصولهما ( الخُور ) الذي يفصل (جزيرة توتي) عن حِلَّتي الشيخ حمد ود أم مريوم والشيخ خوجلي. ودَّعه الشيخ ( الأصم )، ودعا له بالتوفيق، وسأله دعوات شيخ السجادة . (6) قبيل صلاة الفجر وجد ( عبد الرحيم ) أنه قرب أطراف القرية، قصد المسجد في المسيد. صلى شكراً لله من بعد تحية المسجد، والتقى عمه ( أُمحمد ) وجدّه ( الغَطَّاس ) بعد الصلاة، وكاد الأخير أن يبكي من الفرح. عند مسكن الأسرة استقبلتهم ( حَبُّوبة صَبيحة ) جدّته، وزغردت فرحة بوصوله سالماً . اغتسل ( عبدالرحيم ) ثم استطعم. جلس يحادث جده تحت ( الراكوبة ) حتى تملكه النعاس، وبعدها نام نوماً عميقاً . قبل الظهيرة و من بعد ذبيحة ( كرامة الوصول سالماً )، تناول الجميع الإفطار بحضور بعض الجيران. عند العصر جلس الى جدَّه الغطَّاس يتجاذبا أطراف الحديث:
- بعد أن قصصت عليك الهروب العظيم، ما هي حكاوي البقعة يا جدي؟ - جمع الخليفة المنشورات وطبعها في مطبعة الحجر في كُتيبات. وجرت أمور كثيرة وفتنة غلبت الأنصار و ( الجهادية )، حسمها السيف البتار. فقد قتل ( صالح الكباشي ) زعيم ( الكبابيش ) وقتل (المرضي أبوروف ) ومن معه في البقعة. وضُربت حركة الأمير (يوسف ود السلطان إبراهيم ) في دار فور . قُتل ( مادبو) زعيم ( الرزيقات )، ويقولون كان فارساً استقبل الموت ضاحكاً. نكّل الخليفة أيضاً ( بالشكرية ) و( البطاحين ) . - لا اله إلا الله محمد رسول الله ! - قالوا في ( القلابات ) ظهر نبي الله عيسى! - القيامة أظنها قرَّبتّْ !. - أهو الناس بتقول كلام، نحنا ما عارفين الأكيدة . - صحي النُسوان ممنوعين يمشوا السوق . - الضرب مية سوط للشابة الحايمة في السوق . يستعجب ، ثم يسأل : - قالوا يا جدي عندك منشورات الفتاوى. بالصِح في كلام فتوى عن الدِّلكة؟ يبحث الجَّد في ( الجُراب ) على جانب مرقده، ثم يقلب مجلداً عتيقاً ويقرأ منه: - أقرأ لك الآن بعض مما أفتى به الإمام المهدي : بسم الله الرحمن الرحيم { الحمد لله الوالي الكريم والصلاة على سيدنا محمد وآله مع التسليم. .... الثالثة الدِّلكة ، تُعمَل من العيش ويعركوا بها الجسد ، هل الاستعمال ممنوع أم لا ؟ الجواب : إن استعمال الدِّلكة وعَركها بالجسد لأجل راحة البدن واستعمال البدن في طاعة الله يجوز، قال الله تعالى : " هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً " ..... } - الجلوس معك يا جدّي متعة، فلديك كل أخبار الدنيا . - يا بُني وجودك معنا هذه الأيام نعمة من نعم الله عزّ وجّل. لقد رزقك المولى عمراً جديداً. سوف ترجع ( المتَّمة ) بإذن الله عن طريق ( حلفايا المُلوك ) غانماً، وإن رغبت العيش معنا زوجناك إحدى بنات عمك بديلاً عن زوجكَ ( صافية ) عليها رحمة الله و ( الحوَّاشة ) فيها رزقَك ورِزق أعمامَك ورزقنا جميعاً . تبسم الجّد وقال : - تستحِق يا بُنيَّ أن نُلقبك ( عبد الرحيم الخَضِر )، تيمناً بسير الأولياء . - جدّي .. أستحلفك بالله أن تزودني بزادك الذي علمتنيه من تراث شيخنا طيب الله ثراه . - أعرف تعلقك بسير الأولياء وأحباب الله . - أحكي لي من أحسن القصص . يصلح الجَّد مجلسه ويبدأ : - بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على أكرم المرسلين ....