عريضة الاتهام الحقيقية ضد الشيطان والعريضة المزيفة

 


 

 

مما يؤسف له أننا لا نطبّق الحكمة القائلة "اعرف عدوك" على أخطر أعداء بني آدم، وهو إبليس. ويختلف الناس اختلافاً مُهلكاً في تقديرهم للجرم الذي ارتكبه إبليس واستحق بسببه الطرد من رحمة الله. وهناك خلط شديد في معرفة مدى تأثير إبليس وشياطينه علينا. وكانت نتيجة كل ذلك أننا أصبحنا إلى حد كبير "لا نقدّر الشيطانَ حقَ خطرِه".
ولنبدأ أولاً باستجلاء عريضة الاتهام المزيفة التي يجب أن نرفضها ونكشف زيفها، ثم نأتي بعد ذلك إلى عريضة الاتهام الحقيقية ضد إبليس الرجيم.
تتلخص عريضة الاتهام المزيفة ضد إبليس في أن إبليس عصى ربه فقط، ولم يستكبر على الله سبحانه وتعالى، بل استكبر على آدم (باعتبار أنَّ آدم مخلوق ندٌّ له، وهو يرى أنه أفضل منه)، وأن الله أمره أن يسجد لآدم (أي أن يخضع لآدم شخصياً، ويسجد تحت قدميه)، فرفض إبليس، بحجة أنه لن يسجد لبشر.

وترتبت عن عريضة الاتهام المزيفة هذه ثلاثة مواقف:
• الموقف الأول: حدوث ارتباك منطقي وعقدي بسبب "السجود لغير الله". وبرر كثيرون ذلك قائلين إن سجود الملائكة لآدم إنما هو سجود تكريم وليس سجود عبادة. وقال آخرون إن الله قد أمر فلا بد أن يطاع أمره، حتى ولو كان أمراً بالسجود لغير الله. واعترض آخرون قائلين: كيف يأمر الله بمعصية؟ وأي معصية أكبر من السجود لغير الله! ورد الآخرون بأنها ليست معصية طالما أن الله قد أمر بها. وهكذا تستمر الجلبة بدون حسم. وينشغل الناس بالخلاف، تاركين إبليس يعمل عمله.

• الموقف الثاني: يقول بعض الناس إن إبليس لم يُشرك (فهو لم يسجد لغير الله)، ولم يستكبر على الله (أي لم يرفض السجود له، بل رفض السجود لآدم)، ولم يكفر بالله (فهو مؤمن بوجوده)، ولكنه عصى وغوى وفسق بمخالفته الأمر بالسجود. ونلاحظ أن هؤلاء يقلّلون من جرم إبليس: فهو لم يشرك، ولم يكفر، ولم يستكبر على الله. وأسوأ تقدير في الوجود هو التقليل من جرم إبليس اللعين.

• الموقف الثالث: انبرى نفر آخرون يدافعون عن إبليس، بل ويمجدونه، فيقولون إنه رفض السجود لغير الله، وأنّ هذه محمدة له، وفهموا أنّ إبليس لا مانع لديه أن يسجد لله، وأنه جهر بكلمة الحق، و"قال لا في وجه من قالوا نعم"، ويشنِّعون على الملائكة الذين رضوا بالسجود لآدم، مشيدين بإبليس "الموحّد" الذي رفض أن يسجد لمخلوق مثله.

هذه العريضة زائفة تماماً، ولا تقوم على التفسير اللغوي السليم، وقد ترتَّبت عنها مواقف مضللة ومهلكة، وتؤدي في مواقفها المتطرفة إلى التقليل من فداحة الجرم الحقيقي الذي اقترفه إبليس الرجيم.

فما هي عريضة الاتهام الحقيقية؟
يجب أن يعرف الناس أن عريضة الاتهام الحقيقية ضد إبليس هي كالآتي: أمر الله سبحانه وتعالى الملائكة أنْ يسجدوا له هو، عز وجل، لأنه خلق آدم، فأبي إبليس الرجيم، الذي كان في معيتهم، أن يسجد لله. ولم يكن الأمر موجهاً بالسجود لآدم نفسه، أي خضوعاً له تحت قدميه، بل كان الأمرُ أن يكونَ السجود لله، ولكنه بسبب، أو بشأن، أو بخصوص، أو لأجل خلق آدمَ. وقد رفض إبليس اللعين أن يسجد لله، وهو يعلم أنه مأمورٌ بالسجود لله، و ليس لآدم، وإنما آدم هو سبب السجود أو مناسبته. أبى إبليس ولسان حاله يقول: لن أسجد لك، لأن المخلوق الذي خلقتَه لا يستحق أن أسجد لك بسبه، وأنت لا تستحق أن أسجد لك لخلقك هذا المخلوق التافه.
وفي هذا الصدد، يجب أن نعلم أن إبليس انتقل على الفور من وقوفه نداً مخاصماً لآدم، إلى الوقوف نداً مُقابِحاً للمولى عز وجل: أنت تريد أن تجعل آدم خليفة في الأرض ليعبدك وذريته، كلا، سأقف ضد ذلك، سأغوى آدم حتى يعصيك، وسأجعل معظم ذريته يعبدونني أنا بدلا عنك، وسأعمل على عكس إرادتك فلا تجد أكثرهم شاكرين لك.
البشر، من غرورهم، يعتقدون أن إبليس يعاندهم هم!
كلا أيها الناس. أنتم في نظر إبليس أتفه من أن يهتم لأمركم، فهو يعاند خالقكم، ويقف بينكم وبينه، ويعمل من أجل أن تختاروه هو ولياً لكم من دون الله. ويجب أن يعلم الناس أن الشيطان الرجيم يطرح نفسه آلها لبني آدم بديلاً عن الله عز وجل، ولذلك يقول جل من قائل: "ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان، إنه لكم عدو مبين. وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم". ويقول: "قد تبيّن الرشد من الغي، فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى". وحتى كلمة التوحيد، "لا إله إلا الله"، هي جملة نفيٍ تبدأ بـأداة النفي "لا"، وهذا النفي نفيٌ لألوهية الشيطان، إبليس الرجيم؛ وتنتهي باثبات، هو إثبات إلوهية الله سبحانه وتعالى.
لقد استكبر إبليس الرجيم بمحاولته ارتداء ثوبي العظمة والكبرياء.
والكِبر أكبر درجات الشرك. وكل الآلهة المزيفة التي يعبدها الناس من دون الله وراءها الشيطان الرجيم. فعابدو تلك الآلهة أنما يعبدون الشيطان.
الكبر هو الشرك الإبليسي، الذي يبدأ بتعظيم النفس، واحتقار الآخر، ثم معاندة الله الخالق، لا إله إلا هو.
وعصى إبليس، وكفر، وفسق، ومرق، حين أبى أن يطيع خالقه.
فأصبح إبليس اللعين، وعاء الشر كله في الكون، ومصدره، ووكيله، والمعين عليه.
وهكذا يتضح لنا الطريق: ابتعدوا عن الشيطان، وستجدون الله! وهذا لعمرى هو الفرار المذكور في الآية الكريمة "ففروا إلى الله". وهل الفرار إلا من الشيطان إلى الله؟
وهكذا يتضح لنا أن الامتحان مكشوفٌ أمامنا، والخيار واضح: أما أن نعبد الله، وأما أن نعبد الشيطان، وما عبادة الشيطان إلا بطاعته من دون الله؛ وأما أن نتبع طريق الرشد فنصل إلى الله، وإلى ما يريده لنا الله من الجنة والنعيم؛ وإما أن نتبع طريق الغي فنكون أولياء للشيطان، وننتهي إلى ما يريده لنا من العذاب في الجحيم، والعياذ بالله.
والدليل اللغوي على هذا التفسير ليس جديداً، فقد ذكره كثير من المفسرين في السابق. وهو يقوم على أن اللام في عبارة "اسجدوا لآدم" هي لام الشأن، أو الخصوص، التي تعني "لأجل" أو "بسبب"، وليست لام التعدية. وهذه اللام كثيرة الورود في القرآن الكريم، ففي قوله تعالى "ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا"، لا نفهم أن القول موجه مباشرة إلى الشيء، بمعنى "خاطِب الشيء وقل له"، بل تعني: لا تقل "بخصوص الشئ، أو بشأنه". ومثلها قوله تعالى "قالوا للحق لما جاءهم هذا سحر مبين"، أي قالوا بشأن الحق إنه سحر. وأوضح ما يتضح معنى الشأن أو الخصوص في قوله تعالى "الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قُتِلوا". فهؤلاء القوم لم يوجهوا الخطاب لإخوانهم، إذْ إن إخوانهم كانوا ميتين لحظة القول، وإنما قالوا بخصوص هؤلاء الإخوان المقتولين إنهم لو كانوا أطاعوهم ولم يذهبوا للقتال لما قُتِلوا.
ومن هنا يتضح لنا أن معنى "اسجدوا لآدم" هو أسجدوا بشأن آدم، أو بسبب آدم، مع كون السجود دائماً لله وحده لا شريك له.
ومثل سجود الملائكة سجودُ الشمس والقمر والكواكب، وسجود أبوي يوسف وإخوته عليهم السلام. فبعد أن دخلوا على يوسف في مجلس حكمه، بادر إلى النهوض من عرشه، ورفع إليه أبويه. فلما وجد الأبوان والإخوة أنفسهم في هذه النعمة العظيمة من الله سبحانه وتعالى خروا ساجدين لله شاكرين له. وسبب سجودهم هو ما حصل لهم بفضل يوسف. وغني عن القول أن من يسجد تحيةً أو تعظيماً للملك يفعل ذلك فور دخوله عليه، وليس بعد أن ينزل الملك من عرشه ويجلسه مكانه.
هذا، والله تعالى أعلى، وبالحمد والشكر أولى، وهو أجلّ وأحكم وأعلم.

elrayahabdelgadir@gmail.com
/////////////////////

 

آراء