علاج الأمراض بالموسيقى: هل من دليل موثوق على فائدته؟

 


 

 


نشر لي قبل عدة سنوات في "الأحداث" وعدد من المواقع الإسفيرية مقال صغير عن "العلاج بالموسيقى" جاء فيه أن العلاج بالموسيقي أمر قديم، لعله قد بدأ مع بدء الحضارة الفرعونية وما تلتها من حضارات. تقول دراسة لعلماء ألمان (ولا يعني ذلك أنها تثبت) أن أول توثيق لاستخدام الموسيقي في العلاج جاء في الإنجيل حين عزف ديفيد (دواؤد) علي قيثارته (Harp) ليزيل الاكتئاب الذي أصاب الملك طالوت (Saul). نقلت في ذلك المقال ما أورده موقع عربي عن أنه " لم يجهل العرب (لعله يقصد المسلمين) فائدة الموسيقى في الشفاء من بعض الأمراض النفسية والعصبية والعقلية، فالرازي مثلا  كان في ابتداء أمره موسيقياً وضارباً ممتازاً على العود، ثم ترك ذلك وأقبل على دراسة كتب الطب والكيمياء  فنبغ فيها جميعاً، ويبدو أن ذلك لم يمنعه من استخدام الموسيقى في أغراض العلاج فقد وردت إشارات في بعض المراجع لم يشر أصحابها إلى مصدرها، إلا أنه يغلب على الظن أن الرازي (وقيل إنه من الصابئة) درس فائدة الموسيقى في شفاء الأمراض وتسكين الآلام، وقد توصل إلى هذه النتيجة بعد تجارب كثيرة قام بها حيث كان يتردد على صديق له يشتغل صيدلانياً في مستشفى بمدينة الري، وكان من عادته حينما يجتمع بصديقه هذا أن يعاوده الحنين إلى الموسيقى، فكان يعزف عنده بعض الوقت داخل المستشفى بقصد التسلية والطرب، ولشد ما كان يدهشه عندما يرى المرضى وهم يعانون آلاماً قاسية يتركون أسرتهم ويلتفون حوله ، حيث كان يشملهم السرور والبهجة عندما يسمعون هذه الألحان الشجية، وينسون آلامهم المبرحة. فأدرك أثر الموسيقى في تخفيف الآلام وفي شفاء بعض الأمراض، ولكنه لم يقتنع بهذه النتيجة من المرة الأولى ، وأخذ يدرس بدقة تأثير الموسيقى في شفاء الأمراض ، وبعد تجارب كثيرة أخذ يعتمد عليها بوصفها أسلوباً من أساليب العلاج الطبي". في العصر الحديث، ومنذ عام 1918م بدأ العلماء في أمريكا وأوربا يحاولون التأكد من فعالية الموسيقى كعلاج للأمراض، وعن آلية عمل هذه الفعالية (إن وجدت). تم نشر مئات الأوراق العلمية عن فائدة (أو عدم فائدة) الموسيقي كعلاج، خاصة للأمراض النفسية والعصبية، وكانت النتائج متضاربة حينا، وغير جازمة أحيانا أخرى. تم كذلك في عام 2006م (وسمي بعام موزارت...ذلك العبقري الألماني الذي عاش بين 1756 – 1791م) نشر أكثر من سبعين بحثا علميا عن ما يسمي ب "تأثير موزارت Mozart effect " على الإنسان والجرذان تفيد بأن الاستماع لموسيقي بعينها للمؤلف الموسيقي موزرات تخفض ضغط الدم العالي، بيد أن آخرين قالوا إن "تأثير موزارت" هذا لا يصدق إلا عند "غير الموسيقيين"، وأوردت بعض الأبحاث أن للموسيقي نفعا واضحا عند المصابين بالخرف المبكر (الزهايمر) والصرع وصعوبات التعلم والأداء وقبل إجراء العمليات الجراحية وفي مرض الاكتئاب (بيد أنه يجب الحذر عند سماع بعض مغنينا المقلدين فبعضهم يصيبك بالاكتئاب دون ريب). وجد بعض العلماء في بحث نشر في عام 2007م أن سماع الموسيقي يزيد من مستقبلات افونية، أي تعمل عمل الأفيون (opiate receptors) توجد طبيعيا في الدماغ تعمل علي قتل الألم وتزيل الإجهاد (stress) ولم يتأت لآخرين تأكيد هذه الملاحظة.
عدت مجدد إلى أمر تأثير العلاج بالموسيقي بالإطلاع على ما نشر حديثا في هذا الجانب في الأدب العلمي والطبي، فلم أجد إلا مزيدا من النتائج المتضاربة والمختلفة والمشككة. ففي مقال استعراضي ((Review article نشر في عام 2010م من قسم الموسيقي والرقص في جامعة تمبل بالولايات المتحدة استعرض الكاتبان كل الأبحاث التي نشرت عن فائدة الموسيقي التي تسمع للمحتضرين من المرضى بغرض تحسين رعايتهم ونوعية ما تبقى لهم من أيام في هذه الدنيا، وقورنت النتائج بنفس مستوى الرعاية الطبية، ولكن من دون موسيقى. أثبت تمحيص نتائج تلك الأبحاث أن على غالب هذه الدراسات كثير من الملاحظات العلمية السالبة، وأن قليل منها فقط أثبت أن للموسيقي دورا إيجابيا في تحسين نوعية حياة أولئك المرضى المحتضرين. نصح الباحثان – كما هي العادة- بإجراء مزيد من الدراسات حول هذا الموضوع قبل الوصول لقناعات مؤكدة تؤكد أو تنفي فائدة سماع الموسيقى عند أولئك المرضى. بيد بحثا حديثا جدا (نشر في أغسطس 2011م) صادر عن قسم العلاج بالموسيقى في جامعة بسانت لويس بولاية مزوري الأميركية عن تأثير الموسيقي على مرضى السرطان أكد فعالية هذا الضرب من العلاج "التكميلي" (وليس الأساس) في تحسين حالة المرضى وزيادة استجابتهم للعلاج، بيد أنه اشترط أن يمارس ذلك الضرب من العلاج معالجون مؤهلون ومتخصصون، وأن يفرد لكل مريض نوعا خاصا من الموسيقي ولفترات متفاوتة في جلسات محددة.
في مقال آخر نشر عام 2008م فحص فيه الباحثون (وهم من قسم العلاج بالفنون بإدارة الصحة الوطنية بلندن NHS) نتائج عدد كبير من الأبحاث عن فائدة سماع الموسيقى عند مرضى الاكتئاب، وتوصلوا إلى أن مرضى الاكتئاب يتقبلون الموسيقي كعلاج، وأنها – على وجه العموم- تحسن من المزاج، بيد أن نوعية وعدد تلك البحوث لا تسمح بالوصول لنتائج قطعية يمكن الوثوق بها عن فائدة العلاج بالموسيقي عند المكتئبين. نصح الباحثون – كدأبهم دوما- بمزيد من الأبحاث في هذا المجال قبل الوصول لرأي قاطع ونتيجة حاسمة في هذه المسألة، وهيهات هيهات!
قام علماء وأطباء من جامعة بارما بإيطاليا بنشر مقال "ثقافي" في عام 2011م  بعنوان طريف هو: "من ضربات الموسيقي إلى ضربات القلب: رحلة في عالم التداخل بين الموسيقى والدماغ والقلب". خلص إلى أنه، وبرغم أن الإنسان منذ عهده الكهفي (!؟) وحتى الآن أدرك أن لبعض أنواع الموسيقي (وبالتأكيد ليس كلها. الكاتب!) القدرة على إحداث شعور يقلل من الإجهاد والقلق والكآبة، ينعكس ذلك كله على وظائف القلب والدماغ، إلا أن تلك التأثيرات غير مفهومة تماما، ويعوزها دليل علمي قاطع. مما ذكره البحث الإيطالي أن الموسيقي – بحسب رأي شارلس داروين (صاحب نظرية النشوء والارتقاء) – كانت عند الإنسان الأول بمثابة لغة أولية (إن صحت الترجمة لكلمة (protolanguage، وأن أثر الموسيقى الجسدي كان معلوما عند الأشوريين والإغريق القدامى، والذين كانوا يستخدمون الموسيقي في الألعاب الأولمبية قبل بدء التنافس بين الرياضيين المتنافسين وذلك لتحفيزهم  لبذل مزيد من الجهد والعطاء. وأورد باحث إيطالي آخر في عام 2011م حالة مريض هرم مصاب بالاكتئاب وضعف الإدراك كانت قد تحسنت حالته المزاجية والإدراكية بعد جلسة استماع واحدة لعزف من آلة البيانو! أكدت هذه الحالة الفردية، والتي لا تعد أكثر من "مؤشر" يمكن الاستفادة منه للقيام لمزيد من الدراسات المعمقة والصارمة الالتزام بقواعد البحث العلمي المتفق عليها، أن سماع الموسيقى (خاصة من البيانو) ينشط عند المرضى (وربما الأصحاء) الهرمين الذكريات القديمة ويساعد على استعادتهم لبعض من نشاطهم العقلي والجسدي.
جاء في بحث من قسم للأطفال في جامعة تايوانية نشر في مجلة "الصرع والسلوك" في يونيو من عام 2011م أن سماع الأطفال من الجنسين لموسيقي موزرات (تحديدا سوناتا الباينو Sonata for Two Pianos in D major, K.448) لمدة ثمانية دقائق يوميا على مدى ستة شهور أحدث نقصا واضحا في تطور المرض وآثاره، وكانت تلك الآثار الحميدة أوضح ما تكون عند الأطفال من ذوي الذكاء العادي، وليس عند ذوي القصور العقلي.  ]لمن يرغب يمكنه سماع القطعة المقصودة http://www.youtube.com/watch?v=myJOl7ia0gg [  
أجريت في استراليا تجربة تم نشرها في السويد في يوليو من عام 2011م، عن تأثير سماع الموسيقى على ستين من المصابين بحالات ذهانية حادة. قام الباحثون في هذه الدراسة بتقسيم المرضى عشوائيا لقسمين، وأعطي لقسم منهم الأدوية المعتادة لعلاج هذه الحالات، بينما أعطي القسم الآخر ذات الأدوية مع إسماعهم للموسيقي في "جلسات استماع" ممنهجة. عند مقارنة تأثير الموسيقى على فائدة الأدوية العلاجية، وعلى مدة البقاء في المستشفى وعلى متغيرات أخرى تبين أن سماع الموسيقي لم يترك أثرا معنويا في كل المتغيرات التي تمت دراستها، عدا واحدة فقط. خلص الباحثون إلى أنه ليس للعلاج بالموسيقي عند المرضى بحالات ذهنية حادة من كبير فائدة غير أثر محدود، وفي عدد قليل من المرضى.
نختم هذه الجولة في عالم الموسيقى والأمراض بذكر نتائج بعض الدراسات التي أجريت عن تأثير سماع الموسيقى على مرضى الخرف (الزهايمر). ففي بحث صغير من إيران تم نشره في عام 2010م في "المجلة الدولية للطب النفسي عند المسنين" (أو "المجلة الدولية للطب النفسي الشيخوخي"، كما يترجمها قاموس قوقل حرفيا!) وجد أن سماع الموسيقي يقلل من إفراط الإثارة عند المصابين بالالزهايمر. وعلى ذكر إيران، فإنه برغم حالة العداء السياسي والإعلامي وغيره التي نراها ونسمعها عند دول الغرب وإيران، فإن العلماء الإيرانيين ما زالوا يجوبون العالم شرقه وغربا لحضور المؤتمرات العلمية العالمية، وينشرون الجيد من أبحاثهم في مجلات "الشيطان الأكبر"، وهذا مما يحمد لهم، إذ ليس لنشر العلم حدود أو قيود!
لخص باحث من قسم علم النفس بجامعة ولاية واشنطن في مقال جمع غالب الأبحاث التي نشرت قبل عام 2010م وتناول فوائد الوسائل العلاجية المستعملة عند المصابين بالازهايمر مثل الأدوية المضادة للالتهابات ولضغط الدم المرتفع، والإضافات الغذائية مثل الفيتامينات والهرمونات والعلاجات المكملة كالرياضة وسماع الموسيقى وغيرها. في جانب الموسيقي- وهو موضوع هذا المقال-  يقول الباحث إن الدراسات الموثوقة في هذا الجانب قليلة جدا، بيد أن القليل الذي نشر يشير إلى أن سماع الموسيقى عند هؤلاء المرضي (وربما عند غيرهم) يقلل من الآثار الضارة للإجهاد والاكتئاب، وينشط الذاكرة والقدرات المعرفية، ويرفع من مستوى هرمون يسمى "ملاتونين" يفرز من الغدة الصنوبرية في تجويف الدماغ، وله وظائف عديدة منها منع التأكسد في الخلايا، ويساعد على تنظيم النوم، وله في الجسم فوائد و"مآرب أخرى"!
يبدو مما تقدم ذكره أن تأثيرات الموسيقى علي صحة ونوعية حياة المرضى المصابين بأمراض مختلفة، عقلية كانت أو نفسية أو جسدية لا تزال موضع دراسة وفحص وتمحيص، بيد أن هنالك من الإشارات الكثيرة لبعض الفوائد من سماعها عند هؤلاء المرضى. ولم يقل أحد – على الأقل مبلغ علمنا- أن لها أضرارا محسوسة على من ذكرنا، وهذا في حد ذاته فائدة كبرى، إذ أن القاعدة الأزلية في علاج الإنسان والحيوان (وربما النبات) أن لا يقوم المعالج بإحداث ضرر (حتى وإن لم يحدث نفعا). لخص ابقراط ذلك بالقول: Primum non nocere أو First, do no harm ومعناها (الحرفي) بلغة الضاد: في البدء لا تسبب أي ضرر! أرى أيضا ضرورة ملاحظة الفروقات العقدية والثقافية والاجتماعية والتراثية عند العلاج بالموسيقى عند المرضى، فهل سينصلح حال وصحة من شب على سماع المديح وأغاني السيرة والطار والوازا مثلا بسماع سيمفونيات وسوناتات موزارت وباخ وغيره من أساطين الموسيقى الغربية؟ من يدري؟ أقول هذا رغم أنه قد نشر أن عالم الأجناس الألماني جيهير برانت في رحلته الاستكشافية إلي الأمازون قبل ستين عاما كان قد اسمع المواطنين الأصليين (ولأول مرة في حياتهم) موسيقي هادئة مريحة للأعصاب للمؤلف الموسيقي المشهور موزارت فبدا أنها وقعت عندهم موقعا حسنا!  
نقلا عن "الأحداث"       
badreldin ali [alibadreldin@hotmail.com]

 

آراء