على حافة الغابة البدائية: الحلقة (24)

 


 

 

فصل العاشر
على حافة الغابة البدائية: الحلقة (24)
تجارب وملاحظات طبيب الماني في أفريقيا الإستوائية
كتبها: آلبرت شفايتزر
نقلها من الإنجليزية د. أحمد جمعة صديق
جامعة الزعيم الأزهري – السودان

• ديباجة
تعرفنا على كثير من الجوانب المظلمة في الحقبة التي تكالب فيها الإستعمار الأوربي على أفريقيا. وقد توالت الأحداث الجسام من تهجير وقهر وقتل، دأب المستعمر الأبيض على ممارستها، ليفرض سيطرته على إنسان أفريقيا ومقدراته وموارده التي نهبت - ردحاً من الزمن - ليعمّر بها العالم الأوربي، بينما يرزح الأفريقي صاحب كل ذاك الخير في فقر لا يدانيه فقر. ومازالت أفريقيا تعاني من استنزاف مواردها بطرق شتى، وما زال بنوها يعانون من الأمرّين: استغلال المستعمر المباشر وتغول بعض أبنائها المتسلطين على إهانة شعوبهم وسرقة مقدراتهم – بواسطة حفنة من الحكام الفاسدين. لقد خرج الاستعمار من الباب الأمامي ليتسلل مرة أخرى من الباب الخلفي.
كانت سيرة الاستعمار طوال وجوده في أفريقيا، ليست بالسيرة العطرة، غير أنه قد تخللت هذه السيرة غير المحبوبة، بعض الفضاءات المضيئة من أفراد بيض، آثروا أن يغلّبوا الجانب الانساني في علاقتهم بالانسان الأسود، بطرق عديدة، كالخدمات الطبية التي قدمها الطبيب والفيلسوف الألماني (آلبرت شيفايتزر) وزوجه، للانسان الأفريقي في الجابون الحالية، إذ قاموا ببناء مستشفى لخدمة السكان المحليين، هذا المجهود أهّله للترشيح والفوز بجائزة (نوبل) تقديراً لهذا العمل الإنساني الكبير.

هذه الصفحات هي ترجمة لمذكراته التي صدرت في كتاب بعنوان:
(On the Edge of the Primeval Forest)
*********************
• ملاحظة جانبية: مدارس البعثات
دعونا الآن نلقي كلمة عن المدارس. إن المدرسة التي يأتي إليها الأطفال للتعليم بينما هم يقيمون في منازلهم غير ممكنة هنا، بسبب المسافات؛ فهناك قرى، على سبيل المثال، تابعة لمحطة لامباريني، تبعد عنها مسافة ستين أو سبعين ميلاً. لذلك يجب أن يعيش الأطفال في المحطة، ويحضرهم الآباء في أكتوبر ويرجعونهم الى أهليهم في يوليو عندما تبدأ رحلات الصيد الكبيرة. ويقوم الأطفال مقابل تكاليف معيشتهم، سواء كانوا أولاداً أو بناتاً، بنوع ما من العمل، وينظم يومهم على النحو التالي: من السابعة إلى التاسعة صباحاً، يعملون في قطع الأعشاب والشجيرات، لأن الدفاع عن المحطة ضد غزو الغابة هو مهمتهم الرئيسية. وعندما ينجزون كل عمليات التطهير اللازمة في نهاية المستوطنة، يمكنهم دائماً الانتقال إلى جزء آخر حيث تكون النباتات البرية قد نمت مرة أخرى كما كانت من قبل. من التاسعة إلى العاشرة تكون ساعة راحة، يتناولون خلالها الإفطار؛ من العاشرة إلى الثانية عشرة يكون هناك التدريس. يقضون وقت الترفيه بين الثانية عشرة والواحدة عادة في الاستحمام والصيد. من الثانية إلى الرابعة يكون هناك تدريس مرة أخرى، وبعد ذلك، يعملون مرة أخرى لمدة ساعة ونصف تقريباً.
يساعد بعض الصبية في مزارع الكاكاو. يذهب الأولاد غالباً لأداء العمل اليدوي ليساعدوا في إعداد الطوب، وحمل مواد البناء إلى حيث تكون مطلوبة، أو ردم الحفر أو عمل آخر على الأرض. ثم يتم توزيع الطعام لليوم التالي؛ وفي السادسة تأتي خدمة المساء، وبعد ذلك يجهزون العشاء. هناك مظلة كبيرة تحتها يطهو الأطفال الموز على الطريقة التقليدية، وينقسمون إلى مجموعات من خمسة أو ستة، لكل منها قدر وموقد للنار خاص بها. يذهبون في التاسعة إلى الفراش، أي يذهبون إلى أسرّتهم الخشبية تحت الناموسيات. يقومون بعد الظهر في أيام الأحد، برحلات بالكانو، حيث تخرج المشرفة مع طاقم من الفتيات. ويلعبون في موسم الجفاف، على الضفاف الرملية.
يختل عمل مدرسة الأولاد، للأسف، بهذه الطريقة، حيث إنه عندما يخرج المبشر في جولاته الوعظية، أو عندما تكون هناك حاجة لرحلة بالكانو لأي غرض، يجب أخذ طاقم من الأولاد لذلك، وقد يغيبون لمدة تصل إلى أسبوع. فمتى سنصل إلى مرحلة من الكفاءة بحيث يكون لكل محطة بعثية قارب بمحرك؟
• هل يجب أن يكون لدى المبشر تعليم شامل؟
نعم. كلما تطورت الحياة العقلية والاهتمامات الفكرية للإنسان، هذا يمكنه أن يصمد بشكل أفضل في إفريقيا. بدون هذا الضمان، يكون في خطر كبير أن يصبح كما يُطلق عليه هنا "زنجي". يظهر هذا في الطريقة التي يفقد بها كل وجهة نظر عالية؛ ثم تقل قدرته على العمل الفكري، ويبدأ، مثل الزنجي، في إضفاء أهمية على أصغر الأمور والمجادلة فيها بشكل مطول. في مجال اللاهوت أيضاً، كلما كانت التدريب أشمل كان ذلك أفضل.
قد يكون الرجل تحت ظروف معينة مبشراً جيدًا دون أن يدرس اللاهوت مثال السيد فيليكس فاور، و هو حالياً رئيس محطتنا. هو مهندس زراعي بالتدريب (ingénieur agronome) وجاء إلى أوجوي في البداية لإدارة الأراضي الزراعية للمحطة. وفي نفس الوقت أثبت أنه واعظ ومبشر ممتاز، حتى أصبح مع مرور الوقت مبشراً أكثر من كونه مزارعاً.
• ملاحظة جانبية: مشكلة التعميد
أنا لست متفقاً تماماً مع الطريقة التي يُمارس بها التعميد هنا. القاعدة هي أن يُعمّد البالغون فقط، حيث يُشعر أن أولئك الذين يجب استقبالهم في المجتمع المسيحي هم الذين أظهرت حياتهم بعض القدر من الاختبار. ولكن هل نبني بذلك كنيسة على أساس واسع وآمن؟ هل من الضروري أن تتكون المجتمعات فقط من أعضاء ذوي حياة لا تشوبها شائبة نسبياً؟ أعتقد أننا يجب أن ننظر أكثر في مسألة كيفية التأكد من التدفق الطبيعي للأعضاء الجدد. إذا عمدنا أطفال الآباء المسيحيين، سيكون لدينا عدد من السكان الأصليين الذين نشأوا في الكنيسة وتحت تأثيرها منذ طفولتهم. وسيكون بالتأكيد هناك بعض منهم ممن يُظهرون أنهم غير جديرين بالاسم المسيحي الذي أُعطي لهم في طفولتهم، لكن سيكون هناك العديد من الآخرين الذين، لمجرد أنهم ينتمون إلى الكنيسة ويجدون فيها دعمًا من الأخطار التي تحيط بهم، إذ يصبحون ويبقون أعضاء مخلصين لها. وهكذا فإن مسألة تعميد الأطفال، التي أثارت الكنيسة في القرون الأولى، تظهر مرة أخرى اليوم في ميدان البعثات كمسألة حية. ولكن إذا أردنا أن نقرر تعميد الأطفال في منطقة أوجوي، فسنواجه معارضة من جميع المبشرين الأصليين والشيوخ تقريباً.
تمارس معظم البعثات البروتستانتية تعميد الأطفال. ومع ذلك، هناك بعض الذين يعارضونه. في منطقة أوجوي، لا يُعتبر تعميد الأطفال عادةً، لأن المبشرين الأمريكيين الذين أسسوا البعثات البروتستانتية هنا لم يُدخلوه.
• ملاحظة جانبية: البعثات الكاثوليكية والبروتستانتية
نشأت بعض الصعاب في مجال البعثات ناتجة من حقيقة أن العمل التبشيري يجب أن يتم تحت رايتين، الكاثوليكية والبروتستانتية. كم سيكون العمل أعظم إذا لم تكن هذه التفرقة موجودة، ولم تكن هناك كنيستان تعملان في تنافس مع بعضهما البعض. يعيش المبشرون في أوجوي، بالفعل، من كلا الجانبين في علاقات سليمة، وأحياناً ودية، مع بعضهم البعض، لكن ذلك لا يزيل التنافس الذي يربك السكان الأصليين ويعيق انتشار الإنجيل.
أزور غالباً محطات البعثات الكاثوليكية بصفتي طبيباً، لذا تمكنت من الحصول على فكرة واضحة نوعاً ما عن الطريقة التي يديرون بها عملهم التبشيري وتعليمهم. من حيث التنظيم، تبدو لي بعثاتهم أفضل إدارة من بعثاتنا في عدة جوانب. إذا كان عليّ التمييز بين الأهداف التي تضعها البعثتان أمامهما، سأقول إن البعثة البروتستانتية تضع في المقام الأول بناء شخصيات مسيحية، بينما تهدف الكاثوليكية قبل كل شيء إلى تأسيس كنيسة على أسس صلبة. الهدف الأول هو الأعلى، ولكنه لا يأخذ في الاعتبار الواقع بشكل كافٍ. لجعل عمل التدريب ناجحًا بشكل دائم، من الضروري وجود كنيسة راسخة، تنمو بطريقة طبيعية مع زيادة عدد الأسر المسيحية. علمنا تاريخ الكنيسة في كل فترة هذا الأمر. أليس من ضعف وقوة البروتستانتية أنها تركز كثيرًا على الدين الشخصي وقليلاً على الكنيسة؟
• العمل التبشيري الذي بدأه المبشرون الأمريكيون هنا وواصله الفرنسيون
أشعر بإعجاب كبير للعمل الذي بدأه المبشرون الأمريكيون هنا وواصله الفرنسيون. لقد أنتج بين السكان الأصليين شخصيات إنسانية ومسيحية من شأنها أن تقنع أشد معارضي البعثات بما يمكن لتعاليم يسوع أن تفعله للإنسان البدائي. لكن الآن يجب أن يكون لدينا الرجال والوسائل لتأسيس المزيد من المحطات في الداخل، وبالتالي نؤثر تعليمياً على السكان الأصليين قبل أن تصلهم تجارة الرجل الأبيض والمخاطر والمشاكل التي يجلبها معه لطفل الطبيعة.
هل سيكون هذا ممكناً في وقت قريب؟ ماذا سيكون مصير العمل التبشيري بعد الحرب؟ كيف ستكون شعوب أوروبا المدمرة قادرة على تقديم الوسائل الضرورية لمختلف المشاريع الروحية في العالم؟ هناك أيضاً هذه الصعوبة الأخرى - أن العمل التبشيري لا يمكن أن يزدهر إلا عندما يكون إلى حد ما دولياً؛ لكن الحرب جعلت أي شيء دولي مستحيلًا لفترة طويلة. وأخيراً، ستشعر البعثات في جميع أنحاء العالم قريباً أنه، بسبب الحرب، أفقدت العرق الأبيض قدراً كبيراً من سلطته الروحية على الأعراق الملونة.

aahmedgumaa@yahoo.com

 

آراء