على حافة الغابة البدائية: الحلقة (6)

 


 

 

الفصل الثالث
على حافة الغابة البدائية: الحلقة (6)
تجارب وملاحظات طبيب الماني في أفريقيا الإستوائية
كتبها: آلبرت شفايتزر
نقلها من الإنجليزية د. أحمد جمعة صديق
جامعة الزعيم الازهري – السودان
*ديباجة
تعرفنا على كثير من الجوانب المظلمة في الحقبة التي تكالب فيها الإستعمار الأوربي على أفريقيا. وقد توالت الأحداث الجسام من تهجير وقهر وقتل، دأب المستعمر الأبيض على ممارستها، ليفرض سيطرته على إنسان أفريقيا ومقدراته وموارده التي نهبت - ردحاً من الزمن - ليعمّر بها العالم الأوربي، بينما يرزح الأفريقي صاحب كل ذاك الخير في فقر لا يدانيه فقر. ومازالت أفريقيا تعاني من استنزاف مواردها بطرق شتى، وما زال بنوها يعانون من الأمرّين: استغلال المستعمر المباشر وتغول بعض أبنائها المتسلطين على إهانة شعوبهم وسرقة مقدراتهم – بواسطة حفنة من الحكام الفاسدين. لقد خرج الاستعمار من الباب الأمامي ليتسلل مرة أخرى من الباب الخلفي.
كانت سيرة الاستعمار طوال وجوده في أفريقيا، ليست بالسيرة العطرة، غير أنه قد تخللت هذه السيرة غير المحبوبة، بعض الفضاءات المضيئة من أفراد بيض، آثروا أن يغلّبوا الجانب الانساني في علاقتهم بالانسان الأسود، بطرق عديدة، كالخدمات الطبية التي قدمها الطبيب والفيلسوف الألماني (آلبرت شيفايتزر) وزوجه، للانسان الأفريقي في الجابون الحالية، اذ قاموا ببناء مستشفى لخدمة السكان المحليين، هذا المجهود أهّله للترشيح والفوز بجائزة (نوبل) تقديراً لهذا العمل الانساني الكبير.

هذه الصفحات هي ترجمة لمذكراته التي صدرت في كتاب باسم:
(On the Edge of the Primeval Forest)
********************
الانطباعات والتجارب الأولى
لامبارين، يوليو 1913.
أصدرنا تعليمات صارمة على نطاق واسع تقضي بأن يتم إحضار الحالات الأكثر خطورة فقط إلى الطبيب خلال الأسابيع الثلاثة الأولى، الى حين الاستقرار النهائي، لكن بصورة عامة، لم يُولى أحد الأمر كثيراً من الإهتمام. كان المرضى يظهرون في كل ساعة من اليوم، لكن الممارسة العملية كانت شاقة جداً، حيث كان يتوجب عليّ أولاً وقبل كل شيء أن أعتمد على أي مترجم يمكن أن ألتقطه من على الطريق، وثانياً، لم يكن لدي أي أدوية، أو أدوات، أو شاشات إلا ما جلبته في حقيبتي.
قبل عام من وصولي، كان هناك معلم أسود في المدرسة البعثية في سامكيتا، يُدعى إنزنغ، قد عرض خدماته كمترجم ومساعد طبي، وقد أرسلت له رسالة ليأتي إلى لامبارين على الفور عند وصولي، ولكنه لم يأتي لأنه في قريته الأصلية، على بُعد ستين ميلاً، كان عليه أن يقوم بإنجاز نزاع قانوني حول وصية. اضطررت في النهاية، إلى إرسال قارب برسالة تطلب منه القدوم فوراً، ووعد بالمجئ، لكن مرت أسابيع ولم يصل بعد. فقال لي السيد إلينبيرجر بابتسامة: "دكتور، اذن لقد بدأت تتعلم. فأنت تكتشف للمرة الأولى مدى استحالة الاعتماد على السود".
سمعنا صفارة الباخرة في ليلة 26 أبريل، وعلمنا تقريباً أن أغراضنا قد تم تفريغها في محطة البعثة الكاثوليكية، التي تقع على ضفاف النهر، حيث رفض القبطان المغامرة في الابحار في مياه غير معروفة بالنسبة له لفرع النهر الخاص بنا. لحسن الحظ، جاء السيد شامبيل والسيد بيلوت، من البعثة الصناعية من نغومو، إلى لامبارين، مع عشرة من عمالهم الأصليين، لمساعدتنا.
كنت قلقاً للغاية بشأن نقل آلة البيانو الذي يحتوي على تركيبة بدواسة، قدمته لي جمعية باخ من باريس، تقديراً لسنوات عديدة قضيتها كعازف أرغن معهم. ولكي أتمكن من الاحتفاظ بممارسة ومواصلة عزفي حتى في أفريقيا. بدا لي أنه من المستحيل أن يتم نقل مثل هذا البيانو، في صندوقه الثقيل المبطن بالزنك، في جذع شجرةٍ منحوتٍ، ولكن لا توجد قوارب أخرى هنا! ومع ذلك، كان هناك متجر واحد يمتلك قارباً، منحوتاً من شجرة ضخمة، يمكن أن يحمل حتى ثلاثة أطنان، وقد أقرضوه لي. كان بإمكانه أن يحمل خمسة بيانوهات!
• التأقلم
تمكنا بفضل الجهد الشاق، من نقل سبعين صندوقاً تقريباً عبر النهر، ولنقلها إلى الأعلى من ضفاف النهر، وفد كل من في المحطة للمساعدة، حيث عمل الأطفال في المدرسة بحماس شديد. كان من الطريف رؤية كيف يحصل أحد الصناديق فجأة على حشدٍ من الأرجل السوداء تحمله من أسفل وصفوف من الرؤوس غزيرة الشعر تظهر وكأنها تنمو في جوانبه، وكيف يزحف الصندوق صعوداً إلى الجبل وسط الصياح والصراخ! وفي غضون ثلاثة أيام تم نقل كل شيء إلى الأعلى، وتمكن أصحاب العمل الأصليين من نغومو من العودة إلى منازلهم. لم نكن نعرف كيف نشكرهم بما فيه الكفاية، لأنه من دون مساعدتهم كان يستحيل إكمال العمل.
كان فك الحقائب اختباراً حقيقياً، اذ كان من الصعب ترتيب الاغراض المختلفة. وعدوني بمبنى من الحديد كمستشفى، ولكن كان من المستحيل إقامة هيكله، لعدم وجود عمال. فعلى مدى عدة أشهر، كان تجار الخشب يحصلون على أجور العمال التي لا يمكن للبعثة أن تنافسها. ومع ذلك، ومن أجل أن أكون على استعداد، على الأقل، بأكثر الأدوية الضرورية، قام السيد كاست، من البعثة الصناعية، بتركيب بعض الرفوف في غرفة معيشتي، من الخشب الذي قطعه وخططه بنفسه. يجب أن تكون في أفريقيا لتفهم ما هي المنفعة التي تأتي من بعض رفوفٍ تثبت على الحائط!
كانت قلة الأماكن التي يمكنني فيها فحص وعلاج المرضى تقلقني كثيراً. إذ لا يمكنني أخذهم إلى غرفتي خوفاً من انتقال العدوى. ينظم الأشخاص في أفريقيا على الفور (كما أكد عليه المبشرون لي من البداية) بأن يكون تواجد السود في مساكن البيض باقل قدر ممكن، وهذا جزء ضروري والاهتمام بالنفس. لذا، كنت أعالج وأقوم بتضميد الجرحى في الهواء الطلق أمام المنزل، وعندما تبدأ العواصف المسائية العادية، يتعين علينا أن نحمل كل شيء بسرعة إلى الشرفة. كان معالجة المرضى تحت أشعة الشمس مجهداً للغاية.
قررت وتحت ضغط هذا الإزعاج، ترقية المبنى الذي استخدمه سلفي في المنزل، السيد موريل، المبشر، حظيرةً للدواجن إلى مرتبة مستشفى، فقمت بتثبيت بعض الرفوف على الجدران، وتركيب سرير معسكر قديم، وتغطية أسوأ الأوساخ بطبقة من الجص الأبيض، وشعرت بنفسي بأني أكثر من محظوظ.
كانت الغرفة الصغيرة والخالية من النوافذ مزعجة للغاية، وكانت حالة السقف سيئة لدرجة أنه كان من الضروري ارتداء خوذة الشمس طوال اليوم، لكن عندما حلت العاصفة لم يكن عليّ أن أنقل كل شيء تحت الغطاء. شعرت بالفخر لأول مرة عندما سمعت صوت المطر يقرع على السقف، وبدا لي أنه أمرٌ لا يصدق أن أستطيع الاستمرار بصمت في تضميد الجروح.
وفي نفس الوقت، اكتشفت وجود مترجم ومساعد، إذ ظهر من بين المراجعين شخص ذو مظهر ذكي جداً، يتحدث الفرنسية بصورة رائعة، وقال إنه طباخ بالمهنة لكنه اضطر لترك ذاك النوع من العمل لأنه لا يتفق مع صحته. طلبت منه أن يأتي إلينا مؤقتاً، حيث لم نتمكن من العثور على طاهٍ، وفي نفس الوقت لمساعدتي كمترجم ومساعد جراح. كان اسمه جوزيف، وأثبت جدواه بشكل متزايد. لم يكن من المستغرب أنه بما اكتسب تقريباً من معرفته بعلم التشريح في المطبخ، أن يستخدم مصطلحات المطبخ في الجراحة بصفة عادية، كأن يصف حالة أحد المرضى بقوله: "يؤلمه جانبه في العضلة اليمنى)." أو أن "هذه المرأة تشعر بألم في العضل العلوي الايسر، وفي فخذها!".
في نهاية شهر مايو وصل "إن زينغ"، الرجل الذي كنت قد كتبت إليه مسبقاً لتوظيفه، ولكن كونه لم يبدو موثوقاً به كثيراً، قررت الإبقاء على جوزيف. كان جوزيف من قبيلة جالوا، وإن زينغ من قبيلة الباهوين.
• العمل في الحظيرة
بدأ العمل الآن بصورة جيدة تقريباً. كانت زوجتي مسؤولة عن الأدوات وقامت بالتحضيرات اللازمة للعمليات الجراحية، حيث عملت كمساعد طبيب، وكانت أيضاً تعتني بالشاشات وغسيل الأقمشة. تبدأ الاستشارات حوالي الساعة 8:30، حيث ينتظر المرضى في ظل منزلي أمام الحظيرة، التي هي مستشفاي الآن، ويقوم كل صباح أحد المساعدين بالنداء على المرضى.
تعليمات الدكتور الثابتة.
1. يُمنع بشدة البصق بالقرب من منزل الطبيب.
2. . يجب على المرضى المنتظرين عدم التحدث بصوت عال.
3. يجب على المرضى وأصدقائهم إحضار ما يكفي من الطعام ليوم واحد، حيث لا يمكن علاجهم جميعاً في وقت مبكر من اليوم.
4. سيتم ابعاد أي شخص يقضي الليل في المحطة دون إذن الطبيب ويحرم من أي دواء. (لقد حدث كثيراً أن المرضى الذين قدموا من من مسافات بعيدة أن يكتظوا في دور الطلاب في المدرسة ويخرجونهم ويحتلوا أماكنهم).
5. يجب إعادة جميع الزجاجات وصناديق القصدير التي تعطى فيها الأدوية.
6. في منتصف الشهر، عندما تذهب الباخرة النهرية إلى الأعلى، لا يمكن رؤية الحالات العاجلة حتى تأتي الباخرة مرة أخرى، حيث يقوم الطبيب في تلك الفترة بالكتابة إلى أوروبا للحصول على المزيد من الأدوية القيّمة التي لديه. (يحمل الباخرة النهرية البريد من أوروبا حوالي منتصف الشهر، وعند عودته تأخذ رسائلنا إلى الساحل).
يتم قراءة هذه الوصايا الست بعناية كل يوم بلهجة الجالوا والباهوين، حتى لا تحدث بعد ذلك أي مناقشات مطولة. يقوم الحاضرون بمصاحبة كل جملة بإيماءة برؤوسهم، للدلالة على فهمهم، وفي النهاية تكون أوامر الطبيب معلومة في جميع القرى، سواء التي على النهر أم على البحيرات.
يعلن المساعد في الساعة 12:30،: أن "الطبيب سيذهب لتناول غدائه." وتُوحي الإيماءات حسن فهمهم للتوجيهات، فيتفرق المرضى لتناول الموز الخاص بهم تحت الظل. ثم نعود في الساعة 2 مساءً، لكن غالباً ما يكون هناك بعض المرضى في الساعة 6 مساءاً لم يتم رؤيتهم بعد، وعليهم أن يُؤجَّلوا حتى اليوم التالي. من الصعب التفكير في علاجهم في ظل الإضاءة الصناعية بسبب البعوض وخطر الإصابة بالحمى.
يتلقى كل مريض، عند المغادرة، قرصاً دائرياً من الورق المقوى على سلسلة من الألياف، يحمل تحته رقماً باسمه وشكواه والأدوية التي تم وصفها له كله مثبت في سجلي، حتى إذا عاد فإنه يُطلعني فقط على الصفحة لمعرفة كل شيء عن الحالة، وهذا يُوفر لي الوقت الضائع في التشخيص الثاني. يثبت في السجل أيضاً جميع الزجاجات والصناديق والشرائط، إلخ.، التي تم إعطاؤها للمريض؛ فمن غير هذه الحيلة لا يمكننا التحكم ولا المطالبة بإعادة هذه الأشياء، وفي الغالب نحصل على إعادة نصفها تقريباً. لا يمكن لأحد أن يقدر بصورة صحيحة، ما أثمرته الزجاجات والصناديق من قيمة، بعيداً عن العالم المتحضر، إلا من خلال الذين اضطروا إلى تجهيز الأدوية، في الغابة البدائية ليأخذها المرضى معهم إلى منازلهم!
كان معظم المرضى يضعون التذكرة الدائرية من الورق المقوى حول رقابهم، جنباً إلى جنب مع القطعة المعدنية التي تُظهر أنهم قد دفعوا ضريبتهم البالغة خمس فرنكات للعام الحالي. ونادراً ما يتم فقدانها أو نسيانها، ويعتبر العديد منهم، خاصةً من قبائل الباهوين، أن هذه الاطواق كأنها نوع من أنواع التمائم السحرية.

يتبع في الحلقة (7)


aahmedgumaa@yahoo.com

 

آراء