على حافة الغابة البدائية: الحلقة (7)

 


 

 

الفصل الثالث
على حافة الغابة البدائية: الحلقة (7)
تجارب وملاحظات طبيب الماني في أفريقيا الإستوائية
كتبها: آلبرت شفايتزر
نقلها من الإنجليزية د. أحمد جمعة صديق
جامعة الزعيم الازهري – السودان
*ديباجة
تعرفنا على كثير من الجوانب المظلمة في الحقبة التي تكالب فيها الإستعمار الأوربي على أفريقيا. وقد توالت الأحداث الجسام من تهجير وقهر وقتل، دأب المستعمر الأبيض على ممارستها، ليفرض سيطرته على إنسان أفريقيا ومقدراته وموارده التي نهبت - ردحاً من الزمن - ليعمّر بها العالم الأوربي، بينما يرزح الأفريقي صاحب كل ذاك الخير في فقر لا يدانيه فقر. ومازالت أفريقيا تعاني من استنزاف مواردها بطرق شتى، وما زال بنوها يعانون من الأمرّين: استغلال المستعمر المباشر وتغول بعض أبنائها المتسلطين على إهانة شعوبهم وسرقة مقدراتهم – بواسطة حفنة من الحكام الفاسدين. لقد خرج الاستعمار من الباب الأمامي ليتسلل مرة أخرى من الباب الخلفي.
كانت سيرة الاستعمار طوال وجوده في أفريقيا، ليست بالسيرة العطرة، غير أنه قد تخللت هذه السيرة غير المحبوبة، بعض الفضاءات المضيئة من أفراد بيض، آثروا أن يغلّبوا الجانب الانساني في علاقتهم بالانسان الأسود، بطرق عديدة، كالخدمات الطبية التي قدمها الطبيب والفيلسوف الألماني (آلبرت شيفايتزر) وزوجه، للانسان الأفريقي في الجابون الحالية، اذ قاموا ببناء مستشفى لخدمة السكان المحليين، هذا المجهود أهّله للترشيح والفوز بجائزة (نوبل) تقديراً لهذا العمل الانساني الكبير.

هذه الصفحات هي ترجمة لمذكراته التي صدرت في كتاب باسم:
(On the Edge of the Primeval Forest
**************************************
عُرفتُ بين السكان الأصليين بلقب "أوغانجا"، أي الرجل العرّاف بلغة الجالوا، إذ ليس لديهم اسم آخر أو مصطلحاً للطبيب، حيث أن أولئك الذين يمارسون الطبابة في قبيلتهم جميعهم رجالٌ عرّافون. ويعتقد مرضاي أنه بالمنطق نفسه أن الشخص الذي يستطيع شفاء المرض، يمتلك بالضرورة أيضاً القدرة على إحداثه، وذلك حتى من على البعد. أما بالنسبة لي، فإنه ومن الواضح أن تكون لي سمعة بأنني مخلوق جيد للغاية وفي نفس الوقت خطير الى هذا الحد! هذا الفهم لا يأتي إلى ذهن مرضاي لكي ينسبوا الأمر كله الى أسباب طبيعية: لكنهم يعزونه إلى الأرواح الشريرة، أو إلى السحر البشري الشرير، أو إلى "الديدان"، وهو تجسيد خيالي للألم بأنواعه.
فعندما يُطلب منهم وصف أعراضهم، يتحدثون عن الديدان، يخبرونني كيف كانت الديدان في أرجلهم أولاً، ثم دخلت الى رؤوسهم، ومن هناك انتقلت إلى قلوبهم؛ ثم تسللت إلى رئاتهم، واستقرت أخيراً في أمعائهم. لذا يجب أن تكون جميع الأدوية موجهة لطردها. فإذا قمت بتهدئة التقلصات بتناول مستخلص الأفيون، يأتي المريض في اليوم التالي ينبض بالفرح ويخبرني بأن الديدان قد طردت من جسده ولكنها استقرت الآن في رأسه وبدأت تأكل دماغه: هل يمكنني أن أعطيه شيئاً لطرد الديدان أيضاً من رأسه؟
يضيع الكثير من الوقت في محاولة إيضاح كيفية تناول الأدوية. إذ يخبرهم المترجم مراراً وتكراراً، ويكررون وراءه تلك التعليمات، ثم تكتب الإرشادات أيضاً على الزجاجة أو الصندوق، بحيث يمكنهم سماع الإرشادات مرة أخرى من أي شخص في قريتهم يستطيع القراءة، ولكن في النهاية فانني لست متأكداً أبداً من أنهم لا يفرغون الزجاجة دفعة واحدة، ويأكلون الدهون، ويفركون المساحيق في جلودهم.
كنت اقابل، في المتوسط، بين ثلاثين وأربعين مراجعاً يومياً للعلاج، وكانت أكثر الشكاوى شيوعاً هي أمراض الجلد من مختلف الأنواع، والملاريا، ومرض النوم، والجذام، والورم الكبير (داء الفيل)، وأمراض القلب، والإصابات الخراجية في العظام (التهاب العظم)، والدسنتايريا الاستوائية. ولكي يوقفوا تصريف القيح من الجروح، يغطي السكان المحليون المكان بمسحوقٍ مصنوعٍ من لحاء شجرة معينة، لكن يتصلب اللحاءُ تدريجياً ويتحول إلى عجينةٍ تعيق خروجَ الصديدِ وبالطبع تجعل الحالة أسوأ بكثير.
ومن بين الشكاوى التي تأتيني ولا تنقطع، كما لا يجب أن نغفلها حكة الجلد (الجرب). تسبب هذه الآفة معاناةً كبيرةً للسود، ولقد كان لدي مرضى لم يناموا لأسابيع لأنهم كانوا يتعذبون كثيراً من الحكة؛ وقد خدّش الكثيرون أجسامهم بالكامل حتى يسيل الدم، حيث كانت هناك جروح قيحية تحتاج للعلاج بالإضافة إلى الجرب. وكان العلاج بسيطاً للغاية، إذ لم يكن على المريض سوى أن يغتسل أولاً في النهر، ثم يُدهن جميع أجزاء جسمه، مهما كان طوله، بمرهم مركب من زهرة الكبريت (كبريت مطّهِر)، وزيت نخيل خام، وبقايا زيت من علب سردين، وصابون سائل. يتلقى المريض كمية من هذا المرهم في علبة كانت تحتوي في السابق على حليب معقم، ليعطي نفسه تدليكتين إضافيتين في المنزل. في الواقع،يعجز الوصف عن نجاح هذا العلاج، إذ تتوقف الحكة عن الإزعاج في اليوم الثاني، وقد جعل مني هذا المرهمُ شخصيةً مشهورةً على نطاق واسع، في غضون أسابيع قليلة جداً.
يثق السكان المحليون كثيراً في الطب الأبيض، وهو نتيجة ترجع جزئياً على الأقل إلى روح التضحية والفهم الحكيم الذي تعامل به البيض الذين عاشوا لأجيال هنا في أوغوي. وفي هذا السياق، يمكنني أن أذكر بشكل خاص السيدة لانتز من تالاجوجا، من ألزاس، التي توفيت في عام 1906، والسيد روبرت، من نغومو، سويسري، الذي يعاني الآن من مرض خطير في أوروبا.
يصعّب عليّ- حقيقة - عملي، إذ لا يمكنني الاحتفاظ بالكثير من الأدوية في (قن الدجاج ) الذي كنا قد حولناه الى مستشفى. وكان يتعين علي كل مريض تقريباً، عبور الفناء إلى عيادتي، لأزن أو لأعد له الدواء اللازم، وهو أمر مرهق للغاية ويضيع الكثير من الوقت. يا ترى، متى سيتم التفكير جدياً في بناء المستشفى من الحديد؟ هل سيكون جاهزاً قبل بدء موسم الأمطار في الخريف؟ وماذا سأفعل إذا لم يكن جاهزاً؟ ففي فصل الصيف، لن أتمكن من العمل في هذا المكان.
كما أنني قلق أيضاً بسبب حقيقة أنه لم يعد لدي مخزون كاف من الأدوية، لأن عملائي أكثر بكثير مما كنت أتوقع. لقد أرسلت طلباً كبيراً في البريد الجوي لشهر يونيو، ولكن الأمور لن تتيسر هنا خلال هذه الأشهر الثلاثة أو الأربعة، وقد نفد بعض الأدوية تقريباً مثل الكينين، والأنتي بيرين، وبروميد البوتاسيوم، والسالول، وديرماتول.
ومع ذلك، ما الذي كانت تعنيه كل هذا المنقصات مقارنةً بفرحةِ كوني هنا، أعملُ وأساعدُ الآخرين؟ فمهما كانت وسائلي محدودة، لكن يمكنني فعل الكثير بها! فقط، رؤية الفرحة التي تعلو وجوه أولئك الذين يعانون من الجروح، عندما يوضع عليها ضمادٌ نظيفٌ، ثم الشعور لديهم بأنه لم يعد عليهم سحب أقدامهم الجريحة في الطين، هذا العمل وحده يستحق كل الجهد هنا.
كم كنت أتمنى أن يتمكن جميع مساعدي من رؤية المرضى الذين تم تضميد جروحهم حديثًا وهم يمشون أو يُحملون على الأكتاف أثناء نزولهم من التل يومي الاثنين والخميس – تلك الأيام المخصصة لتغيير ضمادات الجروح، أو أن يشاهدوا الحركات البليغة التي وصفت بها امرأةٌ عجوز كانت تعاني من مشكلاتٍ في القلب كيف أنها، بفضل )الديجيتاليس(، استطاعت مرة أخرى التنفس والنوم، لأن الدواء جعل "الدودة" تزحف بعيداً تماماً، الى قدميها!
وبينما كنت أتأمل ما تمكنّا من انجازه خلال شهرين ونصف، شعرت بأنه لا يمكنني سوى القول بأن هناك حاجة ماسة، حاجة فظيعة، للطبيب هنا؛ إذ يستفيد السكان المحليون من عمله في مساحات شاسعة، وأنه بوسائل متواضعة نسبياً يمكنه تحقيق قدراً كبيراً جداً من فعل الخير. الحاجة فظيعة هنا. "هنا، بيننا، الجميع مرضى"، هذا ما قاله لي شاب منذ بضعة أيام. "بلادنا تأكل أولادها"، وكان هذا تعليق زعيم سابق.
يتبع في الحلقة (8)



aahmedgumaa@yahoo.com

 

آراء