عندما ركن عبدالله بن الزبير على القداسة واعتصم بأسوار الكعبة

 


 

 

لما قسّمت فتنة مقتل الخليفة عثمان بن عفان رضى الله عنه صفوف المسلمين، كان الصحابي الشاب عبد الله بن الزبير في حزب أبيه وطلحة وعائشة، وشارك في موقعة الجمل.
رفض ابن الزبير مبايعة يزيد بن معاوية خليفة للمسلمين بعد وفاة معاوية بن أبي سفيان، فأخذه يزيد بالشدّة، مما جعل ابن الزبير يعوذ بالبيت الحرام. ولم يمنع ذلك يزيد أن يرسل إليه جيشًا حاصره في مكة، ولم يرفع الحصار عنه، إلاّ بوفاة يزيد، وبعد تنازل معاوية بن يزيد (سمي جده) عن الحكم، أعلن ابن الزبير نفسه خليفة للمسلمين، واتخذ من مكة عاصمة لحكمه، وبايعته الولايات كلها إلاّ بعض مناطق في الشام، والتي دعمت كبير بني أميّة، مروان بن الحكم الذي طُرد من المدينة المنورة، أثناء تمرد ابن الزبير في عهد يزيد.
وبعد مقتل الحسين بن على رضى الله عنه، أصبح الشغل الشاغل ليزيد بن معاوية، أخذ بيعة ابن الزبير، خاصةً لما كان له من دور في تأليب المسلمين على بني أميّة، وبلغ يزيد ذلك، فغضب وأقسم أن يُؤتى بابن الزبير مكبلا في الأصفاد. رفض بن الزبير كافة الوساطات من أشراف قريش ووجهاء مكة، ورفض الانصياع لتعليمات يزيد بن معاوية، وعاذ بالبيت الحرام، فسُمّي عائذ البيت.
خلال المناوشات بين الرجلين، انتفض أهل المدنية ضد يزيد وطردوا عامله، فوجّه إليهم جيشًا بقيادة مسلم بن عقبة المُرّي هزمهم واستباح حُرماتها ثلاثة أيام بعد وقعة الحرة. ثم أمره يزيد أن يتوجّه لقتال ابن الزبير في مكة. تم محاصرة ابن الزبير، ونصبوا المنجنيق واحترقت الكعبة، فمني جيش ابن الزبير بخسائر كبيرة، وفقد الكثير من مؤيديه، إلاّ أنّ الحصار رُفع عنه بوفاة يزيد المفاجئ. خلفه ابنه معاوية لمدة قصيرة، ثم حدث فراغا بوفاته، ملأه مروان بن الحكم، لتبدأ فترة حكم العائلة المروانية، الجزء الثاني من حكم بن أمية ومقرها دمشق.
أما في مكة المكّرمة، لم تصمد فترة حكم عبدالله ابن الزبير طويلاً (تسع سنوات) بسبب الثورات الداخلية على حكمه، إضافة إلى اجتماع الأمويين حول مروان بن الحكم، ومن بعده ولده عبد الملك في الشام، مما مكّنهم من استعادة باقي الولايات.
بعد أن استولى الأمويون على المدينة، وجد مروان بن الحكم أن الفرصة قد سنحت للإجهاز على ابن الزبير، فأرسل له جيشًا ضخما بقيادة الحجاج بن يوسف الثقفي، فنصب الحجاج المنجنيق وشدّد الحصار على مكة، حتى أصاب الناس مجاعة شديدة اضطر فيها ابن الزبير لذبح فرسه ليطعم أصحابه، وتخاذل عنه معظم أصحابه حتى ولداه حمزة وخبيب.
ومع اشتداد الحصار عليه، دخل بن الزبير على أمه أسماء (ذات النطاقين) يشكو لها تخاذل الناس عنه، فقالت قولتها المشهورة: «أنت والله يا بني أعلم بنفسك، إن كنت تعلم أنك على حق وإليه تدعو فامض له، فقد قتل عليه أصحابك، ولا تمكن من رقبتك يتلعب بها غلمان أمية، وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت! أهلكت نفسك، وأهلكت من قتل معك، وإن قلت: كنت على حق فلما وهن أصحابي ضعفت، فهذا ليس فعل الأحرار ولا أهل الدين، وكم خلودك في الدنيا! القتل أحسن.» فقبّل رأسها، وسألها الدعاء له، وانصرف عازمًا على مواصلة القتال، لا شكّ أن بن الزبير كان طالب ولاية، إذ تخلى عنه، الذين بايعوه، حيث قال لأمه "خذلني الناس حتى ولدي وأهلي".
بعد اشتداد الحصار، والذي قيل امتد لأكثر من ثمانية أشهر، جُزّ رأس ابن الزبير، وأُرسِل إلى عبد الملك بن مروان، وصلب الحجاج جثمانه مُنكّسًا عند الحجون بمكة، وظل مصلوبًا حتى مر به عبد الله بن عمر فقال: "رحمة الله عليك يا أبا خبيب، أما والله لقد كنت صوّامًا قوّامًا"، ثم بعث للحجاج قائلاً: "أما آن لهذا الراكب أن ينزل؟"، فأُنزل ودُفن هناك.
أثناء وداعه الأخير، احتضنته أمه لتودعه، فوجدته لابسا درعا من حديد، فقالت: يا بنى ما هذا لباس من يريد ما نريد من الشهادة!، فقال: يا أماه إنما لبسته لأطيب خاطرك وأسكن قلبك به. فقالت: لا يا بنى، انزعه، فنزعه.
وقيل لابن الزبير: ألا تكلمهم في الصلح!!
فقال: والله لو وجدوكم في جوف الكعبة لذبحوكم جميعا، والله لا أسألهم صلحا أبدا.
أضافة إلى كون أن أم المؤمنين عائشة خالة الزبير بن العوام، ووجدته صفية بنت عبد المطلب، فهو زوج عائشة بنت عثمان بن عفان رضى الله، وكذلك زوج نفيسة بنت الحسن بن علي رضى الله عنه، وقد آلت إلى ذريته سقاية زمزم نيابة عن العباسيين في زمنهم، واستمرت فيهم إلى اليوم.
إن كان الصحابي الجليل عبدالله بن الزبير رضى الله عنه، ترك القداسة، وانتهج السياسة، واستمع إلى قول أمه بعقل مفتوح، وبموضوعية حين قالت له: "أنت والله يا بني أعلم بنفسك" وأضافت: "ولا تمّكن من رقبتك يتلعب بها غلمان أمية، وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت!" فربما تغيّر مجرى التاريخ الإسلامي، واضعين في الاعتبار، "القدرية"، وكذلك قوله (ص)، أنتم أدرى بشئون دنياكم.
إلا أنه أهلك قومه، ومكّن غلمان بن أميّه من رقبته، ولم تشفع له القداسة، ولم تعصمه العوذ بأسوار الكعبة المشّرفة من الهلاك المّذل، عليه رضوان الله وأرضاه، فما أكثر الاعتبار، وما أقل العبر.
ebraheemsu@gmail.com
//أقلام متّحدة ــ العدد 103//
////////////////////////

 

آراء