عند الكرمك (1987) نذود عن حياض وطن تلتحم فيه الحرية بالعدالة الاجتماعية (2/3)

 


 

 

)جريدة الأیام 17 ديسمبر 1987(

يعتزل دعاة "لا للحرب" من غالب صفوة الحرية والتغيير القوات المسلحة بزعم أنها مليشيا أسوة بالدعم السريع. فنزعوا عنها بهذا صفتها المؤسسية في الدولة وساووها بجيش خلاء. بل ويزيد بعضهم بالقول بأنها قد زجت السودان في حروب عوان منذ الاستقلال. وينسى هؤلاء يوماً كانوا فيه مع القوات المسلحة تحت الرئيس نميري بطوائفهم من شيوعيين واشتراكيين وحداثيين ومستقلين وحجزوا لشبابهم المواقع في كليتها الحربية. واختار بعضهم أن يغادر النميرية في توقيته الخاص وبقي منه من بقي حتى مصرع النظام.
أما النقطة التي رأيت بها إعادة نشر هذه الكلمة الراجعة إلى 1987 فهو للتذكير بأن اعتزال القوات المسلحة عند دوائر الحرية والتغيير عادة. فاعتزلوها حتى حين كان الظرف مواتياً للإحسان لها. وفي المقال القديم هذا قيمت المعني السياسي والرمزي لاستعادة مدينة الكرمك بجنوب شرق البلاد من قبضة الحركة الشعبية في ديسمبر 1987. وهي المعاني التي غابت عمن سميتهم ب"اليسار الجزافي" الذي اصطف مع الحركة الشعبية. فأخذت على الحركة الشعبية تصعيد الحرب بلا ضرورة بعد اضرابها الغرير عن المشاركة في ديمقراطية استعادتها الجماهير بشق الأنفس في ثورة 1985 لتمنينا بديمقراطية أخرى في سودان جديد ورتنا في اليوم العلينا منه"جديد ما كان على بال" في جنوب السودان. وقلت في كلمتي أن المدن في الديمقراطية تسقط ببطاقة الاقتراع لا بفوهة البندقية. ولم يتفق معي الجزافيون بل شهلوا أنفسهم زرافات ووحدانا للانخراط في جيش الحركة الشعبية لقتال القوات المسلحة.
فليس توقف قوى الحرية والتغيير إجمالا دون الجيش حرباً له، أو عزوفاً عنه في حربة، بجديد. لم تحل بينهم ديمقراطية 1986 التي جاء بها الشعب عنوة من الانخراط في حركة ضل بها غرور السلاح وأضغاثه من أن ترى نفسها وقضاياها فيها حتى وصفت الثورة بأنها لم تنتج إلا "مايو 2 ".وعليه فلا أرى حدثاً في تعلل قوى في الحرية والتغيير بأن القوات المسلحة هي مليشيا أخرى ليعتزلوها ويرموا مع جيش خلاء من أي نوع إيجابياً مع مثل قرنق والحلو وعقار وخليل إبراهيم وأركو مناوي وعبد الواحد والعشرة الكرام، أو سلبياً كحالهم مع الدعم السريع. فعقيدة هذه الجماعة منذ حين أن تنظر أين تقف القوات المسلحة وأن اتخذ موقع الضد منها).
وننظر في الحلقة من المقال في المسألة القومية منظوراً لها من زاوية شرعية استعادة الكرمك من قوات الحركة الشعبية في 1987 حيث توقفنا في المقارنة بين ديمقراطيتنا التي تسع قومياتها وبين استبداد أثيوبيا تحت منقستو هايلي مريم التي كانت سجن شعوبها.

قد يبدو تصوير النظام القائم في السودان بالديمقراطية من نوع "كل زول يعجبو الصارو". ولربما أبرز النظام الأثيوبي قائمة بالفرص الطيبة. المتاحة لقومياته المتذمرة. ولذا وجب على دبلوماسيتنا الشعبية والرسمية أن تشدد في طرح المسألة القومية (التي هي جذر أصيل آخر في المواجهة التاريخية بين السودان وأثيوبيا) على الأسرة الأفريقية والعربية والدولية بدلاً عن التعامي عنها في سبيل صلح موقوت. وعلى هذه الدبلوماسية أن تعلن رحابة النظام الليبرالي في السودان واتساعه للمبادئ المقررة بشأن حقوق الأقليات القومية بما في ذلك حقها في الانفصال عن الدولة القائمة عبر استفتاء شعبي مراقب من الأسرة الدولية. وهذه عندي خطة أفضل في المدى البعيد عن خطة "سدَّة بسدَّة" الخالية من عنصر المبدأ والتي تتعامى عن الظلم حين يلوح اتفاق مريح يضحي فيه السودان واثيوبيا بحلفائهما المؤقتين حتى إشعار آخر.
نحتاج إلى جهد خارق مبارك وكذلك إلى الكثير من الحظ وحسن النية لنجعل من الديمقراطية التعددية راية خفاقة تلهم شعبنا وقواتنا المسلحة للدفاع عن وحدة الوطن وخياراته. وسيكون اتفاق الشعب والقوات المسلحة على مصداقية الديمقراطية التعددية عسيراً. فحركة شعبنا تربت إجمالاً على ريبة أساسية في العسكر. وأجد في نفسي شخصياً صعوبة جمة في تعليق الأمل على (العسكر) في الدفاع عن الوطن ككيان ديمقراطي أولاً وأخيراً. وهذه الصعوبة ناجمة عن أن مثل قلمي قد نشأ وتربى في لعن العساكر وفضح امتيازاتهم، وكشف الاعتمادات (دائماً ضخمة ومبالغ فيها) تلك المتخصصة للدفاع على حساب التعليم والصحة مثلاً، وربط خلاص الوطن بعودة العسكر إلى الثكنات.
وللقوات المسلحة من الجانب الآخر مظالمها من الوضع الديمقراطي. والواضح أن الشقاق الحزبي، الذي ترتجل فيه الاسبقيات القومية ارتجالاً يؤثر مباشرة على إعداد وكفاءة القوات المسلحة. ويحرج هذا الإعداد السيئ القوات المسلحة في حربها بالجنوب التي غالباً ما تبلغ ذروة شراستها في فترات الحكم الديمقراطي الحزبي. ولهذا اعتقل نفر من العسكريين ممن نفذوا انقلاب مايو 1969 فيما بعد وزير الدفاع عام 1965 أو نحوه لينبهوه إلى سوء إعداد قواتهم في الجنوب. وكانت هذه تجربة أولئك الضباط السياسية السابقة مباشرة لانقلابهم على الحكومة. وقد جاء في مقابلة العميد أ. ح. عمر حسن أنه يرى أهمية أن يكون وزير الدفاع من العسكريين ليلمس عن كثب احتياجات القوات المسلحة.
والواقعتان شديدتا الدلالة على جفوة العسكريين للنظام البرلماني التعددي الذي لا يجعل من إعداد الجيش أسبقية أولى.
مواجهة بين الديمقراطية والجبروت:
القراءة الصحيحة للذي يجري في الكرمك كمواجهة بين الديمقراطية والجبروت هي وحدها التي ستجمر شعبنا وقواتنا المسلحة على نار فكرة الديمقراطية التعددية الملهمة. فمن القراءات الخاطئة كما رأينا ازدراء البعض لخلافاتنا الديمقراطية لترشد نفسها بنفسها بحرية باعتبار الحرية، في تعريف هام لها، هي إدراك الضرورة. ومتى استبانت الضرورة أعاد الوعي الحر ترتيب الاسبقيات بشكل يوفر للجسد الاجتماعي مرونة ومناعة أكثر.
ولقد استصوبت كلمة الصادق المهدي في المؤتمر الصحفي الذي عقده بمناسبة إضراب طائفة من مستخدمي الخطوط الجوية السودانية حين قال إن الجبهة الوطنية الصماء ليست من شروط القوة والمنعة. وأنها في أكثر الأحوال حالة من المرض القاتل الصامت. فالديمقراطية بناءً على ذلك باب في أن أكثر الخلاف رحمة. ولعل من سوء الحظ أن نطرح الديمقراطية التعددية كجوهر لصدامنا الحزبي مع المتجبرين والمغامرين في وقت بدأ بريقها يخبو، وجاذبيتها تضمحل. وأصبح لكل فرد أو فئة توقيتها الخاص لسبب فقدانها الثقة نهائياً مع تلك التعددية. ولهذه الخيبة في الديمقراطية أصول في الفترة الانتقالية والانتخابات والنفس السياسي للأحزاب والفعاليات وكذلك في توقعاتها وحزازاتها. وهذا ما لا نرغب في الخوض فيه هنا. المهم أن اليأس من الديمقراطية قد رسّب مناخاً كلاسيكياً لنشوء انقلاب يستدبر الديمقراطية ويحملنا إلى ذرى الصمت البشع في ظل مستبد عادل أو غير عادل ويتوافق هذا الخذلان في الديمقراطية مع الاعتداء على الكرمك. وهو الاعتداء الذي وضع القوات المسلحة بإجماع شعبي في مركز الأحداث. والسؤال وارد هنا: هل تنتهز جماعة مغامرة في القوات المسلحة هذه السانحة لتنهي الديمقراطية الثالثة؟ فأل الله ولا فألها. من المؤكد أن هناك أفقاً أفضل. فليس صحيحاً بإطلاق أن القوات المسلحة والديمقراطية ضدان لا يجتمعان. والبيان على ذلك وافر.
فمن الثابت أن القوات المسلحة إنما أخذت طريقها للحكم إما بدعوة مباشرة من الأحزاب كما فعل حزب الأمة قبيل انقلاب عبود أو بدعوة غير مباشرة كما فعلت أقسام مؤثرة في اليسار قبيل انقلاب نميري حین نشرت جواً تيئسياً عن الديمقراطية الليبرالية داعية للديمقراطية الجديدة من أعلى البيوت.
لقد وقفت القوات المسلحة من الجانب الآخر على مدى التخريب الذي يصيب كادرها وعدتها في ظل الحكم المستبد الذي يرتكب باسمها. فغاية ما يريده المستبد من القوات المسلحة أن تتحول إلى حرس قومي أو ثوري لإذلال الشعب وفرض الاستكانة عليه. ولم تعِ القوات المسلحة هذا التردي فحسب بل قاومه نفر باسل من بنيها.
ولذا كان تحول القوات المسلحة أو قسم منها إلى جانب الشعب شرطاً في سداد الهَبّة الشعبية في السودان. وقد أتيح للقوات المسلحة والشعب أن يرى خلال حرب الجنوب الأخيرة كيف انطلت علينا الأكذوبة النميرية عن وضعه القوات المسلحة كأسبقية أولى. ويكفي دلالة على نقص إعداد قواتنا المسلحة أن الشعب مدعوٌّ الآن للتبرع لإكمال ذلك الإعداد. وهذه التقديرات العامة ربما رجحت تفاؤلنا في القول بالتعايش المريح بين الديمقراطية التعددية والقوات المسلحة. وسيحتاج هذا التعايش إلى كثير من حسن الظن من جانب القوات المسلحة في آلية التعدد الحزبي.
وأولى بشائر حسن الظن هذه أن يرفع نظامنا البرلماني من كفاءته الإدارية في وضع الاسبقيات، وترتيب موارد الوفاء بها، ولن يجفف هذا بحال مصادر الخطة الانقلابية ولكنه ربما قلل تكتيكياً من فرصها المتاحة. أي أن هذه الخطة تقع في باب الإجراءات التي لا تصد القدر ولكن تمنع الندامة.

IbrahimA@missouri.edu
/////////////////////////

 

آراء