عودة الروح ! مع حرب بوتين، يعيش عالم الغرب آخر نهضة أيديولوجية .. تقديم وترجمة/ حامد فضل الله/ برلين
د. حامد فضل الله
2 December, 2023
2 December, 2023
Stephan Lessenich بقلم ستيفان ليسنِش1
تقديم وترجمة حامد فضل الله \ برلين
نُشر المقال بالعنوان أعلاه في الصحيفة الفرنسية لوموند ديبلوماتيك، النسخة الألمانية أبريل 2023.
إلى نص لوموند:
كان الأمر هكذا ذات مرّة: "الغرب" بعد الدمار الذي أحدثته الجيوش في الحرب العالمية الثانية، وبعد ما جلبته النازيّة من أضرار جسيمة على المدنية، منحت هذه الشيفرة الجيوستراتيجية لألمانيا الاتحادية ما بعد الفاشيّة، مأوى مرغوباً به للأخلاق السياسية.
لقد صار الغرب من الآن فصاعداً موطن الحريّة وملجأ الديمقراطية، ونتاجاً متفرعاً عن "الحرب الباردة" كما أحسّت بها أوروبا، رغم أنها في الصراعات المحلية بالوكالة كانت ساخنة جداً.
وصفت المجتمعات الرأسمالية الليبرالية نفسها دعائياً بصفة "العالم الأول" في فترة ثنائية القطبين والمنافسة بين النظامين في فترة ما بعد الحرب التي استمرت عقوداً، وهو وصف كان مشحوناً بالأيديولوجيا بصورة لا نظير لها في التاريخ.
وعند النهاية المؤقتة لهذه المنافسة، حين انهارت اشتراكية الدولة انهياراً ذاتياً، وصل غرور التحالف الأوروبي الأطلسي إلى ذروة الكمال. لقد انهزم الشرق. وأثبت التحالف الأوروبي الأطلسي جدارته، والذي لم يكن الأقوى اقتصادياً فحسب، بل كان الأكثر تقدماً في الثقافة والسياسة بالتكامل مع وجهه الأخلاقي. وبعد التلويح بإشارات النصر الذي انتهى في وقت ما في نهاية التسعينيات انخفضت السوية العاطفية للكلام عن "الغرب" لمدّة تقارب ربع القرن، واقتصرت على المستوى المنخفض للخطابات السياسية العامة أيام الأحد والكتابات التأملية لفلسفة الدولة، واستمر هذا حتى الرابع والعشرين من فبراير عام 2022.
منذ يوم الهجوم الروسي على أوكرانيا، شهد المركّب الجيوسياسي الذي يعود إلى زمن الاعتقاد بأنّ العالم مبني على ثنائية "أبيض-أسود" صحوة ما كان أحد بعد يعدها ممكنة. تتبع منذ ذلك اليوم وسائل الإعلام المختصّة في الشؤون السياسية بالكامل تقريباً تقليد "حداثة غربية" يحتفل به على أنّه، إمّا من منظور التاريخ العالمي أو تاريخ المدنية، وبجميع الأحوال هو فريد من نوعه، مشروع يجب الدفاع عنه. لقد ولدت ثقة العقل في نفسه وحوشاً (زومبيات). وفي عصر العولمة وما بعد الاستعمار عاد مفهوم "الغرب" إلى الحياة، وهو ما كان الناس يظنون أو يأملون أنّه مات، عاد أقوى من أي وقتٍ مضى. ومع ذلك فثمّة ما يدعم الرأي القائل إنّ هذا سيكون الوقفة الأخيرة أو الفصل الأخير من التوهم الغربي.
تشهد النسخة الألمانية من هذا الأداء، بخصوصيتها، والتي استمرت من أثني عشر إلى ألف عام، ومخالفة بالطبع "عن الثقافة الغربية". ولا تزال الرغبة في الابتعاد عنها الآن، أو على الأقل جعلها تبدو غير ذات صلة.
إن الرفاهيّة التي يدور النقاش حولها في هذا البلد، ينبغي أن تمثل أحلام التفوق لكلّ تلك الأمم، ألتي تعتبر نفسها أيضاً، جزءاً من هذا التراث العظيم لسعادة البشرية.
القاسم المشترك للخطاب الألماني حول "جوهر الغرب" وربطه بالذات، بشكل لا مثيل له. فالغرب نحن، ونحن في الغرب نقف مع الحداثة المتحققة، ومع أفضل تحقيق ممكن للدائرة المعيارية للحرية، المساواة والعدالة، ولا يتم تجاهل أي صورة نمطية لقائمة الاِنجازات الغربية، من التنوير إلى التماسك الاجتماعي، عندما يبرزها المثقفون المحليون في صيغة تثمينهم إلى نظامنا الاجتماعي.
الجانب المُظلم الآخر للحداثة الغربية، ذلك الذي انبثق من الغرب على مرّ القرون ولا يزال، من الاستغلال إلى تدمير البيئة، الذي يتجاهلونه عمداً، أو يحاولون التغطية عليه من خلال الادعاء بما هم مقدمين على إنجازه، ما يتخطى الخراب أو الدمار الذي انتجوه في مجرى استغلالهم للطبيعة والاِنسان،
"تجارة العبيد والعبودية، والإمبريالية والاستعمار، والعنصرية والشوفينية، و"سجل خطايا العالم" برمته، مما يجري الإقرار به في مجرى النقد الذاتي، وتسويق القدرة على التعلم المُنتظم، ويتخذون من انحرافات الحداثة الغربية عن مسارها، كباعث للتطور المؤسسي والنمو الأخلاقي. يمثل المؤرخ البارز
من مدينة ماينز أندرياس رودر الموقف السلطوي المحافظ في الخطاب الألماني المعاصر، الذي لا يقبل أي رأي آخر حول الحداثة الغربية ويدعو الغرب إلى العودة إلى "سياسة القوّة"، داخلياً وخارجياً، ويحذّر من العودة إلى سياسة التهدئة، ويرى أن الوقت قد حانَ إلى استخدام القوة العسكرية اللامحدودة، ليس ضدّ المُعتدي الروسي فحسب، بل لمواجه سياسة الهُوية اليسارية وإرهابي البيئة، للعدو الداخلي، الذي بعمل على تحطيم المجتمع البرجوازي.
مع هذه النسخة الجديدة لرؤية "المجتمع المُتشكل"، كما راه سابقاً الغرب الألماني المحافظ في سنوات الستينيات من القرن الماضي، ومُكملاً من خلال النزعة العسكرية الخالية من الهموم على المستوى الوطني والتاريخي، يتمتع رودر كمثقف بنفوذ بعيد المدى، باعتباره منشئ الجسور الفكرية داخل الوسط اليميني السلطويّ المعادي للديمقراطية، وكمعبر أفضل تعبير عن التحول العام في الخطاب ، ألذي بدأ يظهر لبعض الوقت.
إنّ ما يميّز نمط نقاش الخطاب - على الأقل في الوقت الحاضر- هو الموقف الليبرالي
الديمقراطي والحفاظ على دلالات مشتركة بطريقة غريبة تقريباً، كما لو كانت تسترشد بيد خفية. وعلى
ما يبدو يعتمد التيار السائد في العلوم الاجتماعية، عندما يتعلق الأمر لتحديد السمة الفريدة للمجتمع الغربي: النقد الذاتي، تعزيز الشكّ المنهجي وإضفاء الطابع المؤسسي على عمليات التعلم، تمثل الخصائص الأساسية التي تتميز بها الحداثة الغربية ــ الفريدة تاريخياً ــ عن جميع أشكال المجتمعات الأخرى.
وربما أصبح هذا التفسير الذاتي للمجتمع الغربي، الذي تم التوصل إليه من خلال وسائل علمية، أكثر وضوحاً في مساهمتين عن "تاريخ الغرب الحديث" تمّ نشرهما في وقتٍ واحدٍ تقريباً، في صحيفتين بارزتين معبرتين عن الوسط البرجوازي، هكذا يعلن عميد مؤرخي تاريخ ألمانيا الغربية، هاينرش أوجست فينكلر، بمناسبة الاحتفال بعيد الميلاد عام 2022 في صحيفة سوديتشاسايتنج، "أنه تاريخ عمليات التعلم، النقد الذاتي والتصحيح الذاتي. ونشر قبل فترة وجيزة، عالم اجتماع في مدينة مونستر ــ الأقل شهرة من فينكلر، ديتليف بولاك، الذي لا يشعر بالحرج أو الخجل من تأصيل كل ما يقدمه أو يجود به ــ في صحيفة "فرانكفورتا الجمأينا"، يتحدث فيه عن المخزون القائم لممارسة النقد الذاتي والقدرة على تصحيح المسار الذاتي، على أنهما "جوهر الغرب".
والملفت للنظر في هذين التوصيفين المتشابهين، بأن التغير الاجتماعي على أنّه في نفس الوقت اتجاه يقود للأفضل (أي معادل للتحسين) ويأتي من عملية داخلية تقودها وتنفذها القوى الاجتماعية الداخلية.
وفقًا لفينكلر، بأنّ المشروع المعياري للغرب، كان يجب أن يُقاس دائماً، من خلال ممارسته السياسية، إنها المقاييس الموضوعة ذاتياً، للإنسانية والمساواة والتضامن، والتي خضعت مراراً وتكراراً للنظرة النقدية الذاتية (أي للامتحان النقدي الذاتي) من أجل إخضاع المتطوعين، لضبط النفس والعمل على التحسين الذاتي للنظام الاجتماعي.
في هذا العالم الداخلي الذي يعمل بمنطقه الخاص، يتم تقليص المظهر الخارجي للحداثة الغربية إلى وظيفة توفير قوّة الدفع للتقدم في التنظيم الذاتي الاجتماعي. ويقول فينكلر: "إن تاريخ الغرب كان دائماً تاريخاً من الانتهاكات الجسيمة لقيمه الخاصة أيضاً".
في هذا السياق لا تبدو حقوق الإنسان والاِبادة الجماعية على أنها ضحايا، لممارسات الهيمنة الغربية، وإنما لسوء تطبيقها، وتمكن رفع الضرر بنجاح بفضل الانتقادات الداخلية والإصلاحات المؤسسية. "وأصبح المشروع المعياري تدريجياً عملية معيارية".
ونقرأ عند بولاك هنا تاريخ الغرب أيضاً، بطريقة مماثلة جداً، قصّة القوى الغربية للعلاج الذاتي. لقد كانت الثورة الفرنسية، قبل كلّ شيء، واحدة من "الانتقادات الدائمة"، في المجتمعات القادرة على النقد الذاتي، والتي قادت إلى التقدم بجميع أنواعه، من الارتقاء الاجتماعي والسياسي للظروف المعيشية للطبقات الدنيا منذ القرن التاسع عشر، والجهود المبذولة لتخفيض مستوى ثاني أكسيد الكربون سنوياً وحتى الوقت الحاضر.
ومثل زميله المؤرخ، يرى عالم الاجتماع أيضاً، بأنّ الجرائم ضدّ الإنسانية الصادرة من الأراضي الألمانية كمحركٍ حاسمٍ لتحسين الذات الغربية. وتحديداً هنا كان الدور الأكبر لـ "الكوارث التاريخية العالمية في القرن العشرين"، دور كبير في تطوير الأفكار والمؤسسات الغربية ؛ لقد أدت الأزمات الاقتصادية العالمية والحربين العالميتين وإبادة اليهود الأوروبيين إلى ظهور “الوعي" بقابلية التعرض للأخطاء والحاجة إلى التصحيح في المجتمعات الحديثة.
يعتبر بولاك بأنّ الأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية، البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، كدليل على قدرة الحضارة الغربية على التعلم، وبهذه الطريقة، يجب على المرء أن يفهم هذه الحُجّة، على أنّها جلبت في النهاية الكثير من الخير للعالم أجمع. ويعتقد فينكلر أنّ هذا الاستعداد للمراجعة هي "أعظم قوّة لدى الغرب وربما يكون حتى تفسيراً واستمراراً لجاذبية نموذج النظام الغربي في جميع أنحاء العالم".
ربما يرغب المرء هنا في الردّ على هذه الادعاءات أو ربما التغاضي عن ذلك أيضاً، وربما يشير هذا التقييم إلى نمط من الاعتداد الذاتي اللامحدود للمثقفين الغربيين لحدود خداع النفس وصولاً لخداع النفس الكارثي، الذي أصبح مرفوضاً خارج أطار العالم الغربي.
وفي عالم لم يعد ثنائي القطبية بل مُتعدد الأقطاب على نحو لا لبس فيه، حيث أصبح الغرب، وخاصة أوروبا، إقليمياً على نحو متزايد ــ سياسياً واقتصادياً وعسكرياً ــ فإن العرض المتغلغل لغطرسته المعيارية والمثالية والمؤسسية لم يعد يبشّر بالنجاح. لأنّ الغطرسة التي تعبر عن نفسها هنا والتي أصبحت طبيعة ثانية للغرب، ويمكن التعرف عليها الآن بشكل متزايدٍ ليس على أنّها القوة فحسب، بل تعبيراً عن العجز.
كان على الديمقراطيات الغربية - وفقًا لقراءة فينكلر التمييزية الفريدة لتاريخ العالم الحديث –" يجب أن تتعلم أنها لا تستطيع فرض تصوراتها عن النظام السياسي على الثقافات الأخرى". سواء صدق الغرب ذلك أم لا، فليس هناك أي انطباع خارج حدوده، بأنّ مثل هذا التأثير التعليمي قد حدث بالفعل. كذلك، فإن عرضه غير الواقعي لذاته كنظام تعلم، يُقابَل ببعدٍ متزايدٍ، إن لم يكن بازدراء صريح.
، حدث ذات مرّة في الغرب، Once Upon a Time in the West
كانت المقطوعة الطويلة الأخيرة لأسطورة الفيلم الكلاسيكي لسيرجيو ليون، عُرض الفيلم في ألمانيا
بعنوان:".Spiel mir das Lied vom Tod وعربياً "أعزف لي أنشودة الموت.
هنا يمكنني أن أختم هذه المراجعة بالقول:
قدّم الأستاذ ستيفان ليسنِش عرضاً شيقاً، ونقداً موضوعيّاً، لوجهة نظر زملائه، و نقداً ذاتياً صريحاً في عين الوقت، مخالفاً للنقد الذاتي، ألذي جاء في المتن بقلم الأساتذة الأخرين، والذي كان أقرب إلى تمجيد الذات.
إن المقال بالفعل متفجرّ للغاية، مع سخريةٍ مَليحة في بعض الفقرات، ويستحقّ القراءة بالتأكيد، خاصة في هذه الأوقات والتي نادراً ما نسمع فيها مثل هذه المواقف.
وستيفان ليسنِش هو مدير معهد البحوث الاجتماعية وأستاذ النظرية والبحث الاجتماعي في جامعة جوته فرانكفورت.
ونشير هنا بأنّ الباحث الأكاديمي أصدر العديد من الكتب والمقالات الهامّة في مجال تخصصه، نذكر منها على سبيل المثال كتابه الهام الذي صدر منذ فترة بعنوانٍ لافت " الطوفان بجانبنا، المجتمع الخارجي وثمنه" نحن لا نعيش فوق إمكانياتنا فحسب، وإنما نعيش على حساب وإمكانيات الآخرين".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
Stephan Lesenich, ein Totgeglaubter ist wieder da, mit Putins Krieg erlebt der globalen Westen eine letzte ideologische Renaissance, LE Monde Diplomatique / April 2023
hamidfadlalla1936@gmail.com
تقديم وترجمة حامد فضل الله \ برلين
نُشر المقال بالعنوان أعلاه في الصحيفة الفرنسية لوموند ديبلوماتيك، النسخة الألمانية أبريل 2023.
إلى نص لوموند:
كان الأمر هكذا ذات مرّة: "الغرب" بعد الدمار الذي أحدثته الجيوش في الحرب العالمية الثانية، وبعد ما جلبته النازيّة من أضرار جسيمة على المدنية، منحت هذه الشيفرة الجيوستراتيجية لألمانيا الاتحادية ما بعد الفاشيّة، مأوى مرغوباً به للأخلاق السياسية.
لقد صار الغرب من الآن فصاعداً موطن الحريّة وملجأ الديمقراطية، ونتاجاً متفرعاً عن "الحرب الباردة" كما أحسّت بها أوروبا، رغم أنها في الصراعات المحلية بالوكالة كانت ساخنة جداً.
وصفت المجتمعات الرأسمالية الليبرالية نفسها دعائياً بصفة "العالم الأول" في فترة ثنائية القطبين والمنافسة بين النظامين في فترة ما بعد الحرب التي استمرت عقوداً، وهو وصف كان مشحوناً بالأيديولوجيا بصورة لا نظير لها في التاريخ.
وعند النهاية المؤقتة لهذه المنافسة، حين انهارت اشتراكية الدولة انهياراً ذاتياً، وصل غرور التحالف الأوروبي الأطلسي إلى ذروة الكمال. لقد انهزم الشرق. وأثبت التحالف الأوروبي الأطلسي جدارته، والذي لم يكن الأقوى اقتصادياً فحسب، بل كان الأكثر تقدماً في الثقافة والسياسة بالتكامل مع وجهه الأخلاقي. وبعد التلويح بإشارات النصر الذي انتهى في وقت ما في نهاية التسعينيات انخفضت السوية العاطفية للكلام عن "الغرب" لمدّة تقارب ربع القرن، واقتصرت على المستوى المنخفض للخطابات السياسية العامة أيام الأحد والكتابات التأملية لفلسفة الدولة، واستمر هذا حتى الرابع والعشرين من فبراير عام 2022.
منذ يوم الهجوم الروسي على أوكرانيا، شهد المركّب الجيوسياسي الذي يعود إلى زمن الاعتقاد بأنّ العالم مبني على ثنائية "أبيض-أسود" صحوة ما كان أحد بعد يعدها ممكنة. تتبع منذ ذلك اليوم وسائل الإعلام المختصّة في الشؤون السياسية بالكامل تقريباً تقليد "حداثة غربية" يحتفل به على أنّه، إمّا من منظور التاريخ العالمي أو تاريخ المدنية، وبجميع الأحوال هو فريد من نوعه، مشروع يجب الدفاع عنه. لقد ولدت ثقة العقل في نفسه وحوشاً (زومبيات). وفي عصر العولمة وما بعد الاستعمار عاد مفهوم "الغرب" إلى الحياة، وهو ما كان الناس يظنون أو يأملون أنّه مات، عاد أقوى من أي وقتٍ مضى. ومع ذلك فثمّة ما يدعم الرأي القائل إنّ هذا سيكون الوقفة الأخيرة أو الفصل الأخير من التوهم الغربي.
تشهد النسخة الألمانية من هذا الأداء، بخصوصيتها، والتي استمرت من أثني عشر إلى ألف عام، ومخالفة بالطبع "عن الثقافة الغربية". ولا تزال الرغبة في الابتعاد عنها الآن، أو على الأقل جعلها تبدو غير ذات صلة.
إن الرفاهيّة التي يدور النقاش حولها في هذا البلد، ينبغي أن تمثل أحلام التفوق لكلّ تلك الأمم، ألتي تعتبر نفسها أيضاً، جزءاً من هذا التراث العظيم لسعادة البشرية.
القاسم المشترك للخطاب الألماني حول "جوهر الغرب" وربطه بالذات، بشكل لا مثيل له. فالغرب نحن، ونحن في الغرب نقف مع الحداثة المتحققة، ومع أفضل تحقيق ممكن للدائرة المعيارية للحرية، المساواة والعدالة، ولا يتم تجاهل أي صورة نمطية لقائمة الاِنجازات الغربية، من التنوير إلى التماسك الاجتماعي، عندما يبرزها المثقفون المحليون في صيغة تثمينهم إلى نظامنا الاجتماعي.
الجانب المُظلم الآخر للحداثة الغربية، ذلك الذي انبثق من الغرب على مرّ القرون ولا يزال، من الاستغلال إلى تدمير البيئة، الذي يتجاهلونه عمداً، أو يحاولون التغطية عليه من خلال الادعاء بما هم مقدمين على إنجازه، ما يتخطى الخراب أو الدمار الذي انتجوه في مجرى استغلالهم للطبيعة والاِنسان،
"تجارة العبيد والعبودية، والإمبريالية والاستعمار، والعنصرية والشوفينية، و"سجل خطايا العالم" برمته، مما يجري الإقرار به في مجرى النقد الذاتي، وتسويق القدرة على التعلم المُنتظم، ويتخذون من انحرافات الحداثة الغربية عن مسارها، كباعث للتطور المؤسسي والنمو الأخلاقي. يمثل المؤرخ البارز
من مدينة ماينز أندرياس رودر الموقف السلطوي المحافظ في الخطاب الألماني المعاصر، الذي لا يقبل أي رأي آخر حول الحداثة الغربية ويدعو الغرب إلى العودة إلى "سياسة القوّة"، داخلياً وخارجياً، ويحذّر من العودة إلى سياسة التهدئة، ويرى أن الوقت قد حانَ إلى استخدام القوة العسكرية اللامحدودة، ليس ضدّ المُعتدي الروسي فحسب، بل لمواجه سياسة الهُوية اليسارية وإرهابي البيئة، للعدو الداخلي، الذي بعمل على تحطيم المجتمع البرجوازي.
مع هذه النسخة الجديدة لرؤية "المجتمع المُتشكل"، كما راه سابقاً الغرب الألماني المحافظ في سنوات الستينيات من القرن الماضي، ومُكملاً من خلال النزعة العسكرية الخالية من الهموم على المستوى الوطني والتاريخي، يتمتع رودر كمثقف بنفوذ بعيد المدى، باعتباره منشئ الجسور الفكرية داخل الوسط اليميني السلطويّ المعادي للديمقراطية، وكمعبر أفضل تعبير عن التحول العام في الخطاب ، ألذي بدأ يظهر لبعض الوقت.
إنّ ما يميّز نمط نقاش الخطاب - على الأقل في الوقت الحاضر- هو الموقف الليبرالي
الديمقراطي والحفاظ على دلالات مشتركة بطريقة غريبة تقريباً، كما لو كانت تسترشد بيد خفية. وعلى
ما يبدو يعتمد التيار السائد في العلوم الاجتماعية، عندما يتعلق الأمر لتحديد السمة الفريدة للمجتمع الغربي: النقد الذاتي، تعزيز الشكّ المنهجي وإضفاء الطابع المؤسسي على عمليات التعلم، تمثل الخصائص الأساسية التي تتميز بها الحداثة الغربية ــ الفريدة تاريخياً ــ عن جميع أشكال المجتمعات الأخرى.
وربما أصبح هذا التفسير الذاتي للمجتمع الغربي، الذي تم التوصل إليه من خلال وسائل علمية، أكثر وضوحاً في مساهمتين عن "تاريخ الغرب الحديث" تمّ نشرهما في وقتٍ واحدٍ تقريباً، في صحيفتين بارزتين معبرتين عن الوسط البرجوازي، هكذا يعلن عميد مؤرخي تاريخ ألمانيا الغربية، هاينرش أوجست فينكلر، بمناسبة الاحتفال بعيد الميلاد عام 2022 في صحيفة سوديتشاسايتنج، "أنه تاريخ عمليات التعلم، النقد الذاتي والتصحيح الذاتي. ونشر قبل فترة وجيزة، عالم اجتماع في مدينة مونستر ــ الأقل شهرة من فينكلر، ديتليف بولاك، الذي لا يشعر بالحرج أو الخجل من تأصيل كل ما يقدمه أو يجود به ــ في صحيفة "فرانكفورتا الجمأينا"، يتحدث فيه عن المخزون القائم لممارسة النقد الذاتي والقدرة على تصحيح المسار الذاتي، على أنهما "جوهر الغرب".
والملفت للنظر في هذين التوصيفين المتشابهين، بأن التغير الاجتماعي على أنّه في نفس الوقت اتجاه يقود للأفضل (أي معادل للتحسين) ويأتي من عملية داخلية تقودها وتنفذها القوى الاجتماعية الداخلية.
وفقًا لفينكلر، بأنّ المشروع المعياري للغرب، كان يجب أن يُقاس دائماً، من خلال ممارسته السياسية، إنها المقاييس الموضوعة ذاتياً، للإنسانية والمساواة والتضامن، والتي خضعت مراراً وتكراراً للنظرة النقدية الذاتية (أي للامتحان النقدي الذاتي) من أجل إخضاع المتطوعين، لضبط النفس والعمل على التحسين الذاتي للنظام الاجتماعي.
في هذا العالم الداخلي الذي يعمل بمنطقه الخاص، يتم تقليص المظهر الخارجي للحداثة الغربية إلى وظيفة توفير قوّة الدفع للتقدم في التنظيم الذاتي الاجتماعي. ويقول فينكلر: "إن تاريخ الغرب كان دائماً تاريخاً من الانتهاكات الجسيمة لقيمه الخاصة أيضاً".
في هذا السياق لا تبدو حقوق الإنسان والاِبادة الجماعية على أنها ضحايا، لممارسات الهيمنة الغربية، وإنما لسوء تطبيقها، وتمكن رفع الضرر بنجاح بفضل الانتقادات الداخلية والإصلاحات المؤسسية. "وأصبح المشروع المعياري تدريجياً عملية معيارية".
ونقرأ عند بولاك هنا تاريخ الغرب أيضاً، بطريقة مماثلة جداً، قصّة القوى الغربية للعلاج الذاتي. لقد كانت الثورة الفرنسية، قبل كلّ شيء، واحدة من "الانتقادات الدائمة"، في المجتمعات القادرة على النقد الذاتي، والتي قادت إلى التقدم بجميع أنواعه، من الارتقاء الاجتماعي والسياسي للظروف المعيشية للطبقات الدنيا منذ القرن التاسع عشر، والجهود المبذولة لتخفيض مستوى ثاني أكسيد الكربون سنوياً وحتى الوقت الحاضر.
ومثل زميله المؤرخ، يرى عالم الاجتماع أيضاً، بأنّ الجرائم ضدّ الإنسانية الصادرة من الأراضي الألمانية كمحركٍ حاسمٍ لتحسين الذات الغربية. وتحديداً هنا كان الدور الأكبر لـ "الكوارث التاريخية العالمية في القرن العشرين"، دور كبير في تطوير الأفكار والمؤسسات الغربية ؛ لقد أدت الأزمات الاقتصادية العالمية والحربين العالميتين وإبادة اليهود الأوروبيين إلى ظهور “الوعي" بقابلية التعرض للأخطاء والحاجة إلى التصحيح في المجتمعات الحديثة.
يعتبر بولاك بأنّ الأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية، البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، كدليل على قدرة الحضارة الغربية على التعلم، وبهذه الطريقة، يجب على المرء أن يفهم هذه الحُجّة، على أنّها جلبت في النهاية الكثير من الخير للعالم أجمع. ويعتقد فينكلر أنّ هذا الاستعداد للمراجعة هي "أعظم قوّة لدى الغرب وربما يكون حتى تفسيراً واستمراراً لجاذبية نموذج النظام الغربي في جميع أنحاء العالم".
ربما يرغب المرء هنا في الردّ على هذه الادعاءات أو ربما التغاضي عن ذلك أيضاً، وربما يشير هذا التقييم إلى نمط من الاعتداد الذاتي اللامحدود للمثقفين الغربيين لحدود خداع النفس وصولاً لخداع النفس الكارثي، الذي أصبح مرفوضاً خارج أطار العالم الغربي.
وفي عالم لم يعد ثنائي القطبية بل مُتعدد الأقطاب على نحو لا لبس فيه، حيث أصبح الغرب، وخاصة أوروبا، إقليمياً على نحو متزايد ــ سياسياً واقتصادياً وعسكرياً ــ فإن العرض المتغلغل لغطرسته المعيارية والمثالية والمؤسسية لم يعد يبشّر بالنجاح. لأنّ الغطرسة التي تعبر عن نفسها هنا والتي أصبحت طبيعة ثانية للغرب، ويمكن التعرف عليها الآن بشكل متزايدٍ ليس على أنّها القوة فحسب، بل تعبيراً عن العجز.
كان على الديمقراطيات الغربية - وفقًا لقراءة فينكلر التمييزية الفريدة لتاريخ العالم الحديث –" يجب أن تتعلم أنها لا تستطيع فرض تصوراتها عن النظام السياسي على الثقافات الأخرى". سواء صدق الغرب ذلك أم لا، فليس هناك أي انطباع خارج حدوده، بأنّ مثل هذا التأثير التعليمي قد حدث بالفعل. كذلك، فإن عرضه غير الواقعي لذاته كنظام تعلم، يُقابَل ببعدٍ متزايدٍ، إن لم يكن بازدراء صريح.
، حدث ذات مرّة في الغرب، Once Upon a Time in the West
كانت المقطوعة الطويلة الأخيرة لأسطورة الفيلم الكلاسيكي لسيرجيو ليون، عُرض الفيلم في ألمانيا
بعنوان:".Spiel mir das Lied vom Tod وعربياً "أعزف لي أنشودة الموت.
هنا يمكنني أن أختم هذه المراجعة بالقول:
قدّم الأستاذ ستيفان ليسنِش عرضاً شيقاً، ونقداً موضوعيّاً، لوجهة نظر زملائه، و نقداً ذاتياً صريحاً في عين الوقت، مخالفاً للنقد الذاتي، ألذي جاء في المتن بقلم الأساتذة الأخرين، والذي كان أقرب إلى تمجيد الذات.
إن المقال بالفعل متفجرّ للغاية، مع سخريةٍ مَليحة في بعض الفقرات، ويستحقّ القراءة بالتأكيد، خاصة في هذه الأوقات والتي نادراً ما نسمع فيها مثل هذه المواقف.
وستيفان ليسنِش هو مدير معهد البحوث الاجتماعية وأستاذ النظرية والبحث الاجتماعي في جامعة جوته فرانكفورت.
ونشير هنا بأنّ الباحث الأكاديمي أصدر العديد من الكتب والمقالات الهامّة في مجال تخصصه، نذكر منها على سبيل المثال كتابه الهام الذي صدر منذ فترة بعنوانٍ لافت " الطوفان بجانبنا، المجتمع الخارجي وثمنه" نحن لا نعيش فوق إمكانياتنا فحسب، وإنما نعيش على حساب وإمكانيات الآخرين".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
Stephan Lesenich, ein Totgeglaubter ist wieder da, mit Putins Krieg erlebt der globalen Westen eine letzte ideologische Renaissance, LE Monde Diplomatique / April 2023
hamidfadlalla1936@gmail.com