هل مدّ المبعوث الأمريكي الخاص للسودان "غصن زيتون" وبعث برسالة سلام للحكومة السودانية؟, كان ذلك ما خلص إليه "اتلانتيك كاونسيل", في تقييمه لمردود ما أدلى به السفير دونالد بووث الذي استضافه المجلس غير الحزبي المعني بصناعة بدائل السياسيات الأسيوع الماضي في واشنطن محاضراً عن سياسات بلاده تجاه التطورات السياسية الراهنة في دولتي السودان وجنوب السودان, وطرحه ل "تغييرات مهمة" في سياسة الولايات المتحدة تجاه البلدين. .
ربما كان داعي التفاؤل الذي ذهب إليه المجلس هي إفادة المبعوث في رده على سؤال مديره العام جي بيتر فام عن إمكانية رفع إسم السودان من لائحة الدول الداعمة للإرهاب بقوله "إن الخطوة تحتاج إلى إدارة حوارات فنية وسياسية لموافاة متطلبات ذلك", مؤكداً استعداد الإدارة الأمريكية ل"الدخول في حوارات مع السودان بشكل أكثر صراحة وتواصلاً حول كل القضايا التي تؤطر العلاقات الثنائية بين البلدين".
وعزّز من ذلك التفاؤل ما ورد في تفاصيل العرض الذي طرحه السفير بووث على الخرطوم لتجاوز حالة "الجمود" التي تسيطر على جهود التواصل بين البلدين, حيث قال إنه "بغض النظر عن خيبات الماضي, فإنني أعتقد أنه لا تزال هناك فرصة لتحقيق علاقات أفضل, وأننا يجب أن نتواصل بإتجاه ذلك الهدف, ويجب أن نخط معاً مساراً للإمام, ومن جانبي فإنني أؤكد استعدادي, واستعداد حكومتي, للدخول في حوار مع السودانيين أكثر صراحة وتواصلاً, وأن أزور الخرطوم لمناقشة القضايا كافة بشأن علاقاتنا الثنائية".
ما بدا عرضاً أمريكياً مغرياً, أوبمثابة غضن زيتون ورسالة سلام للحكومة السودانية, لم يكن كذلك على الإطلاق من وجهة نظر الخرطوم, لخّصه رد فعل دبلوماسي مقتضب "لا جديد", أو بتعبير آخر أن "العرض" المقدم من المبعوث الأمريكي لا يمكن ببساطة تسويقه لدى صاحب القرار في الخرطوم لأنه بالفعل لم ينتقل من خانة "الوعود" التي شبعت منها الحكومة السودانية على مدار نحو عقدين من حالة "التواصل" غير المنتجة, إلى خطوة ولو صغيرة بإتجاه تطبيع العلاقات بين البلدين مع كل "الاستثمار" الذي أنفقته الخرطوم دون مقابل لإرضاء الإدارات الأمريكية المتعاقبة, وخسرت رهانها على مكافأة أمريكية لم تتحقق أبداً, ذلك أن "صحيفة السوابق" لنظام ىالحكم في الخرطوم من وجهة نظر واشنطن ظلت مفتوحة باستمرار, وقابلة دائماً لإضافة المزيد, كما لم تشهد مع كل التجاوب الذي أبدته الخرطوم "شطب" واحدة منها.
وفي الواقع فإن حكومة الرئيس البشير أعطت ولم تستبق شيئاً من التنازلات لتقديمها لإقناع واشنطن ولو لفتح "كوة صغيرة" في جدار "التطبيع" المستحيل في حسابات الولايات المتحدة وفق المعطيات وتوزانات الأمر الواقع في الوقت الراهن, وتكاد تكون قد استنفذت أوراقها جميعاً, فالتعاون الاستخباري اللامحدود الذي وجدت فيه الأجهزة الأمنية والاستخبارية الأمريكية كنزاً ثميناً من نظيرتها السودانية التي فتحت خزائن ملفاتها على مصاريعها دعماً للحرب الأمريكية على "الإرهاب" لم يثمر بعد نحو خمسة عشر عاماً, فلا يزال السودان يقبع في لائحة الدول الداعمة للإرهاب منذ العام 1993, ويبدو أن واشنطن اعتبرت ما صرح به ذات مرة مدير جهاز المخابرت السوداني السابق بأن ثمرة ذلك التعاون كانت "حماية السودان" من ضربة أمريكية ثمناً معقولاً يكفيها مؤونة تحفيز الخرطوم بشطب اسمها من لائحة دعم الإرهاب ما دام مجرد "الخوف" من بطش الضربات الأمريكية يحقق لها كل تلك المكاسب فلماذا تدفع مقابله شيئاُ, ولماذا تتخلى عن هذا "الكرت الرابح" أصلاً بلا مقابل.
ومثلما حدث في ملف التعاون الاستخباري بشأن الحرب على الإرهاب, فقد تكرر الأمر نفسه في مسألة تطبيع العلاقات الثنائية بين البلدين التي كانت الخرطوم تنتظره , مدفوعة بإغراءات ووعود أمريكية", ثمناً لإبرام اتفاقية السلام الشامل بسقوفات مفتوحة وتسوية مشكلة جنوب السودان بما في ذلك القبول بتقسيم البلاد حتى دون ترتيب للتبعات والتداعيات القاسية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً على البلد الأم, لقد كان سهلاً على واشنطن الاستمرار في تجاهل تحفيز الخرطوم والتنكر لوعودها لأن الحكومة السودانية ظلت مستعدة لتقديم التنازلات, وإلقاء أوراقها على الطاولة "عجزاً" أو "خوفاً" وربما لعدم الدراية واتقان فنون إدارة العلاقات الدولية.
ما حدث بعد ذلك أن الخرطوم إدركت متأخرة للغاية أنها وقعت ضحية ل"وعود" أمريكية غير قابلة للصرف, وزاد الأم ضغثاً على إبالة حين عملت واشنطن على عرقلت مشاركة الرئيس البشير في أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر من العام الماضي على خلفية تبعات قرار التوقيف لصادر من الحكمة الجنائية الدولية بحقه, مما زاد من وتيرة التوتر بين الطرفين, وتزامن ذلك مع تعيين السفير دونالد بووث مبعوثاً أمريكياً خاصاً للسودان قبل ذلك بشهر واحد, وكان المبعوث زار الخرطوم للمرة الأولى في مهمته في ذلك الشهر, وواصل سياسية سابقيه في التعامل مع المسؤلين في الحكومة السودانية وعزل الرئيس البشير من أي تواصل مباشر, وهي ظاهرة لافتة ذلك أنها أصبحت في حكم الأمر المقبول بالنسبة للسلطات السودانية منذ صدور قرار التوقيف الدولي بحق البشير فقد اعتاد المبعوثون الدوليون, وحتى كبار المسؤولين الغربيين الذي يزورون الخرطوم أن يتباحثوا مع مساعدي الرئيس وتساعدهم السياسية الرسمية المتبعة في الخرطوم على عزل الرئيس, ربما كان الأمر في بدايته اقتضته ضرورات عملية وواقعية قد لا تطول, إلا أنه تحول في نهاية الأمر مع مرور الزمن إلى حالة استثنائية لا نظير لها في عالم السياسة الدولية.
لم تجد الخرطوم الغاضبة من تحول "عزل الرئيس" دبلوماسياً محلياً إلى "عزل" دولي بمنعه من المشاركة في أعمال أهم فعاليات دولية للأمم المتحدة, إلا أن تصعّد من لهجتها ضد الإدارة الأمريكية, فبادرت إلى إفشال زيارة المبعوث بووث الثانية للخرطوم في ديسمبر الماضي باستقبال "فاتر", ومضت أبعد لاحقً حين قررت التعامل بالمثل ورفضت منحه تأشيرة دخول للبلاد رداً على ما حدث للرئيس قبلها بأشهر.
ويبدو أن تلك الخطوة أحدثت لأول مرة, على محدوديتها, ضغوطاً على واشنطن من قبل الخرطوم, فليس سهلاً على الإدارة الأمريكية أن مبعوثاً رئاسياً كان يجد أسلافه اهتماماً واسعاً وأدوراً كبيرة في التأثير على السياسة السودانية طوال العقدين الماضيين يصبح خارج دائرة الفعل والتأثير مما يجعل مهمته عديم الجدوى, فبعد أكثر من عام من تعيينه لم يحقق السفير بووث إنجازاً من أي نوع, وتتعاظم المسألة حين يطارد الفشل الجزء الآخر من مهمته المتعلقة بجنوب السودان الغارق في حروب أهلية طاحنة أثبتت مدى "عجز" الدور الأمريكي مع كل الجهود التي بذلها لتحقيق "الحلم الجنوبي" وضمان استقلال جنوب السودان تتحول إلى كوابيس.
على خلفية هذا المشهد يمكن قراءة المواقف التي أعلنها بووث أمام "أتلانتيك كاونسل", فهذه الرغبة التي أكدها في سبيل "التواصل المستمر مع الخرطوم", تعكس انشغالاً بهموم أجندته بأكثر مما هو اهتمام بأجندة العلاقات الثنائية بين البلدين, ويبدو معنياً بكسر العزلة المفروضة على بعثته إلى الخرطوم المجمدة على مدار عامل كامل, وهو أمر من شأنه التأثير في خاتمة المطاف على مهنته, ولذلك بدا لافتاً أنه حاول ربط عرضه ب"زيارة" الخرطوم والدخول في حوار إطار شامل لقضايا العلاقات الثنائية, وفي الواقع فإن مسألة مواصلة الحكومة السودانية منع المبعوث الأمريكي من زيارة الخرطوم ليست محل اهتمام شخصي للسفير بووث, ولكنه أصبح أيضاً مثار انشغال واسع في دوائر القرار الأمريكي المتعلقة بالشأن السوداني حتى أصبحت في قلب كل المحادثات الي تجري بين الطرفين, وأصبحت طلباً أمريكاً ملّحاً, بل تحولت إلى شرط تحول واشنطن من جهتها استخدامه لمنع السودان من تحقيق أية اختراقات في ملفاته العالقة مع المجتمع الدولي, فمسألة إعفاء الديون التي استوفى شروطها الفنية أصبحت عالقة لأسباب سياسية متعلقة بالموقف الأمريكي.
والحكومة السودانية من جهتها تدرك أن هذه هي ورقتها الوحيدة وربما الأخيرة لمحاولة تحقيق اختراق ولو ضئيل في جدار "التطبيع" المستعصي عليها بعد كل الجهود التي بذلتها, وليس سهلاً أن تتخلى عنها دون الحصول على حوافز حقيقية تتجاوز "الوعود المجهضة", وهو ما يجعل التنازل عن هذا الموقف مغامرة لا تخلو من الرعونة, فالمسألة لا تتعلق فقط بعدم حدوث تقدم على صعيد العلاقات الثنائية, بل أيضاً بمسألة "تقنين" عزلة الرئيس البشير من قبل الولايات المتحدة وحلفائها, وللمفارقة بمساعدة حكومته التي تقبل بمثل هذا الوضع البالغ الشذوذ.
والملاحظ في مجمل هذه التطورات على صعيد العلاقات السودانية لالأمريكية أنها تتعلق بخلافات حول مسائل إجرائية, صحيح أنها ليست ذات قيمة في حد ذاتها إلا بقدر أنها تعكس تباعد المواقف السياسية, وثمة حاجة لمقاربة أكثر لمضمون المواقف السياسية, فالولايات المتحدة تحتاج لمراجعة مواقفها تجاه السودان ليس فقط من منظور العلاقات الرسمية بل كذلك من زاوية العلاقات الشعبية, فالحصار الاقتصادي الذي تفرضه واشنطن على السودان أكدت التجربة العملية أنها تضر مصالح المجتمع بأكثر مما تمس الحكومة, ذلك أن المواطنين هم من يدفعون في الواقع ثمن هذا الحصار القاسي, فيما تبقى السلطة الحاكمة قادرة على تدبير أمرها, فلذلك فإن الحاجة لمراجعة الحصار تفرضه الحاجة الملحة للمجتمع السوداني الذي يدفع بالنيابة عن الحكومة ثمن عقوبات لا تطالها.
أما فيما يتعلق بمسائل الحرب والسلام وعدم الاستقرار والتحول الديمقراطي فتلك مطالب حقيقية للشعب السوداني, ولكن على إدارة أوباما مراجعة استراتيجيتها التي أعلنتها العام 2010 تجاه السودان القائمة على ضمان استمرار السودان بلداً موحداً وفق التزامات اتفاقية السلام الشامل, أو ضمان قيام دولتين قادرتين على العيش في سلام مع نفسيهما وفيما بينهما ومع جوارهما, وحصاد تلك الاستراتيجية ظاهر مسجلاً فشلاً ذريعاً في كل فرضياتها, فنتاج الاتفاقية التي كانت واشنطن عرّابها الأساسي كان تقسيما للسودان أنتج دولتين فاشلتين بإمتياز, والشعبين يعانيان أشد المعاناة, استمرار الحرب في البلدين وتبعاتها الإنسانية, وهما من يدفعان ثمن وعود شاركت واشنطن في بذلها, ولكنها في نهاية الأمر كانت شريكا للطبقتين الحاكمتين في خلق هذا الواقع المزري.
ولذلك فإن العلاقات السودانية الأمريكية تحتاج إلى معادلة جديدة تخرج بها من جدل الاتهامات المتبادلة, والمناورات الصغيرة المحدودة الأفق, إلى حوار أكثر جدية ومسؤولية هدفه بالأساس خدمة مصالح الشعوب الحقيقية, فواشنطن على الرغم من كل البلاغيّات في شأن موقفها من حكم الإنقاذ في السودان ساعدت أيضاً على بقائه في السلطة كل هذه المدة ولم تكن عاملاً فعلياً في تغييره, كما أن الحكومة السودانية في عهد السلطة الحالية لم يكن خصما أيدولوجيا للولايات المتحدة نحو ما تزعمه الشعارات المرفوعة, وهو ما يتطلب تصحيح هذه العلاقات لصالح الشعب, وللخروج من دائرة الجمود الحالية فلماذا لا يتم تعديل العرض المقدم من المبعوث الأمريكي بشأن رسم خريطة طريق مشتركة لمستقبل العلاقت الثنائية أن يجري حوار ثنائي مباشر جدي بشأنها لا في الخرطوم ولا في واشنطن بل في بلد ثالث وفي حالة حدوث تقدم فعلي يتم الانتقال بها إلى مرحلة جديدة.