في إيران.. هل تنتحر القداسة أم السياسة؟!

 


 

 

 

الفاضل حسن عوض الله

سطر جديد

 

        (إنتحار القداسة على أعتاب السياسة) هذا القول الشائع بات يعد من تراث الأدب السياسي في السودان، والبعض ينسبه إلى عمنا الراحل السيد يحي الفضلي الذي إمتلك ناصية البيان والأدب والخطابة في الفترة التي واكبت الإستقلال. وترجع ملابسات هذا القول إلى واقعة إنسلاخ حزب الشعب الديمقراطي عن الحزب الوطني الإتحادي في يونيو 1956م على إثر لقاء السيدين الشهير في 3 ديسمبر 1955م، وهو اللقاء الذي ترتب عليه إسقاط أول حكومة وطنية برئاسة الرئيس إسماعيل الأزهري التي حققت السودنة والجلاء والإستقلال إذ سقطت في 5 يوليو 1956م ..أي بعد سبعة أشهر فقط من إعلان الإستقلال..

        وإيران في هذه الأيام تشهد نُذر تصادم حاد ما بين القداسة المستندة على (ولاية الفقيه) والتي يجسدها شخص المرشد (الولي الفقيه) على خامنئ، وما بين تيار الإصلاح السياسي الذي يجاهد لإنتزاع القرار السياسي من براثن الملالي والعمائم السوداء. هذا التيار الإصلاحي السياسي في نظري لا يمثله بعض رجال الدين أمثال هاشمي رافسنجاني ومحمد خاتمي ومير حسين موسوي كما يبدو على سطح المشهد السياسي الإيراني فهؤلاء القادة خرجوا من رحم العباءة الدينية الشيعية ذاتها وربما لا يتجاوز أفقهم السياسي حاكمية ولاية الفقيه، إنما تمثله بعض القوى المستنيرة من المثقفين والطلاب والنساء وكافة القطاعات الشعبية التي ضاق صدرها بنظام ولاية الفقيه وما تكرسه من دكتاتورية بإسم الدين والمذهب الشيعي.

        (ولاية الفقيه) هذه عبارة عن مصطلح ديني موجود في المذهب الشيعي حيث ينوب الولي الفقيه (أو المرشد) عن الإمام المنتظر في قيادة الأمة وإقامة حكم الله على الأرض. ويرى المعارضون الإيرانيون لحكومة الولي الفقيه أنها دولة لا مكان فيها للشعب أو الديمقراطية، وحينما دعا بعض أئمة الشيعة المستنيرين إلى إقامة جمهورية (إسلامية) ديمقراطية بديلاً عن نظام ولاية الفقيه رفض الإمام الخميني هذا النهج بإعتبار أن الديمقراطية مفهوم غريب. وعلى الرغم من أن الولي الفقيه أو المرشد يأتي إلى منصبه بالإنتخاب من مجلس الخبراء الذي يضم مجموعة من رجال الدين المنتخبين بواسطة الشعب إلا أنه يمتلك بموجب هذا الإنتخاب الديني سلطات واسعة تجعله صانع القرار الأول في إيران، فهو مسئول عن تعيين السياسة العامة للدولة والقيادة العامة للقوات المسلحة والحرس الثوري وقوى الأمن، إلى جانب صلاحياته المطلقة في إعلان الحرب أو عزل نصف أعضاء مجلس صيانة الدستور وعزل وتعيين رئيس السلطة القضائية! إذاً ماذا تبقى لرئيس الجمهورية من صلاحيات ومهام؟!

        إن التحدي الحقيقي للمسار الإيراني يكمن في فك الإرتباط ما بين نظام ولاية الفقيه والنظام السياسي... (فك الإرتباط) هذا قد يؤدي إلى إنتحار أحدهما على أعتاب الآخر.

 

الفاضل حسن عوض الله                                                        سطر جديد

صلاح أحمد إبراهيم.. قيثارة الشعر وبركانه!

        لم أتشرف بمعرفة شاعرنا الكبير صلاح أحمد إبراهيم إلا في بعض اللقاءات العابرة، ربما لأنه يكبر جيلي بأكثر من عقدين، كذلك لسنوات غربته الطويلة حينما خدم وطنه وبلاده سفيراً متميزاً.. أو حين إستقال من المنصب المرموق وفاءً لقضايا شعبه وآثر وحشة المنافي وقلبه يكاد يتمزق حنيناً وشوقاً للوطن:

في بلدي

حيث يعزُ غريب الدار، يُحب الضيف

ويُخص بآخر جرعةِ ماء عز الصيف

بعشا الأطفال

ببليل البشر والإيناس إذ ما رقَّ الحال

يا طير الهجرة.. يا طائر

يا طيراً وجهته بلادي

خذني بالله أنا والله على أُهبة

قصت أقدارٌ أجنحتي

وأنا في زاويةٍ أتوسد أمتعتي

ينحسر الظلُ فأمضي للظلِ الآخر

لكن الطير مضى عني

لم يفهم ما كنت أغني

        جاءت الإنتفاضة وعاد صلاح إلى وطنه وأحبائه وعشاق شعره. في تلك الأمسيات، أمسيات الأيام الأولى لما بعد الإنتفاضة التقيت صديقنا وجارنا في حي البوستة الإعلامي الكبير الأخ متوكل كمال، فطلب مني أن أرافقه لنمضي إلى منزل صديقه صلاح بحي العباسية بأمدرمان. كان سبب الزيارة الأول هو الترحيب بعودته بعد سنوات الغربة الطوال والسبب الثاني كان تطوع الأخ متوكل لحل إشكالية خاصة بالتلفزيون جراء مقابلة أجريت عقب الإنتفاضة مباشرة مع السيدة المناضلة فاطمة أحمد إبراهيم شقيقة صلاح، إذ رأى القائمون على أمر التلفزيون وقتها عدم بثها بسبب ما أسموه حدة السيدة فاطمة في التصدي لرموز النظام المايوي وحتى لبعض الرموز في المجلس العسكري الإنتقالي والحكومة الإنتقالية. كان الأخ متوكل يرمي إلى إقناع السيدة فاطمة بأن يعيد هو شخصياً معها تسجيل الحلقة مستعيناً بصداقته لشقيقها صلاح في إقناعها.

        قابلنا صلاح هاشاً باشاً يقطر رقة وعذوبة وعندما عرفني به الأخ متوكل راح (يسالمني) في حميمية آثرة. بعد السلام و(المطايبة) فتح متوكل الموضوع فلمحت سحابة حزن وكدر غشت وجه صلاح وتهدج صوته وهو يترافع عن شقيقته الصغرى الأثيرة إلى قلبه، ومضى يقول لمتوكل إن التلفزيون الذي صادر حديث فاطمة بحجة (الحدة البالغة) عليه أن يفهم أنها حدّة مشروعة لإمرأة نازلت جبروت النظام وطغيانه بروحها وأسنانها وأظافرها وفوق ذلك دماء زوجها الشهيد. لم أنزعج ولم ينزعج متوكل من قيثارة الشعر التي إستحالت إلى بركانٍ هادر فذاك هو صلاح الذي كتب في ملحمته الخالدة (نحن والردى) يقول:

جُرحنا دامٍ ونحن الصامتون

حُزننا جمُّ ونحن الصابرون

فأبطشي ما شئتٍ فينا يا مَنُون

 

 

آراء