في العلاقة بين المثقف والسلطة: وجهة نظر … بقلم: السفير/ د. خالد محمد فرح
2 February, 2009
المقصود بالمثقف هاهنا ، ضبطاً للمصطلحات ، وقصراً للنظر على الحدود والتعريفات لغرض هذا المبحث بالتحديد ، هو أي فرد من أولئك النفر من أرباب الأقلام ، أوالأفكار ، أوالآداب ، أو المهن ،أوالصناعات ، أوالفنون ومن إليهم. ويكون المثقفون وفقاً لتعريفنا هذا ، هم جميع المشتغلين أوالمهتمين بمختلف أنواع الانتاج الفكري ، أو الروحي ، أوالوجداني في مجتمع ما ، وقد يضاف إليهم جماهير المتعلمين عموماً على سبيل التوسع. أمَّا السلطة بحسب هذا السياق ، فهي هذه الفئة أو الطبقة أو الزمرة من الحكام الزمنيين تحديداً ، المتنفذين والمسيرين لسائر الشؤون العامة في ذلك المجتمع. ولعل في هذا التوصيف رداً مبتسراً على التساؤل الذي طرحه الدكتور إدريس سالم الحسن في ورقة له مؤخراً: " أي مثقف وأية سلطة ! " ، وذلك حتى لا تتشعث أذهاننا ونتوه فيما بين الأنماط الكثيرة والمتنوعة للمثقفين وللسلْطات على حدٍ سواء.
وينطلق هذا المبحث من ملاحظة أساسية لوجود افتراض عام وشائع فحواه أن العلاقة بين المثقف والسلطة تنحو في الغالب إلى أن تكون علاقة صدامية وعدائية على الدوام ، كما أنَّ النظر إلى جدلية العلاقة بين المثقف والسلطة يفترض غالباً وجود حكم قيمي معياري يكون المثقف بموجبه في الموقف " الأصوب " أو " الأفضل " دائماً من الناحية القيمية والأخلاقية ، في مقابل سلطة " فاسدة " و " ظالمة " باستمرار.
فلكأنَّ هنالك أيضاً افتراضاً بأنّ المثقف ، لمجرد كونه مثقفاً ، حقيقة أو مجازاً ، هو دائماً شخص خيِّر و نقي ونزيه ومجرد عن الأهواء والأغراض والمصالح على الإطلاق ، سواء كانت تلك المصالح أو الأغراض مادية أو سياسية أو ايديولوجية ، أو نحو ذلك.
صحيح أن كثيراً من شواهد التاريخ تنبؤنا أنَّ غالب السلطات والحكام في الزمان الغابر ، أو ما يطلق عليهم القرآن الكريم – على سبيل المثال - لفظ " الملأ " في معرض حديثه عن الأمم السابقة ،وبيان طغيان أولئك الملأ واضطهادهم للرسل الذين كانوا هداةً مصلحين ومفكرين - أي مثقفين على كل حال - لمما يقوي صحة ذلك الافتراض الذي أشرنا إليه آنفا. غير أن من النادر جدا أن تجد أشارة لما قد حاق بالرسل مع سلطات زمانهم في سياق الخطاب المعاصر الذي يتناول جدلية العلاقة بين المثقف والسلطة.
والقول الراجح في هذا الخصوص هو أنَّ السلطة من حيث هي – إلا ما رحم ربك - هي مظنة الطغيان والاستبداد ، وبالتالي استهداف سائر المحكومين بمن فيهم المثقفون.
على أنَّ في تاريخنا السوداني القديم تحديداً ، واقعة تنم عن وضع معكوس ومخالف لما هو سائد من التصور والاعتقاد بخصوص علاقة المثقف بالسلطة ، أعني بذلك حادثة سعي الكهنة المرويين– وهم المثقفون آنئذٍ – إلى فرض القتل الطقسي على الملك " أركماني " ملك مروي في القرن الثالث قبل الميلاد ، مستخدمين في ذلك " سلطة الثقافة " ، إلاَّ أنَّ هذا الأخير قد قضى على ذلك المسعي الدموي والظالم بمقاييسنا نحن ، وأبطل تلك العادة الذميمة – بمقاييسنا نحن أيضا - بقضائه على الكهنة قضاءً مبرماً مستخدما في ذلك قوته و سلطته الزمنية بطبيعة الحال. وليس هنالك حجة في تقديرنا في القول بأن أركماني نفسه إنما كان مثقفا هو الآخر ، وكانت له معرفة بالفلسفة اليونانية الخ .. ذلك بأنه ليس هنالك تفاضل أو تراتبية– من الناحية المعرفية – بين الثقافات ، فكل ثقافة ينبغي محاكمتها في إطار سياقها الخاص بها كما يقول بذلك علماء الأنثروبولوجيا.
والحق أيضاً هو أنَّ كثرة الحديث عن تأزم العلاقة بين المثقفين والسلطة توشك ان تكون بضاعة عالمثالثية خالصة ، لا يكون لها ذلك الرواج في البلدان الصناعية المتقدمة ، وأنّ السر وراء كثرة ذلك الحديث ، كما لاحظ الدكتور إدريس سالم الحسن محقا في ورقته المشار إليها آنفا ، والتي قدمها أمام المؤتمر الثاني لاتحاد الكتاب السودانيين تحت عنوان: " المثقفون والسلطة .. أي مثقف وأية سلطة " ، إنما يكمن في كون أن مجموعات المتعلمين ( المثقفين ) ، على قلتها في البلدان النامية ، تنقسم إلى قسمين: قسم يتهيأ له أن يستلم زمام السلطة السياسية تساعده في ذلك ظروف معينة ، بينما تدرك أفراد القسم الآخر " حرفة الأدب " والبيروقراطية فتضعهم على الرف ( لفترة تطول أو تقصر ) ، فهم ما يزالون ينقمون على أولئك النفر من أكفائهم ونظرائهم من الصفوة المتعلمة الذين تسلموا مقاليد الأمور في البلاد ، وباتوا يتقلبون في نعيم الوظائف والامتيازات المختلفة بحكم وضعهم ذاك.
وقد جاء في ورقة د. إدريس الباذخة في هذا الخصوص ما نصه:
"مما سبق يتضح أن المدخل السياسي عموماً له جذوره التاريخية ، وهو يستبطن اختلاف المثقف من جهة بحكم تعليمه الحديث وشعوره بأحقيته في مكانة متميزة في منافسة مع أقرانه في الوظيفة والمكانة الاجتماعية والوضع السياسي ، وكذلك في الالتزام والشعور بالمسؤولية في تغيير المجتمع عبر منافذ متعددة " أ.هـ..
وهذا الشعور بالأحقية في المكانة والتميز يتجاوز أحياناً حدود الغيرة والتنافس بين النخب العالمثالثية ، إلى انتهاك مبادئ الديمقراطية العزيزة على نفوس المثقفين ذاتها بصورة مؤسسية ، وذلك عبر تكريس بعض الامتيازات مثل تجربة ( دوائر الخريجين كما عندنا في السودان على سبيل المثال ) ، على حساب جموع الشعب التي يظل قدرها ان تكون واقعة تحت تأثيرات كلا الفعلين الثقافي والسياسي ، ومنفعلة بهما لا غير.
كذلك يعزى الحديث حول الأزمة بين المثقف والسلطة إلى ثقافة عامة وشائعة ، وحالة ذهنية تفترض وجود عداء ونفور دائم بين المثقفين والسلطة. وهذه الثقافة والحالة الذهنية العامة المنتشرة في بلدان العالم الثالث بصفة خاصة كما أسلفنا ، شبيهة نوعاً ما بما ينتشر فيها أيضاً من مشاعر الكراهية تجاه العساكر والجنود والضباط بصفة عامة ، ونسبتهم إلى الجهل والجمود والتسلط والغباء هكذا ضربة لازب و " عمال على بطال " ، وذلك حتى لو تزين بعضهم ببعض الألقاب الرنانة من قبيل: الضباط الأحرار ، والضباط الوطنيين ، والضباط التقدميين الخ الخ.
وبالطبع فإن مصدر ذلك العداء هو الحضور الطاغي للعسكريين في بلدان العالم الثالث على مسرح السياسة في تلك البلدان ، بينما يقل هذا الشعور العدائي أو يكاد ينعدم داخل البلدان المتقدمة التي تخصص الأنظمة السياسية الديمقراطية الراسخة والمستقرة فيها دوراً محدداً للقوات المسلحة ، ينأى بها عن الخوض في حلبات السياسة الداخلية ، ولا بأس في أن تكون تلك القوات باطشة ومتسلطة وقاهرة للأعداء فيما وراء الحدود ، متى ما اقتضت المصلحة الوطنية ذلك ، والشواهد على ذلك كثيرة.
على أنَّ هذه الثقافة أو الحالة الذهنية العامة التي تجعل المثقف يميل إلى معاداة السلطة أو مخالفتها وانتقادها على أقل تقدير ، لا تقتصر بالضرورة كظاهرة على بلدان العالم الثالث. فمن المقولات التي أصابت شهرة وسيرورة ملحوظة في هذا المضمار ما ينسب إلى الشاعر الأسباني المعروف " لوركا " من أنه قال:" إنَّ الشاعر يقف مع الخاسر دائما ". و لا يملك المرء في هذه الحال إلا ان يفترض أن الرابح هاهنا هي سلطة أو قوة على نحو ما.
وهاهو المثقف وعالم اللسانيات الأمريكي الذائع الصيت " نعوم شومسكي " ، يقف حالياً و منذ فترة بصلابة في وجه جملة من السلطات في بلاده بما في ذلك الخطاب الرسمي للإدارة الأمريكية في توصيفها لما تسميه بالحرب ضد الإرهاب ، والسبيل الذي تسلكه في التعاطي مع هذه الحرب ، وما خلفه ذلك السبيل من ويلات ومآس على شعوب وبلدان شتى ، فضلاً عن سائر سياساتها الاستعلائية الأخرى ، بما يشبه السباحة ضد التيار ، ولولا رهط شومسكي الأقوياء والمتنفذين لرجموه بمختلف أنواع الرجم.
أما المثقف والفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر ، فكان قد خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً في مواقفه من سلطات الغرب عموماً ، وبلاده فرنسا على وجه التحديد ، بإزاء بعض القضايا التي كانت مطروحة بإلحاح أثناء حياته. فبينما كان سارتر قد تبنى موقفاً مؤيدا لنضاليْ الشعبين الجزائري والفيتنامي ضد الاحتلالين الفرنسي والأمريكي على التوالي ، إلاَّ أنه قد تردد تردداً مخزياً في تأييد الحق الفلسطيني الواضح المغتصب. وهاهنا يتضح مثال صارخ لتطفيف واحد من كبار المثقفين في العالم ، وانتهازيته ، وتغليبه المصلحة على المبادئ.
وقديما كفر أبو العلاء المعري بمثل هذا النوع من المثقفين ، وقال في ذمهم حانقاً فيما يشبه التعميم:
وهل أدبَ الأقوامَ في كل بلدةٍ إلى المَيْنِ إلاَّ معشرٌ أدباءُ ؟
فالمعري – وهو من كبار مثقفي البشرية ومفكريها وفلاسفتها بلا أدنى ريب – يعرب عن اعتقاده في هذا البيت أن الأدباء ، وهم مثقفو زمانه ، هم الذين يدعون الناس إلى المين أي الكذب والخداع ، ويزينونه للناس خدمة لأغراضهم الخاصة. وبالطبع فإنَّ هذا هو من قبيل التعميم المخل الذي دعته إليه فيما يبدو ، روحه التشاؤمية المعروفة ، ولكنه رأي لا يخلو من الصحة تماما. بمعنى أنه لا ينبغي الاعتقاد دائماً في أن مطلق مثقف هو الخير المحض.
ويظهر أنَّ التضييق على المثقفين والفنانين بسبب الخلاف في الرأي والاعتقاد ، أو المواقف السياسية ، ليس حكراً على بلدان العالم الثالث وحدها. ذلك بأنَّ وقائع التاريخ المعاصر تسعفنا ببعض الشواهد الواضحة والدالة على وجود هذه الظاهرة في دول مثل الاتحاد السوفيتي السابق ، وخصوصاً أثناء الحقبة الستالينية ، وكذلك في الصين الشعبية ، خاصة خلال الأعوام التي شهدت ما عرفت ب " الثورة الثقافية " في ستينيات القرن الماضي ، كما يجب ألاَّ ننسى الحملة المسعورة الشهيرة التي قادها السناتور" مكارثي " داخل الولايات المتحدة ، مستهدفة المثقفين والفنانين اليساريين والتقدميين هناك ، بحجة مكافحة الشيوعية.
وثمة ملاحظة جوهرية في نظري أود أن أبديها هاهنا ، وهي أنَّ ضحايا الاضطهاد من ممثلي " التيار العام " من المثقفين وأصحاب الرأي عموماً ، لا يجدون حظهم عادة من التنويه بهم ، أو الاستشهاد بما يحيق بهم في سبيل الدفاع عن آرائهم ، في سياق الخطاب الطاغي النبرة الذي يتناول موضوع العلاقة بين المثقف والسلطة بإلحاح في الوقت الراهن ، وخصوصاً في مجتمعاتنا العربية الإسلامية. إذ لا يكاد أولئك الذين يتطرقون بكثرة لمسألة العلاقة بين المثقف والسلطة يذكرون على سبيل المثال ما تعرض له الإمام أبو حنيفة النعمان ، والإمام مالك بن أنس من تعذيب وضرب وحبس على أيدي العباسيين ، كما لا يكادون يذكرون البتة مكارثية المعتزلة الحقيقية وتحريضهم الخليفة المامون على اضطهاد الإمام أحمد بن حنبل وحبسه وضربه بسبب مجرد اعتراضه على مقولة " خلق القرآن " ، ومحاولة فرضها على جماهير المسلمين بواسطة السلطة الزمنية القائمة يومئذ. وهاهنا تلوح شبهة التطفيف واللامبدئية في النظر والتناول.
وعندي أنَّ أنَّ أنبل أنواع " الصدام " بين المثقف والسلطة ، وأجدرها بالتنويه والاحتفاء ، هو ما كان بين مثقف وطني وسلطة استعمارية دخيلة. وعندنا في السودان – لحسن الحظ – نماذج رائعه جداً لمثل ذلك النوع من الصدام ، التي يحضرني منها في هذا المقام مناجزة مادحنا الشهير " حاج الماحي 1790 – 1871م" ، الباسلة لسلطة الإدارة الاستعمارية التركية عندما برز لديها اتجاه يهدف إلى حظر فن المديح النبوي التقليدي في السودان ، بأدواته المعروفة ، مثل النوبة والطار وخلافهما. وقد تمثلت مناجزة حاج الماحي تلك في قصيدته " القبة التلوح أنوارا " ، وخصوصا في الأبيات التي يقول فيها:
يا إخواني جاتنا عبارة القصص البقن في الدارة
أسمعوا شوفوا يا حُضَّارة قالوا لا تمدحوا المختارا
المداح صغار وكبارا سابق لا حنين وبشارا
حالف شل يمين تكرارا ما بسمع في المديح إنكارا
حتى ان كان تفور باقدارا نمدح فوق رسولنا بطارا
ان كان أخشى أخليِّ الطارا عُقْبان اسم أبوي خسارة
كاسوا وعدموا فينا بصارة وراحو يحرشوا النظارا
العادانا فعلو عرارا باقيلو المغس عُوَّارا
ثم هنالك بالطبع في الختام ، تلك القصائد الوطنية التي أبدعها الشعراء السودانيون أثناء فترة النضال الوطني من أجل نيل الاستقلال ، والتي ناجز بها أولئك الشعراء الطغمة الاستعمارية الحاكمة ، وعرضوا بها تلميحا وتصريحا ، مثل عبيد عبد النور في " يا ام ضفاير قودي الرسن " ، وخليل فرح في " عازة في هواك " ، ويوسف مصطفى التني في " في الفؤاد ترعاه العناية " وهلم جرا ، فكان نصيبهم ونصيب الكثيرين من رفاقهم المثقفين والمناضلين الآخرين الكثير من الرهق والعنت والتضييق آنئذٍ من قبل السلطة الاستعمارية الغاشمة.