في ذكرى أعظم العظماء 63 عاماً مضمّخة بالسماحة والرحمة والخلق (1) … بقلم: محمّد خير عوض الله
محمّد خير عوض الله
31 March, 2009
31 March, 2009
على التيار الإسلامي أن يعيش العصر وعلى منافسيه النصح بلا تجريح
مرّت قبل أيام ، ذكرى مولد سيّد الخلق ، حبيبنا ونبينا ورسولنا وشفيعنا محمّد بن عبد الله عليه صلاة الله وسلامه ، مرّت وأمّته في هذا العصر ، يرتفع شأنها باتجاه ، وينخفض باتجاهٍ آخر ، فقد ارتفع شأنها باتجاه الوعي بقضاياها ، وباتجاه التآزر والتناصر ، واشتراك الشعور والمشاعر ، أفراحاً وأتراحاً ، وباتجاه الثورة الروحيّة العارمة التي اجتاحت نفوس المسلمين في كياناتهم وتنظيماتهم في حلقات الصفوة و في سوادهم العام ، فانعكس ذلك في الملايين المتدفّقة للحج والعمرة بعد أن كانت من مهام العجائز وحسب ، وازدحمت المساجد وقفز الوعي كذلك بالمناهج العلميّة ، والوسائل الإعلاميّة ، من صحف ومجلّات وإذاعات وفضائيات ، حتى صارت هذه الوسائل متخصصة في شؤون مفصّلة كلّها تزرع ورداً وزهوراً في حقل الإسلام المتكامل .. فتجد إذاعات للقرآن ، وبعضها يدخل في تخصصات دقيقة ، للتفسير وبعضها للتلاوة وحسب ، وتجد في الفضائيات كذلك ، بعضها لتعظيم النبي وبعضها لمواكبة الوعي الإسلامي فيما بات يعرف بعمليّة " ترشيد الصحوة " التي نادى بها دكتور القرضاوي منذ أكثر من عقدين ، وهكذا ، تأتي ذكرى مولد سيّد البشر في هذا العصر ، وأمّته يرتفع شأنها في هذا الاتجاه ، وينخفض شأنها باتجاهات أخرى ، فيما يتصل بالحكم والسياسة ، وفيما يتصل بالقوّة وصناعة القرار وصناعة التغيير السياسي ، وإن كانت اجتهادات كثيفة في هذا المجال ، تمثلها صفوة العمل الإسلامي في هذا الحقل ، والتي يريد خصومها تقزيمها بإطلاق نعوت الإسلام السياسي والإسلامويّة وغيرها من محاولات التبخيس اليائسة ، التي لا يبتغى فيها التقويم والمناصرة ، بل التقزيم والتبخيس ليس غير ، ومحاولات صفوة التيار الإسلامي في الحقل السياسي جريئة نجحت في اتجاه وأخفقت في اتجاه ، من تونس إلى تركيا إلى السودان إلى فلسطين إلى أفغانستان ، في كل قطر تجد محاولات صفوة العمل الإسلامي تحاول الانتصار في هذا الجانب ، جانب القوّة والتغيير السياسي ، ولا ندري ما الضرر إن أرادت الشعوب أن تحكمها هذه الصفوة عبر أطروحات معلنة ملتزمة بالأصل ومنطق العصر ؟ لماذا منعوهم في الجزائر ؟ لماذا يكابدون العنت في تركيا ؟ لماذا يحشرونهم في الأقفاص في مصر منذ عبد الناصر وإلى اليوم ؟ لماذا جابهوهم مجابهات عنيدة وكثيفة وشرسة في السودان ؟ لماذا لا يتركون الخيار يسقط من تلقاء نفسه إن رأت الشعوب ذلك ؟ تجيء ذكرى مولده صلى الله عليه وسلّم والفرز السياسي يصرخ في وجه أتباعه ، الصائب منهم والمخطئ ، ولكنّهم ما بخلوا بأوقاتهم وفكرهم وأنفسهم وأرواحهم ، سيرة طويلة مليئة بالتفاصيل الدقيقة ، المفرحة والمحزنة ، لقد قضت صفوة التيار الإسلامي سنين طويلة في السجون وفي المحن والقتل والتنكيل والتشريد ، ولكنّهم في جملتهم ما لانوا وما استكانوا ، بل جعلوا من السجون واحات للسياحة الفكريّة ، وتكفيك سيرة رموزه في السودان وغيرهم في العالم الإسلامي ، مثل دكتور القرضاوي وراشد الغنوشي وسيد قطب و محمّد قطب وكل إخوان مصر ، وتكفيك التفاصيل العجيبة التي ذكرها الأستاذ فريد عبد الخالق في حلقات شاهدٌ على العصر على قناة الجزيرة ، حيث يجوّع نظام عبد الناصر الكلاب الشرسة ، وبعد تجويعها يدخلونها عليهم في الزنازين الانفراديّة! ليس أبشع من هذا ، ولكنّه أكّد على عزيمة وشموخ وإرادة عالية تمتّع بها هؤلاء الشجعان ، تحدّث عن ما رآه عن سيّد قطب ومعاناته وكم مرّة يسقط مغشياً عليه من قسوة التعذيب ، لكنّه يفيق ويقول إنّ السبابة التي كتبت تفسير في ظلال القرآن لن ترضخ لطاغية! ومهما تواصل الآلة الإعلاميّة الصدئة تشويه سيرة صفوة التيار الإسلامي ، فإنّ الواقع يقول إنّ هذا التيار يمضي بقوّة ، ومطلوب من كل الناس تصحيح الأخطاء وتصويب الناشطين في هذا الحقل ، فإن كنّا نرى نهايات الأيدولوجيا ، فإنّه لا يمكن أن نرى صواباً في مقتل الأبرياء باسم الإسلام ، وهذا ما يجعلنا نقف على عبقريّة صفوة التيار الإسلامي السوداني ، والحقيقة هذه جعلت منافساً سياسيّاً لدوداً ينطق بها بلا مزايدة أو مواربة ، فالحركة الإسلاميّة السودانيّة قد خففت الأيدولوجيا منذ مؤتمر العيد 1954م ، وقد نظرت في قضايا التنظيم العالمي منذ ذلك الزمان ، وهل ترتبط به أم لا ؟ ، وشاهدنا هنا هو التفكير المبكّر في الاستقلاليّة ، والحركة السودانيّة كذلك لم تقدّس اسمها من حزب التحرير وحركة الإخوان وجبهة الدستور وجبهة الميثاق والجبهة القوميّة واهتدت بعد هذه التوسعات الكبيرة لتأسيس "المؤتمر الوطني" لخلق المنطقة الوسط التي سعى لها مفكرون من الوسط السياسي كلّه منذ عقود ـ لكنّهم فشلوا ـ وذلك لحل مشكلة "توهان الولاء السياسي" للذين يرفضون التمحور حول الزعامات الاجتماعيّة والبيوتات الطائفيّة والتنظيمات الأيدلوجيّة الإخوانيّة والشيوعيّة والبعثيّة وغيرها ، وهذه هي العبقريّة التي صنعت "المؤتمر الوطني" بغض النظر عن تقييم التجربة .. وشاهدنا هنا هو التأكيد على سلامة منهج تخفيف وتجفيف الأيدلوجيا ، للدرجة التي لا نجد فيها فرقاً بين منتسب الحركة الإسلاميّة الحاليّة وبين منتسب أي فصيل من فصائل الحزب الاتحادي أو حزب الأمّة .. ليس ثمّة فروق على الإطلاق ، وهذا هو الاتجاه الصحيح ، وهذا هو المنهج الذي نود أن تقتدي به تيارات العمل الإسلامي في بقيّة الأقطار الإسلاميّة ، وليهتدوا أيضاً بهذا المنهج المتقدّم الذي حسم الرؤية في الفنون والمرأة والمواطنة وغيرها ، وهذا ما يميّز الحركة الإسلاميّة السودانيّة ، وهو ما جعل السيّد الصادق يشيد باستنارتها في ذروة عدائه السياسي ، وهذه هي الحقيقة التي يرفض كثيرون التسليم بها .. ومن هنا فإنّ التعثّر في صناعة التغيير لصالح الإسلام لا يمكن أن يتم إلا وفق إعمال آلات العصر ، والفهم العصري وتحديث الخطاب ومراجعة التجارب والأخذ بنجاحات الآخرين والاعتبار بإخفاقاتهم وتعزيز المشترك الإنساني والأخذ بأسباب الحضارة والتقدّم التقني وغيرها ، كلها من أسباب إحداث التغيير لصالح الإسلام ، حتى تأتي ذكرى مولده صلى الله عليه وسلّم في السنوات القادمة وقد نجح نشطاء التيار الإسلامي في تقديم حلول ناضجة وحضاريّة توفّر التغيير في ميزان القوّة لصالح الإسلام ، بعيداً عن أسلوب صعود الجبال واختطاف الطائرات وأعمال القرصنة وترويع وقتل الأبرياء باسم الإسلام ، مهما كانت المبررات .إنّ نبي الرحمة هو الذي أرسى تعاليم الإسلام وفضائله ، فتبسّمك في وجه أخيك صدقة ، وحرمان الهرّة من الطعام والشراب يدخل النار ، وسقاية الكلب تدخل الجنّة ، وفي كل كبد رطب أجر ، وهو الذي يوصي بالنساء خيراً إلى اللحظات الأخيرة في حياته الكريمة ، هو الذي أمكن من الذين آذوه وضربوه وطردوه لعشر سنوات ثمّ قال لهم إذهبوا فأنتم الطلقاء .. هو الذي يبسط الشورى في اللحظات الدقيقة الحرجة ، لحظات الحرب يرفض فيها الجنرالات توسيع الشورى ، رئيس الأركان وحلقته الضيّقة هم الذين يرسمون اللحظات الحاسمة في تاريخ الشعوب ، ولكنّه صلى الله عليه وسلّم يبسطها شورى على الهواء الطلق ، فيصححه واحد من صفوف الجيش فيغيّر موقع المعركة في بدر لأنّ الاختيار غير صحيح ، فيستجيب صلى الله عليه وسلّم ، وفي أحد رأيه صواب صلى الله عليه وسلّم ، ولكن يستسلم لرأي الشورى فيكون مكان المعركة خارج المدينة بعكس ما يريد هو صلى الله عليه وسلّم .. وفي بدر أيضاً يقف صحابي في طابور الجيش فيقول له لقد آذيتني في تسوية الصف فيكشف له بطنه الشريفة ويقول له خذ حقّك مني فيرفض الصحابي ويقبّل له بطنه صلى الله عليه وسلّم ، وهو الذي ساوم على ثلث ثمار المدينة ليجنّب الناس الحرب في أحداث غزوة الخندق ، وهو الذي استجاب للشروط التي تبدو مجحفة في الحديبية ليجنّب الناس الحرب ، وافق على أن يرجع عن العمرة التي قصدها ، ويرفض الصحابة أن يرجعوا ، فيدخل صلى الله عليه وسلّم على زوجته أم سلمة فتقول له احلق وتحلل من إحرامك فإنّهم سيفعلون ذلك بعدك ، وقد كان .. إنّه يشاور زوجته في هذا الشأن العام ، وفي رأيها كان الحل ، وهذه علاقاته مع زوجاته ، لهنّ مكانة في الشأن العام ، ويلاعبهنّ في الشأن الخاص ـ مع عائشة رضي الله عنها ـ إنّه سيد البشر ، ولم يستطع عالم الفضاء الأمريكي المنشغل بالتاريخ ، مايكل هارت ، لم يستطع أن يغيّر من الحقيقة قيد أنملة ، حينما اختبر العظماء المائة على مر التاريخ ، استخدم معايير ثابتة ودقيقة ، وفي كل مرّة يجده صلى الله عليه وسلّم أعظمهم .. إنّها شهادة من خصم ثقافي وفي وقت متأخر ، ولكن تكفيه شهادة خالقه وخالق الخلق ، فقد قال فيه الله تعالى : " وإنّك لعلى خلقٍ عظيم" وقال : " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" إنّه صلى الله عليه وسلّم بالفعل رحمة ، فهو الرحمة المهداة ، أرأيتم كيف عالج أمر الإعرابي الذي تبوّل في المسجد وقام الصحابة في وجهه فمنعهم عنه !! أرأيتم كيف يمنع قتل الأبرياء ويضع مواثيق حقوق الإنسان الأولى ، إنّ دماءكم حرام وأعراضكم حرام ، لا فضل لعربي على أعجمي ولا أبيض على أسود ، كلكم لآدم وآدم من تراب ، لقد عالج حقوق الإنسان بشكل جذري ، أرأيتم كيف عالج العنصريّة وانتصر لسيدنا بلال ؟ أرأيتم كيف كان يزور اليهودي الذي كان يؤذيه ؟ أرأيتم كيف قام واقفاً عندما مرّت "جنازة" "يهودي" وحينما استدركوه وجدوه يدرك ، وقال لهم أليست نفساً بشريّة ؟ أرأيتم كيف أنّه يتحاشى التشهير بالمخطئين ؟ فيقول : ما بال أحدكم يفعل كذا ويرفض أن يذكر اسم المخطئ ؟ أرأيتم كيف عالج مسألة الغناء فقد غضّ الطرف عنه برغم ثورة أبي بكر؟ وفي بيته ؟ إنّه بالفعل رحمة للناس ، إنّه نبي الرحمة ، ولن نستطيع أن نحصي مناقبه ، والصحيح بعد هذا أن تكون الحجّة بالضد ، فمن من الناس يحصي عليه غير كريم الخصال وتمام الأخلاق ؟ من استطاع عبر التاريخ أن يذكر واحدة مشينة في حقّه صلى الله عليه وسلّم ؟ إنّ نشطاء التيار الإسلامي عليهم أن يسعوا لتغيير الميزان لمصلحة الأمّة ، ولكن لن يتحقق لهم ذلك إلا بالتأسي برائد وقائد التغيير نفسه .. إنّه قائد العدل ورافض الظلم ، وقبل بعثته ، كان قد حضر حلف الفضول الذي ينصر المظلوم ويقتص من الظالم ، وقال لو دعيت له في الإسلام لأجبت .. وعلى باقي تيارات العمل الوطني أن تناصر وتناصح ، بلا تشهير ولا تجريح ، فالمركب واحد والوطن واحد والمصير واحد والقبلة واحدة وحب محمّد يجمعنا وفي ذكرى مولده نأتلف من جديد . فقد قال الله تعالى: " قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله َ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله ُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31" و قال الله عز وجل: " لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله ِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو الله َ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ الله َ كَثِيرًا " " الأحزاب: 21". فلنعمل بنداء الله تعالى ولنصلي الآن على أعظم العظماء صلى الله عليه وسلّم .