في ذكرى أعظم العظماء 63 عاماً مضمّخة بالسماحة والرحمة والخلق (2)

 


 

 

ممّا قاله أمير الشعراء شوقي ومحمّد المكي إبراهيم

  

Mohkhair765@hotmail.com

 

  يزدحم النص في ذكرى سيّد الخلق ، مثلما يزدحم النّاس في تقبيل الحجر الأسود القادم من الجنّة ، أو كازدحامهم في النّسك أيام الحج ليغتسلوا من أدرانهم ، ومع كثرة ما قال شعراؤنا في السودان ، في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، بالدراجة والفصحى ، كقصيدة المولد للشاعر محمد المهدي المجذوب، ورائعة محمد المكي ابراهيم " مدينتك الهدى والنور" التي يقول فيها : " مدينتك القباب ، ودمعة التقوى ووجه النور ، وتسبيح الملائك في ذؤابات النخيل ، وفي الحصى المنثور ، مدينتك الحقيقة والسلام ، على السجوف حمامة  ، وعلى الرُبى عصفور. ، مدينتك الحديقة يا رسول الله ، كل حدائق الدنيا أقل وسامة وحضور ، هنالك للهواء أريجه النبوي ، موصولاً بأنفاس السماء وكأسها الكافور ، هنالك للثرى طيبٌ ، بدمع العاشقين ولؤلؤٌ منثور ، هنالك للضحى حجلٌ بأسوار البقيع ، وخفةٌ وحبور ، هنالك للصلاة رياضها الفيحاء ، والقرآن فجرياً تضيء به لهىً وصدور ، بساعات الإجابة تحفل الدنيا وأنهار الدعاء تمور.سلام الله يا أنحاء يثرب ، يا قصيدة حبنا العصماء ، سلام الله يا أبوابها ، وبيتها ونخلها اللفَّاء ، سلاما يا مآذنها وفوج حمامها البكَّاء، ويا جبل الشهادة والبقيع سلام ، على أثل الحجاز وضالها ، وعلى خزاماها ، تهب قصيدة الصحراء. ، إلى تلك البساتين المعرجة الجداول ، والقباب الخضر، يهفو خاطر الدنيا ، وتحدى العيس في الصحراء ، مدائح لم تقل لبني الزمان  ، ترددت عبر القرون ليثرب الخضراء ، قصائد من رهافة وجدها  ، شقَّت جليد الصخر  ، واجتازت عباب الماء ، قوافل ما انقطعن عن السَّرى ، صلًّتْ عليك ، و أوجفت عبر القرون ، إلى قصيدة حبها العصماء ، ببابك يستجير الخائفون ويجلس الفقراء. ببابك تدخل التقوى فتوح الفاتحين  وحكمة الحكماء ، وفي نَعماء عدلك ترتع الدنيا ، وميزان الحساب يقام  ، حفاة الرأس والأقدام  ، ندخل في نبوتك الرحيبة ، من الزمن الكئيب وناسه لذنا بنورك ، ومن شح النفوس ودائها المودي لنا بجمالك استعصام. مدينتك الهدى والنور ، وتسبيح الملائك في ذؤابات النخيل  ، وفي الحصى المنثور ، مدينتك الحقيقة والسلام ، على السجوف حمامة  ، وعلى الرُبى عصفور ، مدينتك الحديقة اقرب الدنيا ، إلى باب السماء وسقفها المعمور." ....  وهناك أيضاً  قصيدة سيد أحمد الحردلو يا سيد يا رسول الله، ومعلقة الإشارات للراحل الكبير الدكتور محمد عبد الحي، وقبلهم كان شاعرنا محمّد عمر البنا وابنه عبد الله وكان البوشي وغيرهم ، واسمحوا لي حيث يجبرني شغفي بشوقي ، لأفسح لفصاحته المتزاحمة في قصيدته الشهيرة " ولد الهدى " وشوقي ربيب البلاط وسجين الملذات ومباهج الدنيا ، كان طليقاً أيضاً معنا عامة الفقراء والمحبين ، وله " وللأوطان في دم كل حرٍ" و" ووطني لوشغلت بالخلد عنه " وله في تمجيد الإسلام وتزكية النفس ما يرفع من شأنه وشأن الشعر معاً ، كيف لا وقد عقدوا له اللواء .. اسمعوه يعبّر عن صفاء وسماحة وسمو شخصيّة الرسول صلى الله عليه وسلّم ،أعظم العظماء كما توصّل لذلك الخصم الثقافي مايكل هارت ، يقول شوقي في قصيدته العذبة التي أخذت منها بتصرّف : " ولد الهـدى فالكائنات ضياء وفـم الزمان تبـسم وثـناء ، الروح والملأ الملائك حوله للدين والدنـيا به بشـراء ، والعرش يزهو والحظيرة تزدهي والمنتهى والسدرة العـصماء ، وحديقة الفرقان ضاحكة الربا بالتـرجمان شـذية غـناء ، يا خير من جاء الوجود تحية من مرسلين الى الهدى بك جاؤوا ، بيت النبـين الذي لا يلتـقي الا الحنـائف فيـه والحنـفاء ، خير الأبوة حازهم لـك آدم دون الأنـام وأحرزت حـواء ، هـم أدركوا عز النبوة وانتهت فيهـا اليـك العـزة القـعساء ، خلقت لبيتك وهو مخلوق لها أن العظائـم كفـوها العـظماء ، بك بشر اللـه السماء فزينت وتضوعت مسكا بـك الغـبراء ، وبـدا محـياك الذي قسماتـه حـق وغرتـه هـدى وحـياء ، وعليه من نور النبوة رونـق ومن الخـليل وهـديه سيـماء ، أثنى المسيح عليه خلف سمائه وتهلـلت واهتـزت العـذراء ، يوم يتيه على الزمان صباحه ومـساؤه بـمحمـد وضـاء ، الحق عالي الركن فيه مظفـر في الملك لا يعلو عليه لـواء ، ذعرت عروش الظالمين فزلزلت وعـلت على تيجاتهـم أصداء ، والنار خاوية الجوانب حـولهم خمدت ذوائـبها وغاض الـماء ، والآي تـترى والخوارق جـمة جـبريل رواح بـها غـداء ، نعم اليتيم بدت مخايل فـضله واليتـيم رزق بعـضه وذكاء ، في المهد يستقى الحيا برجائه وبـقصده تستـدفع البـأسـاء ، بسوى الأمانة في الصبا والصدق لم يعرفـه أهل الصدق والأمـناء ، يا من له الأخلاق ما تهوى العلا منهـا ومـا يتعـشق الكبـراء ، لو لم تقم دينا لقامت وحـدها ديـنا تـضيء بـنوره الآنـاء ، زانتك في الخلق العظيم شـمائل يغـرى بهـن ويـولع الكـرماء ، والحسن من كرم الوجـوه وخيره مـا أوتـي الأكفاء والزعـماء ، فاذا سخوت بلغت بالجود المـدى وفعـلت ما لا تفـعل الأنـواء ، واذا عفوت فـقادروا ومقـدرا لا يستهـين بعـفوك الجـهلاء ، واذا غضبت فانـما هي غضبـة في الحق لا ضغن ولا بغضاء ، واذا رضيت فذاك في مرضاته ورضى الكثير تحـلم وريـاء ، واذا خطبـت فلـلمنابر هـزة تعـرو النـدي ولـلقلوب بكاء ، واذا قضيـت فلا ارتياب كأنـما جاء الخصوم من السماء قضاء ، واذا حميت الماء لم يورد ولو أن القـياصر والملـوك طـماء ، واذا أجرت فأنت بيت اللـه لم يـدخل عليه المستجـير عداء ،واذا ملكت النفس قمت بـبرها ولو أن ما ملكت يداك الشاء ، واذا بنيت فخير زوج عشـرة واذا ابتليـت فدونـك الآبـاء ، واذا صحبت رأى الوفاء مجسما في بردك الأصحاب والخلطـاء ، واذا أخذت العهد أو أعطيتـه فجميـع عهـدك ذمة ووفـاء ، واذا مشيت الى العدا فغضنـفر واذا جـريـت فانـك النكـباء ، وتمـد حلمـك للسفيـه مداريـا حتى يضيق بعـرضك السفـهاء ، في كل نفس من سطاك مهابـة ولكـل نفـس في نداك رجـاء ، والرأي لم ينض المهنـد دونـه كالسيف لم تـضرب بـه الآراء ، يا أيـها الأمـي حسـبك رتـبة في العـلم أن دانـت بك العـلماء ، الذكر آية ربـك الكبـرى التـي فيـها لباغـي المـعجزات غناء ، صدر البيان له اذا التقت اللغى وتقـدم البلـغـاء والفـصحـاء ، نسخت به التوراة وهي وضيئة وتخـلف الانجـيل وهو ذكاء ، الحق فيه هو الأساس وكيف لا واللـه جـل جلالـه البـناء ، أما حديثك في العقول فـمشرح والعـلم والحـكم الغـوالي الماء ، هو صبغة الفرقان نفحة قـدسه والسيـن من سوراتـه والـراء ، جرت الفصاحة من ينابيع النهى مـن دوحـة وتفـجر الانـشاء ، يا أيها المسرى به شرفـا الى ما لا تنال الشـمس والجوزاء ، يتساءلون وأنت أطهـر هيـكل بالروح أم بالهايـكل الاسـراء ، بهما سموت مطهرين كلاهـما نـور وروحـانـية وبـهـاء ، فضل عليك لذي الجلال ومنه واللـه يفـعل ما يرى ويشاء ، تغشى الغيوب من العوالم كلما طويـت سـماء قلـدتك سماء ، في كل منطقة حواشي نورها نون وأنت النقطة الزهـراء ، أنت الجمال بها وأنت المجتلى والكـف والمـرآة والحـسناء ، اللـه هيأ من حظيرة قدسـه نزلا لذاتك لم يجـزه علاء ، العرش تحتك سدة وقوائـما وماكب الروح الأميـن وطاء ، والرسل دون العرش لم يؤذن لهم حاشـا لغـيرك موعـد ولقاء . " ....   إنّ الشعراء على تهويمهم ، وعلى سياحتهم في عالم الخيال ، وهي صنعتهم ، وهو ما جعل الحكم على أجود الشعر وأعذبه " أكذبه" ، إلا أنّهم في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلّم لم يستطيعوا أن يصلوا لحقيقة سموّه ، كيف لهم ذلك وسيّد الملائكة لم يصل لهذا السمو ؟ كان النبي صلى الله عليه وسلم قد جمع في نشأته خير ما في طبقات الناس من ميزات، وكان طرازًا رفيعًا من الفكر الصائب، والنظر السديد، ونال حظًا وافرًا من حسن الفطنة وأصالة الفكرة وسداد الوسيلة والهدف، وكان يستعين بصمته الطويل على طول التأمل وإدمان الفكرة واستكناه الحق، وطالع بعقله الخصب وفطرته الصافية صحائف الحياة وشئون الناس وأحوال الجماعات، فعاف ما سواها من خرافة، ونأي عنها، ثم عاشر الناس على بصيرة من أمره وأمرهم، فما وجد حسنًا شارك فيه وإلا عاد إلى عزلته العتيدة، فكان لا يشرب الخمر، ولا يأكل مما ذبح على النصب، ولا يحضر للأوثان عيدًا ولا احتفالا، بل كان من أول نشأته نافرا من هذه المعبودات الباطلة، فلم يكن شيء أبغض إليه منها، حتى إنّه كان لا يصبر على سماع الحلف باللات والعزى‏.‏ كان صلى الله عليه وسلم يمتاز في قومه بخلال عذبة وأخلاق فاضلة، وشمائل كريمة، فكان أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقًا، وأعزهم جوارًا، وأعظمهم حلمًا، وأصدقهم حديثًا، وألينهم عَرِيكة، وأعفهم نفسًا وأكرمهم خيرًا، وأبرهم عملًا، وأوفاهم عهدًا، وآمنهم أمانة حتى سماه قومه‏:‏ ‏"‏الأمين‏" لما جمع فيه من الأحوال الصالحة والخصال المرضية، وكان كما قالت أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها يحمل الكل، ويكسب المعدوم، ويقرى الضيف، ويعين على نوائب الحق‏.‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يعملون غير مرتين، كل ذلك يحول الله بيني وبينه، ثم ما هممت به حتى أكرمنى برسالته، قلت ليلة للغلام الذي يرعى معي الغنم بأعلى مكة‏:‏ لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة وأسمر بها كما يسمر الشباب، فقال‏:‏ أفعل، فخرجت حتى إذا كنت عند أول دار بمكة سمعت عزفًا، فقلت‏:‏ ما هذا‏؟‏ فقالوا‏:‏ عرس فلان بفلانة، فجلست أسمع، فضرب الله على أذنـى فنمت، فما أيقظني إلا حر الشمس‏.‏ فعدت إلى صاحبي فسألني، فأخبرته، ثم قلت ليلة أخرى مثل ذلك، ودخلت بمكة فأصابني مثل أول ليلة‏.‏‏.‏‏.‏ ثم ما هممت بسوء‏)‏‏.‏ قبل بعثته صلى الله عليه وسلم بخمس سنين جرف مكة سيل عرم انحدر إلى البيت الحرام، فأوشكت الكعبة منه على الانهيار، فاضطرت قريش إلى تجديد بنائها حرصًا على مكانتها، واتفقوا على ألا يدخلوا في بنائها إلا طيبًا، فلا يدخلون فيها مهر بغى ولا بيع ربًا ولا مظلمة أحد من الناس، وكانوا يهابون هدمها، فابتدأ بها الوليد بن المغيرة المخزومى، فأخذ المعول وقال‏:‏ اللهم لا نريد إلا الخير، ثم هدم ناحية الركنين، ولما لم يصبه شيء تبعه الناس في الهدم في اليوم الثاني، ولم يزالوا في الهدم حتى وصلوا إلى قواعد إبراهيم، ثم أرادوا الأخذ في البناء فجزأوا الكعبة، وخصصوا لكل قبيلة جزءًا منها‏.‏ فجمعت كل قبيلة حجارة على حدة، وأخذوا يبنونها، وتولى البناء بناء رومي اسمه‏:‏ باقوم‏.‏ ولما بلغ البنيان موضع الحجر الأسود اختلفوا فيمن يمتاز بشرف وضعه في مكانه، واستمر النزاع أربع ليال أو خمسًا، واشتد حتى كاد يتحول إلى حرب ضروس في أرض الحرم، إلا أن أبا أمية بن المغيرة المخزومى عرض عليهم أن يحكموا فيما شجر بينهم أول داخل عليهم من باب المسجد فارتضوه، وشاء الله أن يكون ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأوه هتفوا‏:‏ هذا الأمين، رضيناه، هذا محمد، فلما انتهى إليهم، وأخبروه الخبر طلب رداء فوضع الحجر وسطه وطلب من رؤساء القبائل المتنازعين أن يمسكوا جميعًا بأطراف الرداء، وأمرهم أن يرفعوه، حتى إذا أوصلوه إلى موضعه أخذه بيده فوضعه في مكانه، وهذا حل حصيف رضى به القوم‏.‏  

 

آراء