في عمق الأزمة: كيف تبتكر القيادة مسارات التغيير؟!!

 


 

 

د. الهادي عبدالله أبوضفآئر

كان الشيخ ومريدوه يتجولون في غابة هادئة، حيث الطبيعة تنبض بالحكمة، والصمت يتيح المجال للتأمل في المعاني العميقة. كانوا يستمعون بشغف لحكمة الشيخ، يتعلمون من دروسه التي تمسّ الروح وتكشف لهم أسرار الحياة. وفجأة، تمزق السكون بزئير أسد خرج من بين الأشجار، مزمجراً ومقترباً بسرعة. خفق قلب المريدين ورأوا الخطر يتجسد أمامهم. صرخوا مذعورين: “يا شيخ، الأسد قادم!”، كان رد الشيخ: “عليكم ب (يس). مع أن ألسنتهم تحركت بالذكر، لم يتراجع الأسد. يا شيخ الأسد قرّب، رد بنبرة يختلط فيها الصبر بالحكمة: “عليكم بالجري”. ومع اقتراب الأسد أكثر، قفز الشيخ بسرعة خاطفة إلى أعلى شجرة، مبتسماً وقال: “الآن، كل واحد ينقذ نفسه”. في تلك اللحظة الحاسمة، أدركوا درساً لن ينسوه أبداً. حينها فهموا أن مواجهة الواقع تتطلب أفعالاً سريعة ومدروسة، وأن الحكمة ليست مجرد أقوال أو شعارات، بل تتجسد في القدرة على اتخاذ القرارات الصائبة في الوقت المناسب. فالحياة، بتحدياتها المتسارعة وأخطارها غير المتوقعة، لا تترك مجالاً للإعتماد على التنظير فقط، بل تتطلب إدراكاً عميقاً يترجم إلى أفعال ملموسة. فالأسد لم يكن مجرد حيوان، بل كان رمزاً لكل التحديات التي تواجه الإنسان، والتي تحتاج إلى شجاعة وبصيرة، لا إلى أقوال تُقال دون فعل.

في غمرة التحديات العملية التي تواجه الأمم والمجتمعات، لا يكفي الاعتماد على الإيمان وحده. فالواقع يتطلب من الإنسان استخدام عقله، وتطبيق المعرفة العلمية، والاستفادة من مهارات التخطيط والتنظيم. فالأزمات الاقتصادية والحروب لا تُحل بالدعاء وحده، بل تحتاج إلى استراتيجيات دقيقة، وإلى عقول تجيد قراءة المواقف واستباق الأحداث. والتاريخ مليء بالدروس، وغزوة أحد خير مثال على ذلك. حين ترك الرماة مواقعهم طمعاً في الغنيمة، استغل خالد بن الوليد هذا الخطأ ليغير مجرى المعركة، رغم أن النبي عليه السلام كان بين المسلمين آنذاك. هنا يظهر لنا القرآن الكريم حاملاً رسالة واضحة: “ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب، من يعمل سوءًا يُجزَ به”. العبرة أن الأخطاء البشرية، وليست الإرادة الإلهية، هي التي تقود إلى الهزيمة، وأن الحلول تأتي من تصحيح المسار ومن التعلم من التجارب السابقة. إن الإيمان، رغم أهميته الكبرى في تهذيب النفوس وبناء المجتمعات، لا يمكن أن يكون بديلاً للعقل والمنطق. فالدين قد يوفر الأساس الأخلاقي الذي يُمكِّن المجتمعات من النهوض، لكنه لا يقدم حلولاً جاهزة للأزمات. الحلول الحقيقية تأتي من التخطيط المحكم، والابتكار المستمر، ومن القدرة على مواجهة التحديات بعقلية علمية ومنطقية. وفي النهاية، يظل التوازن بين العقل والروح هو الطريق الأمثل نحو مستقبل أفضل. فكما أن الإنسان مسكون بالدين، فهو أيضاً مخلوق عقلاني بطبيعته، يسعى إلى تحسين واقعه عبر الفهم والعمل الدؤوب.

في تلك المساحة الغامضة حيث يلتقي الإيمان بالعقل، يقف الإنسان على عتبة من النور والمعرفة. الدين، هو تلك البوصلة الروحية التي توجه نحو السمو والفضيلة والإخلاص. ويطلب من الإنسان أن يُستخدم العقل كأداة لفهم حكمة الخالق، وللتخطيط للحياة وفقاً لمنطق الكون وقوانينه. هنا يتجلى الحد الفاصل، بين ما يمليه الدين من قيم عليا، وما يُطلب من الإنسان فعله، عبر سبر أغوار الحياة إلى فهم أبعد، في توازن دقيق بين الروحانية والفكر. هذا الإطار، يعتبر العقل هو المرشد العملي، الذي يربط بين الأرض والسماء، وبين ما هو دنيوي وما هو أبدي. فالدين والعقل ليسا متعارضين، بل قوتان متكاملتان. العقل وسيلة لترجمة تعاليم الدين إلى خطوات عملية تُنظِّم حياة الفرد والمجتمع. ويساعد على فهم وتفسير النصوص الدينية وتطبيقها في سياقات الحياة اليومية، مع مراعاة الظروف والتحديات المختلفة. ويعمل على تجسيد تلك المبادئ في قرارات وسلوكيات عملية تحقق التوازن بين الروحانيات والحياة المادية. في هذا التوازن، يجد الإنسان راحة القلب واستنارة العقل، ويدرك أن الحياة ليست مجرد اختبار للإيمان، بل هي أيضاً دعوة لاستثمار العقل لتحقيق الخير والصلاح، كما أراد الخالق لها أن تكون.

الإيمان، بوصفه قوة محركة عميقة، يغذي القيم الأخلاقية والدوافع التي تدفع الإنسان نحو العمل والإبداع. ولكنه ليس المصدر الوحيد للحلول العملية في مواجهة التحديات الاقتصادية والعلمية. فالحلول تأتي من خلال توظيف القدرات البشرية في التحليل والابتكار، ومن استخدام الموارد المتاحة بذكاء وحكمة. هنا يتجلى التكامل بين الروح والعقل، حيث يدرك الإنسان إمكاناته ويوجهها لخدمة البشرية، فيحقق التوازن بين القيم الإيمانية والإنجاز العملي. ان الفرق الجوهري يكمن في نوع التدين الذي يختاره الإنسان. فإما أن يكون تديناً ضيق الفهم، يؤدي إلى الجمود والتخلف عندما يستخدم كذريعة للهروب من المسؤولية أو الابتعاد عن العلم. هذا النهج يركز على العزلة، ويرفض التفاعل مع المجتمع، ويعارض التفكير النقدي والعلوم الحديثة، معتبراً أن كل ما هو جديد أو مختلف عن النصوص التقليدية مرفوض. في هذا الإطار، تصبح الطقوس والمظاهر الشكلية للدين هي الهدف النهائي، متجاهلين روح الدين ومقاصده العميقة. والنتيجة تكون جموداً اجتماعياً واقتصادياً، حيث لا يشجع الأفراد على المشاركة في تطوير مجتمعاتهم أو تحسين ظروفهم المادية. في المقابل، هناك نوع من التدين أكثر انفتاحاً، يدعو إلى العمل الجاد، والتفكير النقدي، والابتكار المستمر. هذا الفهم المنفتح لا يعارض التقدم، بل يعززه ويغذيه بالقيم الأخلاقية التي تضمن أن يكون التقدم في خدمة الإنسانية جمعاء. هنا يصبح الإيمان محفزاً للإبداع، وليس قيداً عليه.

عندما نكتشف أن الواقع الذي نسير فيه والنهج الذي نعتمده قد أصبح غير فعال، تظهر الحاجة إلى التحلي بالشجاعة والمرونة لتغيير المسار. وليس في التمسك الأعمى بالمواقف والآراء القديمة، بل في القدرة على التكيف مع الحقائق الجديدة التي تفرض نفسها، وعلى استيعاب المعطيات التي تفتح آفاقاً نحو نتائج إيجابية. فالتمسك بأفكار جامدة قد يقود إلى تعثر لا مبرر له، في حين أن الانفتاح على الظروف المتغيرة، والاستماع إلى الآراء المختلفة، وتحليل الوضع بعقلانية، هو الطريق الأجدر للوصول إلى حلول أفضل. تغيير المسار، في اللحظة التي تستدعي ذلك، لا يعني أبداً التخلي عن المبادئ أو الضعف أمام التحديات. على العكس، إنه فعل من أفعال الحكمة، يهدف إلى تجنب الضرر على كل المستويات، ويسمح بالتقدم نحو الأهداف بنجاح أكبر. فالاعتراف بالأخطاء أو القصور ليس دليلاً على الفشل، بل هو بداية تصحيح المسار، وهو ما يستدعي تقييماً صادقاً وموضوعياً للأوضاع، بعيداً عن التحيزات الشخصية أو الأوهام المسبقة. إن المرونة في التفكير هي التي تُمكّن الإنسان من التكيف مع التغيرات، وتفتح الباب أمام البحث عن حلول أكثر فعالية. الانفتاح على الآراء والأفكار الجديدة، حتى لو جاءت من خارج إطار اعتقاداتنا الراسخة، يعزز من قدرتنا على إيجاد حلول من زوايا مختلفة، ويوسع دائرة رؤيتنا للواقع.
في كثير من الأحيان، تأتي الحلول من منظور غير تقليدي، ومن خلال التفاعل مع وجهات نظر متنوعة.

abudafair@hotmail,com

 

آراء