في نقد رؤية الدكتور حيدر بدوي للجمهورية الثانية (4)
بابكر فيصل بابكر
24 November, 2011
24 November, 2011
boulkea@yahoo.com
نواصل في هذا الجزء من نقدنا لرؤية الدكتور حيدر للجمهورية الثانية تناول المكوَّن الإجتماعي للمؤتمر الوطني ومآلات برنامجه الذي قال عنه بدوي أنه برنامج (متجدِّد) وقلنا نحن انه (متبدِّد). ونتناول قبل ذلك جزئية وردت في حديث الدكتور بدوي عن الأحزاب الوطنية التي تحقق على يديها إستقلال السودان.
يقول بدوي عن الأحزاب الوطنية : (وهنا يجدر بي أن أركز على هذه النقطة لصالح الجيل الذي لم تتح له فرصة دراسة تاريخ السودان الحديث بصورة شافية. فالأحزاب الطائفية استلمت السلطة من الإنجليز بغير مقاومة تذكر، فهي لم تحاربهم، بل صانعتهم. فطرف منها صانع الانجليز ليضعنا تحت تاجهم. وطرف آخر صانع المصريين ليضعنا تحت تاجهم. وكان هؤلاء أيضاً مستعمرين. ومن هنا جاء مسمى الحكم الثنائي).
قد درج بعض أفراد النخبة على ترديد هذا القول البائخ عن "إستلام" السلطة من الإنجليز دون كفاح يذكر ضاربين عرض الحائط بكل التضحيات التي بذلتها الحركة الوطنية ورموزها ضد المستعمر. وهو قول يُراد به التقليل من شأن تلك الأحزاب وقياداتها الوطنية من جهة, وتبرير عجز النخب المساندة لأنظمة الحكم الشمولية عن إدارة شأن الوطن لأكثر من أربعة واربعين عاماً بعد الإستقلال هى عمر الحكومات العسكرية.
إنَّ الدارس للتاريخ – يا دكتور حيدر – يعلم إبتداءاً أنَّ القيادات الوطنية قدمت تضحيات كبيرة في السجون وفي الفصل من الوظيفة الحكومية وقطع الأرزاق وفي النفي خارج الوطن وفي الأرواح كذلك, وهى لم تصانع المستعمر جملة بل إنقسمت تجاهه إلى فريقين يرى أحدهما التعاون مع الإنجليز بوصفهم أصحاب القرار الحقيقي في الشان السوداني وبالتالي فإن التعاون معهم سيقود للإستقلال حتماً في خاتمة المطاف, بينما رأى الفريق الآخر في الكفاح المشترك بين الشعبين السوداني والمصري الخلاص من المستعمر الإنجليزي.
إنَّ التعميم المُخل الذي يطلقه الدكتور حيدر عن وضع السودان تحت تاج المصريين لا يليق بأستاذ جامعي دارس للتاريخ , فهل كان عبيد حاج الأمين وعلي عبد اللطيف يعملان على وضعنا تحت تاج المصريين وهما أبرز القيادات الوطنية التي رفعت شعار "الإتحاد" مع مصر والكفاح المشترك ضد الإنجليز؟ وهل وضعنا الأزهري تحت تاج المصريين وقد كان مفوَّضاً من قبل الشعب ليفعل ذلك ؟
قد إجتمعت الكثير من العوامل المحلية والإقليمية والدولية مؤدية إلى إستقلال السودان بالطريقة التي تم بها, وقد أظهرت القيادة الوطنية براعة سياسية كبيرة في إدارة قضية الإستقلال حتى أنجزته دون " شق أو طق" ومن ثم إستلمت نخب الفشل الأوتوقراطي من اقصى اليمين لأقصى اليسار إدارة الوطن لأكثر من أربعة عقود أوصلتنا إلى ما نحن فيه اليوم.
هل كان مطلوباً – يا دكتور حيدر- أن يموت مليون شهيد في مواجهة الإنجليز مثلما حدث في الجزائر حتى تقتنع أنت ومن يقول بقولك بإنَّ القيادة الوطنية قد قاومت المستعمر ؟ وهل كانت ضخامة عدد الشهداء والقتلى ستضمن صلاح الحكم بعد الإستقلال ؟ فها هى الجزائر بعد قرابة نصف قرن من خروج الفرنسيس تعاني من مشاكل ما بعد الإستعمار والتي أبرزها تسلط العسكر وحكم النخبة الفاسدة وتغييب الجماهير.
القضية إذاً ليست قضية أعداد شهداء او مصانعة مستعمر حمل عصاه ورحل منذ نصف قرن, القضية الأساسية هى أزمة حكم مرتبطة إرتباطاً مباشراً بتسلط نخب ترفع شعارات آيديولوجية و تستولي علي السلطة بالإنقلاب أو بقوة البندقية ومن ثم تفرض رؤيتها الأحادية مما يؤدي لخلق أزمات متلاحقة مثل التي يشهدها السودان حالياً.
أَّما فيما يلي حديثنا عن القوى الإجتماعية المكوِّنة للمؤتمر الوطني فمن المعلوم أنَّ الحركة الأسلامية السودانية طرحت نفسها في أطوار تخلقها المختلفة ( الأخوان المسلمين , جبهة الميثاق الأسلامي, الجبهة القومية الإسلامية, وأخيراً المؤتمرين الوطني والشعبي ) كحلقة من حلقات التجديد الإسلامي و كدعوة تجسِّد ظاهرة الإنتقال من مجتمع الجمود والعشائر والطوائف والتخّلف الى مجتمع الحياة والتحديث والتقدم.
وكثيراً ما سعت الحركة الإسلامية للتميُّز عن الأحزاب الوطنية الكبيرة بدمغها بصفة الطائفية, وبوصف قيادتها بالجمود و جماهيرها بالتبعية العمياء للبيوتات الدينية التقليدية.
و لكن من الواضح أنَّ إختبار السلطة – وهو المحك الأساسي للأفكار والبرامج - قد فضح إدعاءات الحركة التي عملت على التشبث بكراسي الحكم متوسلة بالقبيلة والعشيرة والطريقة الصوفية و إبتدعت في ذلك التوجه بدعاً غير مسبوقة في تاريخ السياسة السودانية الحديث. حيث بتنا نرى قيادة المؤتمر الوطني تحتفي و تتباهى بإنضمام "القبيلة الفلانية" لصفوف حزبها, وبمبايعة " القبيلة العلانية" لبرنامجها, فهل يصح بعد هذا – يا دكتور حيدر – أن تصِفْ المؤتمر الوطني بحزب القوى الجديدة ؟
قد أصبح سؤال "القبيلة" حاضراً في السياسة والمجتمع في ظل حكم المؤتمر الوطني كما لم يحضر من قبل, فمن المسئول عن ذلك يا دكتور حيدر ؟ هل هى المعارضة التي أدمنتم الهجوم عليها بسببٍ وبغير سبب ؟ لقد حطم المؤتمر الوطني الأحزاب الكبيرة التي إحتوت القبائل والطوائف, وكانت تسير في الإتجاه الصحيح للتاريخ الذي يصهر هذه الكيانات في المؤسسة المدنية الأرقى "الحزب" مما أحدث هذه الرِّدة الإجتماعية التي مزقت الوطن, وتهدِّد بتفتيته بصورة أكبر.
قد هبطت الإنقاذ على الحكم طارحة برنامجاً رسالياً يتوهم توحيد العالم الإسلامي من طنجة إلى جاكرتا, فإذا بها تنتهي إلى تقسيم البلد و تقتيته إلى كيانات قبلية متصارعة , فتأمل !
كنت قد كتبتُ من قبل معلقاً على قوائم مرشحي حزب المؤتمر الوطني في الإنتخابات الأخيرة أقول :
قد أكتظت قوائم مرشحي حزب المؤتمر الوطني بأبناء وأحفاد شيوخ القبائل وزعماء العشائر وأبناء البيوتات الدينية والأجتماعية الكبيرة. فها هو "احمد محمد المنصور العجب" في الدندر , و "موسي محمد علي مادبو" في الضعين , و "علي حسن التوم علي التوم" حفيد زعيم الكبابيش, و " احمد محمد الأمين ترك" ابن زعيم الهدندوة في أروما , وها هو " خالد محمد صديق طلحة" ابن زعيم البطاحين في أبودليق, و " محمود علي بيتاي" من بيت الدين الأشهر في شرق السودان, وكذلك " هجو عبد القادر" من بيت الهجواب الشهير في سنار, خلا عن الشيوخ والعمد والسلاطين من مثال " الشيخ موسي هلال" والسلطان " هاشم عثمان هاشم" والعمدة " بابكر حمزة ادم" وغيرهم.
هل هذه هى القوى الجديدة التي تبشرنا بها يا دكتور حيدر ؟
لا شك عندي على الإطلاق أنَّ الأحزاب الموصومة من قبل الدكتور حيدر بالطائفية تحتوي مجموعات أكبر وبما لا يقارن مع الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني من القوى المعروفة بالقوى الجديدة, والمحك الحقيقي الذي لا بديل عنهُ لإختبار ما نقول وما يقولون هو صناديق الإقتراع الحُرَّة في ظل النظام الديموقراطي, بعيداً عن الإستعلاء و الوصاية.
أمَّا فيما يخص برنامج المؤتمر الوطني (الإنقاذ) فلست في حاجة لتكرار مؤشرات الفشل التي تبدَّت في مستويات التعليم, والأميِّة, والصحة, وبوار شعار الإعتماد على الذات, والفساد, وتدهور الأخلاق وغيرها, ولكنني سأركز على طبيعة ونهج الحكم الذي تناسلت عنه كل هذه الإخفاقات. وقد رأيت أن أكتفي في توصيف هذا الفشل بحديث المفكر والقيادي الإسلامي التونسي راشد الغنوشي الذي قال في هذا الخصوص :
( للأسف، فشل التجربة السودانية أمرٌ واقع، وهل يُتوقع ممن فشل في إدارة الحوار في صلب جماعته، أن ينجح في التوافق مع جماعات طالما أعلن عليها الجهاد؛ ولم يدخر وسعاً في التعبئة ضدها وتضليلها وتخوينها والحلف جهاراً نهاراً أمام الملأ أنه لن يعيد تلك الأحزاب الطائفية!؟ هل يتوقع ممن أسس مشروعه على استبعاد الآخرين والانفراد بالسلطة ونظّر لذلك ورتب عليه أمره أن يتراجع عن ذلك ويتحول إلى ديمقراطي يحترم حقوق الآخر ويفي بما يعاهد عليه ).
ثم يدلف الغنوشي لجوهر المشكلة وأساسها ويقول إنَّ المشروع الإسلامي في السودان ما هو الا :
( امتدادٌ لعجز أصيل في تاريخنا السياسي، العجز عن إدارة الاختلاف سلمياً والمسارعة إلى سيف الحَجَّاج، أو أدوات الدولة العنفية والإقصائية لإقصاء الآخر، ولم تشذ تجارب الحكم في بلاد العرب - خصوصاً - على اختلاف إيديولوجياتها من ليبرالية واشتراكية وإسلامية عن هذا النهج بما يؤكد استمرار فعل التاريخ فينا جميعاً بالمسارعة إلى نقل الاختلاف من مستواه السياسي - وكل منازعاتنا الكبرى كانت خلفياتها سياسية تنازعاً على السلطة - إلى ضرب من ضروب تكفير الآخر، فإذا كانت الثقافة الدينية هي السائدة فالمخالف ضال أو مبتدع أو كافر أو خارجي أو صاحب فتنة وإذا كانت الثقافة السائدة ثقافة وطنية فهو خائن للوطن، وإذا سادت الثقافة التقدمية فهو رجعي عميل للإمبريالية، وكلها ضروب من التكفير تهرباً من مواجهة الحقيقة التي تقول إن اختلافنا حول السلطة ولكن ليس بأدوات سياسية سلمية تعترف بالتعدد وبحقوق في الوطن متساوية وفي حق المشاركة في السلطة ). إنتهى
إنَّ دور المثقف الحقيقي الذي يحتاجه السودان اليوم – يا دكتور حيدر- هو الوقوف في وجه السلطة الشمولية وعدم مهادنتها والتزلف لها, والنأي عن الإلتفاف على مطلب سيادة الحكم الديموقراطي بمطالب لا جدوى منها من قبيل توحيد أحزاب متسلطة كشفت تجربة الحكم عجزها وإفلاسها وفشل برامجها.
//////////////////